من رواد النهضة النسائية باحثة البادية: ملك حفني ناصف محمد سيد بركة

يا آية العصر حقيق بنا

تخليد ذكراك على الدهر

جاهدت لكن النجاح الذي

أدركته أغلى من النصر

بدت تباشير الحياة التي

جدت فحيي طلعة الفجر

يا من ذوت في زهرة العمر

ما أقسى الردى في زهرة العمر

ذلك دين لك في عنقنا

قضاؤه ضرب من البر

بهذه الأبيات رثى الشاعر خليل مطران باحثة البادية . فما قصة تلك المرأة التي كرست حياتها القصيرة العريضة للدعوة إلى نهضة المرأة العربية وتعليمها في بداية القرن العشرين ؟

باحثة البادية " ملك حفني ناصف " رائدة من الرواد الذين حجب فكرهم معن الناس عدم اهتمام الدارسين بهم . فقد توفيت في ريعان الشباب وكأنها ومضة عن عمر لا يتجاوز الثانية والثلاثين .

ولدت ملك في حي الجمالية بالقاهرة في 25 من ديسمبر عام 1886م ونالت الشهادة الإبتدائية عام 1900 م فكانت أول فتاة تنال هذه الشهادة العامة ، أي الأولى على أول دفعة بنات تنالها .

كما نجحت في دبلوم المعلمات السنية عام 1903م ، وتسلمت الشهادة بعد فترة التمرين عام 1905م وتوفيت في 17 من أكتوبر عام 1918 .

نشأت ملك في كنف أب - " حفني ناصف " - كان من تلاميذ جمال الدين الأفغاني ومن أصدقاء الشيخ محمد عبده ، وقد عاصرته وهو يشتغل بالقضاء وبالتعليم وبالاستزادة من العلم في مصر والخارج وبممارسة الإصلاح ومقاومة الفساد والطغيان ، فتشبعت بروحه واتخذته مثلا أعلى. كما كانت قراءاتها تشحذ همتها ، لأن هذه القراءات كانت عربية إسلامية في إطار من التمدن الغربي . وشغفت " ملك " بشعر المراثي عامة ، وبشعر المتنبي بالنفس مما قوى شخصيتها ، فإذا هي تحس خصائصها العامة ، خصائص العربية المسلمة ، وخصائصها الخاصة - الأنثى المهضومة الحق - إحساسا قويا يدفعها دفعا إلى أن تقتحم ميدان الدعوة إلى رقي المرأة ونهضتها .

جهادها الباكر

بدأت " ملك " جهادها مبكرا ، فكانت تتولى منذ صغرها الكثير من شئون البيت وشئون رعاية إخوتها ، حيث أقعد المرض والدتها ، وكانت هي الكبرى ، فكانت تكرس إجازاتها الصيفية لإعادة تنظيم البيت وتجديد كل ما يلزمه من مخيطات المفروشات وإكمال ما ينقص من أدوات وإعداد ملابس العام لوالديها وإخوتها . كما كانت تحبو صديقاتها بخالص الود والنصح تعطي لهن الكثير مما ييسر عيشهن ومن يعلن ، ولا سيما في المواسم كبدء السنة الدراسية وحلول الشتاء والأعياد وفي المناسبات الخاصة كالسفر والزواج والوفاة ..

كما كانت تؤم بيوت صاحباتها ومعارفها وما تزال بهن حتى يرسلن بناتهن إلى المدرسة على أن ترعى هي بنفسها أولئك الصغيرات رعاية خاصة ..

ولما نجحت في الشهادات الدراسية وعملت معلمة ونظمت في صغرها شعار نشرته الجرائد ، تشجع الآباء والأمهات وأقبلت البنات على التعليم .

وعندما أذيع إحياء مشروع الجامعة المصرية كانت " ملك " الآنسة الوحيدة التي ألفت لجنة وجمعت قدرا من المال ذكر على وجه التحديد في التقرير الأول الذي رفع إلى رئيس الجامعة ..

كما قامت " ملك " بتأسيس الجمعيات والاتحادات النسائية ، فقامت بتأسيس " اتحاد النساء التهذيبي " وجمعية للتمريض على غرار الصليب الأحمر كانت النواة لتأسيس الهلال الأحمر بعد ذلك بقليل ، فكانت تلك الجمعية تقوم بإرسال الأدوية والأغطية والملابس والأغذية إلى الجهات المنكوبة بمصر والبلاد العربية كلما دعت الحاجة .

كما أنشأت في بيتها مدرسة لتعليم السيدات التمريض ووضعت برنامجا لمشغل للفتيات وملجأ للمعوزات وكانت تنوي وقف خمسة وثلاثين فدانا بالفيوم - ملكها الخاص - للمشغل والملجأ ولكن القدر لم يمهلها لتأسيس المشغل والملجأ .

عندما تزوجت " ملك " وانتقلت إلى قصر الباسل ببادية الفيوم ألفت الأعراب يعيشون في حالة بدائية لا يعرفون العلم ولا النظافة ولا الصحة ولا الإنسانية إلا بالسماع ، ووجدت ساداتهم وكبراءهم - وكانوا من أرباع المتعلمين - ينعمون بجهل أولئك وإملاقهم وتأخرهم ، فعمدت " ملك " بعد جهود مضنية إلى إرسال بنيهم وبناتهم إلى بعض المدارس في الفيوم والقاهرة واعتنت بصحتهم وملبسهم وتغذيتهم ورفع مستواهم بما كنت تقوم به شخصيا دون عون ، ويعلم من شهدوا تلك البيئة - قبل زواج " ملك " وفي أخريات حياتها هناك - أنها استطاعت بعد أحد عشر عاما ونصف عام - قضتها هناك بين الزواج والموت - أن تقلب هذه البقعة إلى منطقة من أكثر مناطق الريف مدنية على حد قول الشاعر حافظ إبراهيم في رثائه لها :

سادت على أهل القصور

وسودت أهل الوبر

وقال الدكتور منصور فهمي : " كانت ترسم خطوط الإصلاح وهي متسمة بميسمها الشرقي والمصري والإسلامي ، وتعتز بكثير من مقومات مصر والشرق والإسلام مادامت تلك المقومات لا تجافي الطبع السليم في شيء ، فمن أجل ذلك كله كانت صلتها وثيقة بالميدان الذي تعمل فيه ، ومن ثم كان لصوتها صدى مسموع وكان توجيهها مطاعا مقبولا ..

أما " تشارلز آدامز " في كتابه " الإسلام والتجديد في مصر " فيقول عنها " أؤكد لك أنها سارت على نهج الإمام الشيخ محمد عبده في التوفيق بين المدنية الغربية والعلم الغربي وبين الحياة الاجتماعية والدينية والأدبية في مصر ".

شعرها ووطنيتها

أشار سائر كتاب وشعراء عصرها إلى مقدرتها في قرض الشعر ، ساعدها عل ذلك مداومتها على حفظ شعر المتنبي والبارودي والبحتري وشوقي وحافظ وغيرهم من الشعراء القدامي والمحدثين . يقول عنها حافظ إبراهيم :

لله درك إن نظمت

ودر حفني إن نثر

وعندما نشرت أول قصيدة لها في الجرائد كانت في الثالثة عشرة من عمرها وقد قالتها بمناسبة حصولها على الشهادة الإبتدائية تقول فيها

بشرى لمصر فقد نالت أمانيها

وأنجح الله بالحسنى مساعيها

فنالت الفخر والمجد اللذين هما

مشكاة نور به أبيضت لياليها

وتقول في قصيدتها " رأي في الحجاب ":

أيسوؤكم منا قيام نذيرة

تحمي حماكم من بلاء محدق

أيسركم أن يستمر بناتكم

رهن الإسار ورهن جهل مطبق

تنتقلون لمنتدى من قهوة

ونساؤكم في ألف باب مغلق

لا تدخلون الدور إلا برهة

تردونها لضرورة كالفندق

اليوم عرس باهظ نفقاته

وغدا تقام قضية لمطلق

ليس السفور مع الحجاب بضائر

وبدونه فرط التحجب لا يقي

وكانت في الأزمات الوطنية تلهب الشعور بشعرها . مثال ذلك قصيدتها لدى إحياء قانون المطبوعات سنة 1909 والتي تقول فيها :

يا أمة نثرت منظومها الغير

حتام صبر ونار الشر تستعر

ماذا تقولون في ضيم يراد بكم

حتى كأنكمو الأوتاد والحمر

ستسلبون غدا أغلى نفائسكم

حرية ضاع في تحصيلها العمر

كموا الصحافة حتى لا تشير بما

تملى على طرسها الآلام والضجر

إن الشكاة بخار جائش فإذا

سددت مرجله لا شك ينفجر

ولقد همت الحكومة إذ ذاك بمحاكمتها لدعوتها السافرة إلى الثورة ثم عدلت خوف إلهاب الشعور العام .

كما كانت " ملك " - رحمها الله - لا تنفك تسعى لرفعة شأن المرأة العربية وإعلاء ذكرها.

كما كانت " ملك " - رحمها الله - الرائدة الأولى في تعليم البنات ، كما كانت الرائدة الولى في رد اعتبار المرأة إليها وتحسين حال الأسرة ، وحسبها أنها وضعت الأسس المتينة لمتابعة البحث والإصلاح لمن لحق بها من المصلحين والمصلحات .

 

محمد سيد بركة