جمال العربية

جمال العربية

صوت موريتاني جَسور.. مُباركة بنت البَرَاء

لم أكن أدري حين التقيت بها في لبنان منذ عدة سنوات, في مناسبة دورة الأخطل الصغير - التي أقامتها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري -أني سأتعرف من خلالها على شاعرة موريتانية متميزة: وعيًا وحساسية واستشرافا للأفق الإبداعي العربي. كان اللقاء من حول البرنامج الذي قدمته من خلال إذاعة لندن العربية لعدة سنوات, ومازالت حلقاته تعاد حتى الآن, بعد أن أصبح سجلا حافلا بأهم الشخصيات والرموز الفكرية والإبداعية والأدبية والفنية على مستوى العالم العربي كله. وأتيح لحلقة (مباركة بنت البراء) أن تعاد عدة مرات, فعرفتها الجماهير الواسعة, ووجدتْ فيها النموذج الجميل لشاعرة تتكئ على موروثها الشعري, وتحقق حداثتها الإبداعية المغايرة, وتخطو خطواتها الواعدة في ثقة وانطلاق.

وحين رجعت إلى (معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين) وجدته يقول عن (مباركة) إنها ولدت في (المذرذرة) عام 1956, تلقت دروسها الأولى في المحْظرة, ثم التحقت بسلك التعليم النظامي وحصلت على شهادة بكالوريا التعليم الثانوي بامتياز عام 1979, ثم شهادة (المتريز) في الآداب من المدرسة العليا للأساتذة عام1983 بميزة حسن, ثم شهادة البحث المعمق من جامعة محمد الخامس بالرباط 1987 بميزة حسن (أي بتقدير جيد) وأنجزت رسالتها للدكتوراه.

وقد درّست في الجامعة من 1987 إلى 1990, وتعمل مستشارة بوزارة التنمية الريفية والبيئة.

أصدرت ديوانا شعريا عنوانه (أغنية لبلادي) عام 1991 ثم أصدرت (أحلام أميرة الفقراء) عام 1998.

ومن مؤلفاتها: البناء المسرحي عند توفيق الحكيم, ومنهجية البحث عند عبدالله كنون وعباس الجراري.

وقد حصلت مباركة بنت البراء على جائزة وزارة الثقافة الموريتانية لأحسن قصيدة, وشهادة تقدير عن أجود قصيدة في مهرجان الأغنية البديلة عام 1989, وكتب النقاد عددا من الدراسات حول شعرها وكتاباتها القصصية, كما أصبح شعرها موضوعا للدراسة في عدد من الأطروحات الجامعية.

وحرصا على أن يكون شعرها متاحا لقارئ (العربي), وجدت من الأفضل البدء بنماذج من إبداعها, تُفصح عن لغتها, وعالم اهتماماتها, وروحها المتوهجة بنبض وجودي عارم, وإرادة صلبة لا تلين. تقول مباركة في قصيدة عنوانها: (من مذكرات مُسْفر):

ضُمّي إليكِ حبيبًا هدّهُ الزمنُ حلّت به محنٌ ما مثْلها محنُ
ضُمّيه إن به شوقا إليك, به توقا إليك له بوح, له شجنُ
ضُميه, إن الرمال السّمر تعرفُه ويذرف الدمع منها السهل والحَزَنُ
رحماكِ يا أرضُ, لا شيء ألوذ به إلاك, لم يبْق لي سرٌ ولا عَلنُ
لم يبْق إلاكِ ما أرجوهُ, معذرة إذا أتيت, وقد جافاني الوَسنُ
أين النخيل, وصمغٌ كنت أعلكهُ? وأين حيِّي, أحلوا اليوم أم ظعنوا?
الصمغُ لازال ثرًّا في منابته والنخل أعرفه إني به الفَطِنُ
لأسمع الشيخ في ترتيل أدعية لآنس النار ضاقت حولها الدُّجُن
حُدا الرعاة بإبْْل الحيّ سائمة وِرْد السّوام, وقد عجّت بها الوطنُ
حبيبتي الأرض إني لم أَزلْ دِنفًا رغم البعاد, وحبّي فيك مُرتهنُ
كلّ الطعام بحلْقي علقم نزِقٌ كلّ الشرابِ بحلقي آجنٌ أسن
إن الجراح بجسمي غيرُ غاليةِ لكنْ جسمك لن يذوي به غُصنُ
بنيْت عُمريَ جهلاً خلف أشرعةٍ في لجّة الموت لم تثبت بها سُفنُ
يلهو بها الموج ربّانا وأقبيةً في كلّ زاوية من دجلها فتنُ!

وتقول مباركة بنت البراء في قصيدة ثانية عنوانها: (إلى خيمة عربية):

لبلادي حُبّي, ووردُ خُدودي لبلادي أنشودتي وقصيدي
لبلادي صوتي الحزينُ مضاه حملات الأيام والتنكيد
كل شبرٍ به سجّدتُ زمانًا وتلظيتُ في صلاة الخلودِ
كلما اغبّر قاتم واستبدت عاصفات الغبار زاد نشيدي
لا أبالي الأيام كم شنقتني فوق أرضي, كم أمعنت في صُدودي!
يا رمالي ويا بقايا نجيعي أو تنسيْن موثقاتِ العهودِ?
أو تنسين طفلة تركوها حينما داهموا عرين الأسود?
سلبوا من بياض عيني سوادًا عطّلوني, فلا عقودٌ بجيدي
أطفأوا جذوة الشباب بوجهي قطّعوني بين الكلاب السّودِ
تهمتي موطن أليف, وقوم صُبرٌ, فاستبحت حال السّجود
غُرْبتي غربةُ العرار,وشوقي دمويٌ إلى رُفاتِ الجدودِ
أتنَاسوا بأنْ لي زند قرْمٍ يزرع النجم في رحاب الوجودِ
أنا إعصار غضبةٍ يتنزّى كلّ حينٍ بألْفِ ألفِ ولودِ
بقرون تفيء عصر امتدادٍ يعربيْ البذار والتسميدِ
كلّ جرحٍ بداخلي أرفدتّهُ من بلادي دماء كلّ شهيد
كل جرح يشتدّ أبلق خيْلٍ مشرئبا كالعارض الجلمودِ
راهب أنت, والحمى مستباحٌ ناسك أنت في زمان حقودِ
فارس الأمنيات أنت نجيّي في تباريح عصري المفقودِ
في نجيع روّى سلالم بيتي في شظايا كتمتها بنهودي
في صباحاتٍ أمةٍ أرهقوها ساوموها القرآنَ بالتلمودِ!
قادمًا كالردى أراك, ونزْفٌ قُدسيٌّ, يدكّ صخْرَ السدودِ
كيف سويته وجئت من الجرح صهيلاً, ينمو بكلّ صعيدِ?
قدرًا, جئت عارضًا سيف عمرو! لُجُم الخيل! صاعقات الرعود!
هي ذي الأرض موعدي فتقدم هي ملكي من طارفٍ وتليدِ
ضُمّني بالسيوف منك, وعمّدْ هذه الأرض, غطّها باللحود
فصقيعُ الشتاء عاث بجسمي وبرأس أحلام عصرٍ جليدي
ثوبيَ الليلكيْ لازال بكرا حالما فيك خادرًا بالوعودِ
من جيوب البنادق الحمر يُغريكَ إذا عاث في ثنايا الوريد
ساوموني عليه, كم ساوموني أوعدوني بالنفى, بالتشريد
حين كلّ القواقع الجوف تطفو مثقلاتٍ بمرهقات البنودِ
لا حروفي منها, ولا أنا منها فحروفي مطرودة لطريدِ
إنّ صمت القصيد أبلغ جُرحًا حين لا سمع مُنصتٌ للقصيد!

وفي قصيدة ثالثة عنوانها (مواطنون من العالم الثالث) تكشف مباركة عن عمق ثوريتها. وحدة اشتعالها, ورفضها للواقع المتخلف الغارق في المذلة، والمهانة, تقول مباركة بنت البراء:

مواطنون كلُّنا, لكننا بلا وطن!
ممتهنون كلنا, لكننا بلا مهن!
محنّطون غارقون في توابيت الزمن!
وكلّما مرّت محن
كانت دماؤنا الثمن
ثم حمدْنا الله أنها أخفُّ من محن!

***

نحن أناس طيبون, وادعون, مُبدعون
نُرتّل القرآن في الصباح والمساء
ونحرق البخور خوف السحر والنساء
وإن دجا الليل نكون أجسَر البشر
وتنتشي أجسامنا بالحب والخدَرْ
ونُطلق الدموع والآهات في السّحرْ
نرقصُ كالغجر
حتى إذا مرّ السّحر
نبتلع الدموع جمرًا
نضربُ العِبرْ
وحين يبسم الصباح
إذا بنا مبتسمون!

***

صبّحنا الله بخيرْ
يا مالك المُلْكِ ويا ربّ الأنام
لتقنا شرّ الكلام والأنام والهوام
وافتح علينا الرزق في مستقبل الأيام
يا ربّنا يا فالق الإصباح
يسّرْ لنا الرزق المُباحْ!

***

لقد رضوا عنا
فلن نأكل في الشتاء إلا الريحَ
لن نلبسَ في الشتاءِ إلا السّقْم
لن نصطلي النار ولن نُوقدها
لكنّ ذا القصْرَ العظيم
راضٍ علينا جلّنا
فلْنعصر الباقي من دمائنا
نربط كلّ نابضٍ في جسمنا
نصوم عن كلّ الشرابِ والطعام
لأننا نتابعُ الإمام!

في ختام القصيدة تقول مباركة:

ونحن شعب طيب يُقدّس الكلام
كنا نحجّ للقبور كلّ عام
ثم نقول:
إلهنا احفظ علينا أهلنا
وعُمرنا حتى الرواحْ
ثم نقول في الرواح:
إلهنا
احفظ علينا أهلنا وعُمْرنا
حتى الصباح!

شعر مباركة بنت البراء هو شعر البساطة العميقة, لا تكلف فيه, ولا معاظلة, ولا ادّعاء, شعر يُحاكي بساطة الحياة مُزنّرا بمفرداتها وصورها ومواقفها, سرعان ما يشتبك وينعقد ويُولّد جدلا مُسلّحا بالسخرية وروح الفكاهة المريرة. ومباركة تبدأ من تقاليد الشعر العمودي الذي لا يخلو منه صدر أحدٍ في موريتانيا, منذ كانت (شنقيط) أو (شنجيط) كما ينطقها البعض, هي عاصمة موريتانيا في الزمن العربي الإسلامي القديم, وعاصمة من العواصم الثقافية التي يقصدها طلاب العلم, وقراء المخطوطات, والباحثون عن المعرفة في مصادرها الأصلية. ولأن شنقيط كانت معبرًا للقوافل, وجسرًا يربط بين تخوم العالم العربي في شمال القارة الإفريقية والأقاليم الإسلامية في عمق القارة وفي شرقها, وغربها وجنوبها, فقد امتلأ الموروث الموريتاني من الثقافة العربية الإسلامية بألوان وعطور ومذاقات, انعكس كثير منها في شعر مباركة وشعر غيرها من الشعراء المعاصرين في موريتانيا, الذين خرجوا من عباءة هذا الموروث الشعري, واندفعوا - بكل الحدّة والجسارة - إلى قصيدة الشعر الجديد, قصيدة الحداثة, متمرّدين على كثير من التقاليد البالية والمعتقدات المرتبطة بالتخلف والخرافة وغيبوبة العقل, وتفشي روح الانهزام والتبعية. وكان لابد لهذا كله من شقّ أسداف التصوّف السلبي, والتصدّي لمشايخ الطرق الذين يروّجون للجهل والشعوذة, والعودة بالتصوّف إلى روحه الإيجابية الثورية, ومواقفه المؤازرة لحركة الإنسان في الحياة, واندفاعه وراء المجهول.

لقد أطلق كثير من الباحثين على موريتانيا (بلاد المليون شاعر) عندما وجدوا شعبا يناهز تعداده المليون, يتعاطى الشعر سليقة وتروج بضاعة لديه, وتنتشر فيه الثقافة العربية الإسلامية التي هي مرجعه في المعتقد والمثل والقيم كما يقول الدكتوران محمد بن عبدالحي ومحمد الحسن ولد المصطفى في تقديمهما لمختارات من الشعر الموريتاني ضمن مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين.

وفي شعر مباركة غنائية متدفقة, ودرامية قائمة على التقابل واعتماد التجريب في التعبير, وتأثر بالمعجم البدوي مع التخلي عنه من أجل لغة أكثر ألفة وعصرية وبساطة, واغتناء بالرموز المحلية والعربية والإسلامية والإنسانية. ولم تحلّ هذه الغنائية الجيّاشة في شعرها, ولا هذه الومضات الدرامية في ثنايا قصائدها, دون بروز الهم الوطني والقومي, أو التركيز على القضايا الاجتماعية والعاطفية التي تشغل اهتمام الجمهور في موريتانيا والعالم العربي, وربما بدت في بعض نماذجها - مثل قصيدتها (مواطنون من العالم الثالث) - متأثرة بقصيدة نزار قباني الشهيرة (خبز وحشيش وقمر), لكنه التأثر الذي لا يجعلها تغير جلدها, أو تنسلخ بعيدًا عن واقعها, وعن لغتها وعالمها من الصور والإيحاءات والتجليات.

مباركة بنت البراء صوت متميز جسور يعلن عن حضور المرأة الموريتانية, والشاعرة الموريتانية, حضورًا دالاً في مسيرة الوطن العربي والشعر العربي معًا.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات