مأزق (التاريخ - العبء).. الصين القلقة تُحذِّر اليابان

مأزق (التاريخ - العبء).. الصين القلقة تُحذِّر اليابان

كتابة التاريخ تعيد إلى أذهان الشعوب الآسيوية القلقة, ذكريات مؤلمة من أيام الاحتلال والعسف...فهل تنجو الذاكرة من هذا التاريخ, الذي يعد عبئًا ثقيلاً على الجميع?

تعيش الصين مأساة ذاكرة أليمة, بسبب (التاريخ العبء), الذي بدأ باحتلال اليابان لجزيرة تايوان في أواخر القرن التاسع عشر, ومن ثم لأجزاء واسعة من الصين خلال سنوات 1931-1945.

وإبان احتلالهم للصين, ارتكب الجيش الياباني مجازر كبيرة ضد الجيش والشعب الصيني, كانت أبرزها في مدينة نانجين, التي ذهب ضحيتها أكثر من 300 ألف صيني. وقد حرص الصينيون على إحياء الذكرى السنوية لتلك المجزرة الأليمة, بالرغم من محاولات الحكومة التخفيف من الخطب النارية ضد اليابان. ونظرًا لعدوان اليابان في الحرب العالمية الثانية, فرض عليها دستور سلمي يمنع دولة اليابان من التسلح أو التهديد باستخدام القوة كسبيل لتسوية النزاعات الدولية. وقد نص على أنه (لن تكون هناك حرب أبدًا في المستقبل).

بعد أن أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين الصين واليابان عام 1972, حرصت الدولتان على تعزيز الروابط بين الشعبين الصيني والياباني. إلا أن السنوات الأخيرة, شهدت تداخلاً واضحًا في الموقفين الشعبي والرسمي في الصين من خلال إحياء تلك الذكرى بسبب الكتاب المدرسي, الذي نشرته إحدى المؤسسات الثقافية الرسمية اليابانية. فقد حظي الكتاب بموافقة رئيس وزراء اليابان, وعدد كبير من وزرائها, في حين انتقده عدد كبير من المؤرخين اليابانيين, واعتبروه مسيئًا إلى تاريخ اليابان وثقافتها, وتراثها العقلاني, بقدر ما ينكأ جراح الشعب الصيني. وقد أتيحت لي الفرصة للمشاركة في نقاش منهجية هذا الكتاب المدرسي في أكثر من مناسبة ثقافية في اليابان, فكتابة تاريخ تلك الحقبة, التي شهدت صعود الإمبريالية العسكرية اليابانية, وأعمالها العدوانية والتوسعية ضد الصين وكوريا وجميع الدول المجاورة لهما, لا تخص الباحثين اليابانيين فقط. بل هي حقل دراسة لجميع المؤرخين والباحثين في أسباب صعود التيارات القومية والشوفينية, والنازية, والفاشية, والديكتاتورية, التي اجتاحت العالم بين الحربين العالميتين.

نبهت الصين وكوريا مرارًا إلى مخاطر كتابة تاريخ اليابان, إبان تلك الفترة دون إدانة الأعمال الإجرامية, التي قامت بها العسكرتاريا اليابانية في منطقة جنوب وشرق آسيا, فقد دانت ألمانيا تاريخها النازي, ودانت إيطاليا تاريخها الفاشي, ودانت إسبانيا تاريخها الديكتاتوري. ودان المؤرخون الروس تاريخ الحقبة الستالينية التي أودت بحياة أكثر من ثلاثة ملايين مناضل شيوعي في روسيا, بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المناضلين والمثقفين المناهضين للستالينية. إلا أن الدوائر الرسمية اليابانية مازالت تصر, وبعناد كبير, على تبرئة مجرمي الحرب الكبار من اليابانيين, ودأب رئيس وزراء اليابان على زيارة أضرحة (مجرمي الحرب من الفئة الأولى) في معبد ياسوكوني المقدس في طوكيو, فقدمت الحكومتان اليابانية والكورية الجنوبية مذكرات احتجاج عدة على تلك الزيارات من جهة, ونبهت إلى مخاطر الإفراج عن كتاب مدرسي شجب من غالبية مؤرخي اليابان, ورفضوا تدريس تاريخ اليابان على أساس ما جاء فيه. لكن مفاجأة هذا العام أنه خلال يومي 9و10 أبريل 2005, نزل أكثر من 30 ألف متظاهر صيني إلى شوارع بكين ومدن أخرى منددين باليابان, ودون مقدمات سابقة, عمت المظاهرات وشعارات العداء لليابان مختلف المدن الصينية, وهاجم المتظاهرون سفارة اليابان في بكين, وعددًا من القنصليات اليابانية في الصين.

انتشر العداء ليطول مقرات البعثات الثقافية والتجارية, والبنوك اليابانية, بالإضافة إلى مطاعم ومتاجر لليابانيين. وجرح طالبان يابانيان يدرسان في الصين, ودب الخوف في صفوف العمال والسياح اليابانيين. رفع المتظاهرون شعارات تطالب برفض دخول اليابان إلى عضوية مجلس الأمن. واستخدموا تعابير بذيئة ضد رئيس الوزراء كوتيزومي. ورفعوا لافتات ذات دلالة سياسية منها: (تحيا الصين والعار لليابان), و(قاطعوا السلع اليابانية), و(الشعب الصيني لن يحمي اليابانيين السفلة). وحملت وسائل الإعلام العالمية, أنباء مقلقة عن تلك المظاهرات, التي تحصل لأول مرة بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين اليابان والصين. وهي تذكر بمحاصرة الصينيين للسفارة الأمريكية في بكين عام 1999, بعد مقتل دبلوماسيين وموظفين صينيين في سفارة الصين في بلجراد أثناء حرب كوسوفا.

تحالفات وقلاقل

ليست مسألة الكتاب المدرسي وزيارات رئيس الوزراء, كوتيزومي, إلى معبد ياسوكوني سوى مظهر من مظاهر الفتور القائم الآن في العلاقات الصينية - اليابانية. ففي 27 ديسمبر 2004, اقترح وزير الخارجية الياباني, نوبوتاكا ماشيمورا, أن تضع بلاده والولايات المتحدة خطة ثلاثية لإعادة ترتيب القواعد الأمريكية في اليابان, على أن يشترك البلدان في صياغة المبادئ الأساسية لإعادة ترتيب أوضاعها بهدف التوصل إلى استراتيجية مشتركة. على أن يتم الإعلان عنها في ربيع العام 2005.

من المعروف أن القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان, تتمركز بشكل أساسي في منطقة كاناغاوا, حيث العدد الأكبر منها, ومقر قيادة الجيش والقوات البحرية الأمريكية في اليابان. وقد أثار هذا الاقتراح جدلاً واسعًا في الدوائر السياسية اليابانية حول مدى شرعية تلك الخطة في ظل معاهدة الأمن اليابانية - الأمريكية, التي تغطي عملياتها مناطق أخرى, تصل ضمنًا إلى منطقة الشرق الأوسط. ونددت المعارضة اليابانية بشرعية تلك الخطة, التي تجبر اليابان على تحمل أعباء عمليات عسكرية أمريكية تتجاوز نطاق معاهدة الأمن الموقعة بين البلدين. ونبه قادة المعارضة إلى أن الخطة الجديدة تسمح للولايات المتحدة, ليس فقط باستخدام الأراضي والمنشآت اليابانية للحفاظ على السلام والاستقرار في اليابان وجوارها, بل أيضًا لفرض السلام الأمريكي على كامل المنطقة الممتدة من الشرق الأقصى حتى الشرق الأوسط. ونتيجة التفاهم بين حكومتي اليابان والولايات المتحدة في 13 مايو 2005, تقرر وضع خطة عسكرية قتالية مشتركة, تهدف إلى التدخل العسكري السريع, في حال برز نزاع مسلح في مضيق تايوان وشبه الجزيرة الكورية.

وتتمحور سياسة اليابان الدفاعية في المرحلة الراهنة على امتلاك الحد الأدنى من القدرة الدفاعية الضرورية لصد الهجمات الأجنبية المحدودة, ومن أجل تحقيق هذه الغاية, ستمضي اليابان نحو تشكيل قوات خاصة للمهام الخارجية, وللمشاركة في الحرب العالمية على الإرهاب.

ولحماية نفسها من مخاطر الهجمات المتكررة للصواريخ الباليستية الكورية الشمالية, تعتزم اليابان إنفاق مليارات الدولارات الأمريكية للحصول على نظم صواريخ جديدة أميركية الصنع في نهاية عام 2005. وقد أكّد مسئولون في وزارة الدفاع اليابانية على أن من واجبهم البحث عن أفضل الوسائل والمخططات العسكرية لحماية المصالح الوطنية العليا لليابان في مواجهة التهديدات الحالية بصورة فاعلة. وأن على اليابان تنفيذ مسئوليات جديدة, ستنشأ بعد دخولها المرتقب إلى عضوية مجلس الأمن.

كما أن قوات الدفاع الذاتي اليابانية, قد تطورت بصورة كبيرة خلال السنوات الخمسين الماضية. وقد باتت قادرة على المشاركة في معارك عسكرية كبيرة. وأن الجنود اليابانيين, بالرغم من عددهم المتواضع جدًا, مدرّبون جيدًا, ومجهّزون بأسلحة عالية الجودة. ووصلت ميزانية الدفاع في اليابان, وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم, إلى ما يقرب من 4900 مليار ين ياباني, أي ما يعادل 44.5 مليار دولار أمريكي في عام 2004. وهي تعد بين أكبر موازنات الدفاع في العالم, بالقياس إلى مساحة اليابان وعدد سكانها.

وتعد اليابان قوانين, لتجعل قوات الدفاع الذاتي تلعب دورًا أكثر حرية واتساعًا. في الوقت نفسه, تتزايد الدعوة داخل البرلمان الياباني إلى تعديل دستور اليابان السلمي, الذي يمنع عليها التدخل في سباق التسلح. وأظهرت استطلاعات للرأي العام الياباني أجرتها وكالة أنباء كيودو الموثوقة طوال عام 2004 أن 84 في المائة من المشرعين اليابانيين, يريدون تعديل الدستور الذي يكبل سياسة اليابان العسكرية.

وفي 21 مارس 2005, صرح رئيس وزراء اليابان, كوتيزومي, بأن بلاده ستدخل نظامًا دفاعيًا صاروخيًا إلى جانب نشر قوات مناهضة للإرهاب من أجل الرد بشكل أفضل على التهديدات الجديدة, ومما جاء في خطابه: (نظرًا للتحديات الكبيرة التي نواجهها, كالإرهاب العالمي, والصواريخ البالستية, علينا أن نطوّر قدراتنا الدفاعية للرد بفاعلية على تلك التحديات). ورأى أن من واجب المسئولين في دولة ديمقراطية كاليابان أن يتمسكوا بروح الدفاع عن الديمقراطية.

وكشفت حركة الاحتجاج الواسعة, التي قام بها الشعب الصيني ضد اليابان, وبدعم ملحوظ من الدولة الصينية ضد الكتاب المدرسي, مع دعوة الصينيين إلى مقاطعة البضائع اليابانية, ورفض دخول اليابان إلى عضوية مجلس الأمن, عن عمق الأزمة في العلاقات الصينية - اليابانية في المرحلة الراهنة, ولعل أبرز أسبابها: مشكلة الكتاب المدرسي, وتأييد اليابان لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في دعم انفصال أو استقلال تايوان عن الصين. وهذه مسألة قومية حسّاسة, وتشكّل خطًا أحمر في السياسة الصينية. وقد تمنّعت الصين عن حضور مراسم تشييع البابا يوحنا بولس الثاني في روما بسبب مشاركة الرئيس التايواني, واستقباله كرئيس لدولة مستقلة.

هذا بالإضافة إلى تصريح لوزير الصناعة الياباني في 8 أبريل 2005, بأن اليابان, لن تعقد اتفاق شراكة مع الصين للتنقيب عن الغاز الطبيعي في شرقي بحر الصين, ما لم تقدم بكين تقريرًا مفصلاً, يوضح الأسباب, التي دفعتها للبدء بعملية التنقيب عن الغاز دون التوافق مع الجانب الياباني. وتؤكد اليابان على وجود نفط وغاز في حقل يقع في منطقة وسطى متنازع عليها بين الدولتين. وتطالب الصين اليابان بتغليب انتمائها الآسيوي على توجهاتها الأمريكية, التي يقودها رئيس الوزراء كوتيزومي, الذي يعتبر نفسه (صديقًا حميمًا), للرئيس جورج بوش.

لقد تخوّفت بعض وسائل الإعلام العربية والدولية من بروز صراع إقليمي في منطقة جنوب شرق آسيا لأن انفجاره سيطول منطقة الشرق الأوسط بأكملها. لكن نقاط التلاقي بين الصين واليابان, مازالت واسعة. فبمناسبة انعقاد القمة الآسيوية في جاكرتا, التي افتتحت أعمالها في 22 أبريل 2005, قدم رئيس وزراء اليابان اعتذارًا علنيًا أمام القمة, عمّا ارتكبه الجيش الياباني من أعمال همجية ضد شعوب دول الجوار, خاصة الصين وكوريا. وعقد لقاء ناجحًا مع الرئيس الصيني, أدخل الأزمة في مناخ التهدئة التي كانت مرتقبة, بالرغم من الحملة الصحفية المتصاعدة ضد اليابان.

خطوة غير كافية

لقد دان كوتيزومي مرحلة السيطرة اليابانية على معظم دول جنوب شرق آسيا وما رافقها من أعمال إجرامية ضد شعوبها. ومع أنه قدم اعتذاره العلني لشعوب تلك الدول, اعتبرت الصين تلك الخطوة غير كافية, ما لم تقترن بأعمال ملموسة تجاه الشعوب والدول المعنية بالاعتذار.

لكن صحفًا صينية ذكرت أن ما قام به كوتيزومي أمام القمة, سبق لرئيس وزراء ياباني سابق أن قدم مثله عام 1995, دون أن تغير اليابان من سياستها القومية المتشددة: وزاد في شكوك الصينيين والكوريين الجنوبيين أن الاعتذار كتب بعبارات عامة لا يفهم منها تراجع في موقف اليابان. إلا أن تهرّب قادتها من الاعتذار الرسمي, لم يعد مفيدًا لمنطقة جنوب شرق آسيا التي تتغير بسرعة, نظرًا للنمو الاقتصادي الثابت في كل من الصين, وكوريا الجنوبية, والهند, ودول النمور الآسيوية, وقد باتت قوة اقتصادية كبيرة تحتاج إليها اليابان لبناء الوحدة الآسيوية.

وهناك تقارير مهمة جدًا, تؤكد أن القرن الحالي سيكون قرنًا آسيويًا بامتياز. واليابان بحاجة ماسة لأسواق الصين, حيث تجاوز حجم التوظيفات المالية والاقتصادية اليابانية فيها ثلاثمائة مليار دولار. وباتت اليابان في طليعة الدول المستثمرة في الصين, مخلفة وراءها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي.

لذا, لابد من أن تعتذر اليابان عن ماضيها الاستعماري, من أجل فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع دول الجوار الآسيوية. وتخشى أمريكا من أن توجه إليها أصابع الاتهام على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها جيشها بإلقاء قنابل نووية على هيروشيما, وناجازاكي, والتي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى, وشوّهت أجيالاً متعاقبة من اليابانيين.

كما تخشى أن يطالب الفيتناميون وشعوب أخرى, باعتذار أمريكي مماثل, فرياح التغيير التي تهب على منطقة جنوب وشرق آسيا تتزامن مع نمو اقتصادي سريع في كل من الصين, وكوريا الجنوبية, والهند, ودول النمور الآسيوية, وتطالب الصين بفك ارتباط, ولو نسبيًا, بين السياستين اليابانية والأمريكية في منطقة جنوب وشرق آسيا, وبانخراط اليابان بصورة جدية, وعلى جميع المستويات, وليس على المستوى الاقتصادي فحسب, في رسم مستقبل تلك المنطقة.

ويرى خبراء صينيون أن مستقبل العلاقات الصينية - اليابانية مرهون بحل مشكلات عدة, أبرزها أزمة كتاب التاريخ المدرسي, الذي يجب أن يراعي الدقة والموضوعية لاستخلاص الدروس والعبر من تلك المرحلة.

 

مسعود ضاهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات