اكتئاب الصفوة...!!

اكتئاب الصفوة...!!

عندما اخترت هذا العنوان لأول مقال, أعود به إلى مجلتي الأثيرة (العربي) بعد انقطاع استمر أكثر من عشر سنوات, ساءلت نفسي: لماذا هذا العنوان الكئيب بعد هذا الغياب الطويل?

بعد فترة تفكير, أدركت أن اختيار الموضوع, واختيار العنوان, لا يعود لاعتبارات عقلية ومنطقية فحسب, ولكنه يرجع إلى اعتبارات نفسية ومجتمعية توشك أن تحيط بنا جميعًا, وتأخذنا أخذًا إلى ضباب ثقيل يجثم على النفوس والعقول, ويرهقها إرهاقًا شديدًا.

انظر حيث شئت في أرجاء الوطن العربي, ثم ارجع البصر كرّتين, فماذا أنت واجد? ترى هل سترى شيئًا يسر, خاصة إذا كنت من أولئك الذين يحملون هموم الأمة, ويشعرون بوقر المسئولية نحوها, ونحو مصيرها, أي بعبارة أخرى إذا كنت من صفوة هذه الأمة?

ما أظن إلا أن البصر سيرتد إليك خاسئًا وهو حسير.

وما أظن إلا أن حزنك سيزداد, خاصة إذا مددت البصر إلى ما وراء حدود الوطن, ورأيت الناس هناك على التخوم القريبة والبعيدة ماذا يفعلون. وقارنت بين حالهم, وما نحن عليه من حال. ثم تساءلت: لماذا هم حيث هم, ونحن حيث نوجد في هذا الهوان والضياع?

أنا أعلم أن هناك مَن سيقول لماذا هذا التشاؤم وهذه النظرة السوداء, ونحن - والحمد لله - نملك من الثروات فوق سطح الأرض وفي باطنها الخير العميم.

وأنا لست متشائمًا بطبعي, ولا أحب أن أكون, ولكني مع ذلك أحب أن أرى الأمور بمنظار الواقع وليس بعين الخيال.

مأساة الناتج القومي

هل يعلم أبناء هذه الأمة أن ثروتهم جميعًا في كل أقطارهم من المحيط إلى الخليج, وأن ناتجهم القومي في بلدانهم الاثنين والعشرين تقل عن الناتج القومي في بلد أوربي واحد, ليس هو أغنى البلاد الأوربية, ولا أكثرها ثراء, بل قد يكون أقلها في هذا الباب, وأعني بذلك إسبانيا أو إيطاليا, وهما من بلاد الجنوب التي تعتبر متخلفة نسبيًا, إذا قورنتا بألمانيا أو بفرنسا مثلاً.

هل يعلم هذه الحقيقة المرّة الكثيرون من المواطنين العرب? خاصة أولئك الذين يتصوّرون أن نفطهم يحقق لأصحابه ثراء ليس مثله ثراء, وهم في ذلك جد واهمين.

ومع ذلك, فإن ذلك ليس هو مصدرالاكتئاب, فكم من دول فقيرة لا يحس أهلها بمثل ذلك الإحساس المرير.

إذن, لماذا تعيش النخبة العربية هذا الهم? ولماذا لا يجد أفرادها عندما يلتقون إلا أحاديث المرارة? بل وأوشك أن أقول إلا أحاديث اليأس والقنوط.

أعتقد أن أحد المصادر الأساسية لذلك الشعور عند النخبة العربية, هو إدراكها لمدى الضعف, الذي وصل إليه الوضع العربي في جملته, ومدى الاستهانة التي ينظر بها إلينا العالم حتى أن أمورنا يقررها غيرنا, وحتى أن منطقتنا يخطط لها في غير حضورها, ومازلنا بعد أكثر من ثمانين عامًا على (سايكس - بيكو), وكأننا لم نتحرك, ولم نفق, بالرغم من كل المظاهر الخارجية الخادعة, والتي قد توحي لغير المتعمّق بغير حقائق التخلف.

وبغير بكاء على الأطلال, لماذا تقدم المتقدمون? ولماذا يتخلف غيرهم?

ليس في المسألة سحر ولا ألغاز.
للتقدم أسباب وللتخلف أسباب.
والأخذ بأسباب التقدم, لابد أن يقود إليه, وعدم الأخذ بهذه الأسباب لابد أن يبقي المتخلفين على تخلفهم.

أسباب التقدم

ولابد أن يكون واضحًا هنا وقبل الاستطراد في معرفة الأسباب, أن الوطن العربي ليس كله على حال واحد, وإن كانت السمات الغالبة موجودة في كل أنحائه, ولابد أن نعترف أن هناك تعرجات هنا وانحناءات هناك. وأن هناك محاولات في هذا القطر وإحباطات في قطر آخر, وإن كان النسيج الغالب واحدًا أو متقاربًا في سائر الأنحاء. وهو نسيج في جملته لا يرقى إلى ما نصبو إليه أو نريده. وأوشك أن أقول, بل وما تستحقه هذه الأمة أيضًا, ليس بحسبانها من أمم الحضارة, حتى ولو كانت حضارة غابرة.

والآن ما أسباب التقدم تلك التي لم نأخذ بها على النحو الذي ينبغي أن يكون, والتي أدت بنا إلى هذا الذي نراه ولا نرضاه?

ولا أريد تبسيط الموضوع بأكثر مما يحتمل, ولكني أعتقد أن أسباب التقدم كما يرصدها الدارسون, هي على الأرجح سببان:

الأول: هو الأخذ بالأسلوب العلمي في الحياة, بعبارة أخرى أن يكون هناك منهج علمي نسير عليه, ولا تترك الأمور للعشوائية والقدرية. وأهم مظاهر الأسلوب العلمي هو الإيمان بجدوى البحث العلمي في هذا الزمن, الذي يميّز تمييزًا واضحًا بين مَن يعلمون ومن لا يعلمون. وألا نكتفي بترديد الآية الكريمة: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لا نكتفي بترديد هذه الآية الكريمة بألسنتنا, وأن نعمل جادين على تحقيق مضمونها.

تُرى ما نسبة الإنفاق على البحث العلمي إلى الدخل العام في أقطار الوطن العربي منفردة ومجتمعة. وماذا تقول مقارنة هذه النسبة في بلادنا وفي غيرنا من بلاد العالم, التي حققت التقدم, ومع ذلك مازالت تسعى إلى تحقيق مزيد من التقدم.

إن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في مجمل الأقطار العربية - الغنية منها والفقيرة - هي من أكثر النسب تدنيًا في عالم اليوم.

والمقارنة بين ما ينفق على البحث العلمي في مصر - وهي أكبر دولة عربية وأقدمها في مجال البحث العلمي - وما ينفق في إسرائيل, تظهر كيف أن الصورة مخيفة, بل مفزعة لمن كان عنده قدر من الإحساس, وقدر من التطلع إلى المستقبل.

وليست المقارنة مع إسرائيل هي وحدها, التي تدعو إلى الفزع, ولكن قارن بين حالنا, وحال بلد مثل الهند تنوء بمشاكل لا قبل لبلد بها, ومع ذلك, فإن الهند هذه تنفق على البحث العلمي أضعاف ما ننفق, وتحقق من التقدم العلمي ما يفوق خيالنا على التحليق. هل يتصوّر أحد أن الهند - البلد الذي يغرق في المشاكل من كل نوع - تصدر بمليارات الدولارات أنواعًا من البرمجيات, ومن التكنولوجيا الحديثة?

حتى سنغافورة, تلك الجزيرة, التي ظهرت على خارطة العالم أخيرًا, أصبحت معجزة من المعجزات, التي يتحدث عنها العالم في كل مجال من خدمة المطارات, إلى بناء السفن, إلى التقدم العلمي في كل مجال.

إذا نظر المواطن العربي المهموم بأمور وطنه إلى ذلك كله ألا يصاب بالهم والغم والاكتئاب, خاصة إذا كان ليس بيده من أمر تقرير المصير شيء, لأن تقرير المصير في بلادنا ليس في أيدي الصفوة من علماء أو من أهل الفكر, وإنما هو في أيدي فئة أخرى من الناس, وهذا بدوره مصدر ثان من مصادر الاكتئاب.

غياب الدولة

إذا كان المنهج العلمي في الحياة, وإذا كان البحث العلمي هو السبب الأول من أسباب ارتقاء الأمم والشعوب, فإن سببًا آخر - بغير ترتيب - هو غياب دولة المؤسسات وسيادة القانون والديمقراطية, وحقوق الإنسان, وتداول السلطة في الأغلب الأعم من بلاد الوطن العربي.

مازالت بلادنا تعيش حكم الفرد, ملكًا كان أو أميرًا أو رئيسًا, كلهم سواء, كلهم يعيشون في عصر لويس الرابع عشر, الذي كان يقول (أنا الدولة). كلهم أو قل جلّهم - يتصوّرون أن الدولة دولتهم, وأن الأمر أمرهم, وأن الناس رعاياهم. فكرة المواطنة, وفكرة المؤسسة مازالت غريبة على أغلبهم. وهم - وإن كانوا لا يعلنون ذلك, إلا أنهم يمارسونه عملاً. إن (الجمهوريات) في بلادنا تحوّلت إلى (جمهوريات ملكية). هل سمع أحد من أهل الأرض بأنه في الجمهوريات يبقى الحاكم إلى أن يلقى ربه مهما طال بقاؤه, وأنه بعد أن ينتقل إلى رحمة الله, يحرص على أن ينتقل (الملك) إلى ابنه من بعده. هل هذه نظم جمهورية وهل هذه نظم لا تؤدي إلى الهم والغم والاكتئاب?

إن بلادنا - أو قل إن نظمنا - تقاوم الإصلاح, وكأنه نوع من (الإيدز) والعياذ بالله. ويختلقون كل الدعاوى, ويتفنون في كل الحجج لكي يحولوا دون حدوث إصلاح حقيقي ينقل السلطة إلى أصحاب السلطة الحقيقيين, وهم الشعوب, وإنهم (يستقتلون) حتى لا يحدث تداول للسلطة, وحتى تظل السلطة - ومن ثم الثروة - في أيديهم إلى الأبد.

أليس هذا هو الحادث في الغالبية الكبرى من أقطارنا?

أنا واثق, أن الرياح عاتية, وأنها ستقتلع كل من يقف أمامها, ولكن لماذا نُلجئ أنفسنا إلى ذلك? ولماذا لا نفتح أبواب التغير السلمي للديمقراطية, ونسير في طريق التقدم الطبيعي الهادئ كما سارت من قبلنا أقوام كثيرة?

ألا يحق للصفوة في بلادنا, وهي ترى هذا الذي نراه, وتدرك هذا الذي ندركه, أن تشعر بالهم والاكتئاب? أظن ذلك هو أقل ما نشعر به, ونحن نعيش هذه الظروف العجاف.

إنني أقول دائمًا إن للتقدم قدمين: المنهج العلمي في الحياة, وسيادة القانون, وما يترتب على ذلك من احترام حقوق الإنسان, وتداول السلطة وسيادة الشعوب.

هذان هما القدمان اللتان سارت عليهما شعوب غيرنا, وحققت التقدم, وأخذت مكانها, الذي تستحقه بين المتقدمين.

ومازلنا في الغالبية من أقطارنا نفتقد هاتين القدمين, أو نسير كما يسير الأعرج, ونحاول جهد الطاقة أن نبتعد عن العلاج حتى تأتي الرياح العاتية لتقتلع أمامها كل شيء.

ومع ذلك, فإني لا أريد أن أفقد الأمل, فهناك بعض البؤر في بعض أوطاننا - وإن كانت قليلة - تهتم اهتمامًا حقيقيًا بالبحث العلمي. وهناك بعض المجالس النيابية - وإن كانت نادرة - أجبرت بعض الوزراء على الاستقالة, وقدمت فيها استجوابات هزّت السلطة التنفيذية, وأجبرتها على قدر من الاستقامة. وهذا الشعاع يعطي بريقًا من الأمل علينا أن نتمسك به, وعلينا أن نزكّيه ونقوّيه, وعلينا أن نحاول أن ننتقل به من حيث هو إلى أقطار أخرى من أقطار الوطن العربي.

مَن يدري? لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

يحيى الجمل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات