الناس والسلطة

الناس والسلطة

ما الثمن الذي لا بد أن ندفعه من أجل إدارة تجمع بين الإخلاص والكفاءة?

من روائع الأدب الأمريكي ثلاثية روائية ظهرت سنة 1932, بناها الكاتبان تشارلز نوردوف وجيمس هول على حادث تاريخي شهير هو التمرد الذي وقع على سفينة حربية بريطانية سنة 1787. كان اسم السفينة (باونتي) وهي كلمة تعني شيئًا مثل: (النعمة الوفيرة), وكانت قد أقلعت من ميناء بورتسماوث البريطاني في اتجاه جزر تاهيتي في المحيط الهادي, في مهمة للحصول على عينات من نوع من ثمار أشجار المناطق الحارة, تشبه الخبز, وهكذا تسمى: ثمرة الخبز, بقصد تجربة إنباتها في جزر الهند الغربية لتستخدم في إطعام العبيد. وقع التمرد في منطقة جزر بولينيزيا, بالقرب من جزيرة تدعى (بيتكيرن) تتوسط المسافة بين أستراليا والساحل الغربي لأمريكا الجنوبية, عند مدار الجدي. وكان ربان السفينة ضابطًا في الثالثة والثلاثين من عمره يدعى وليم بلاي, وكان الضابط التالي له في الأقدمية - ويسمونه (رفيق القبطان) - شابًا يدعى فلتشر كريستيان, وقد أنتجت مسرحيات وأفلام ومسلسلات عديدة عن هذا الحادث, أشهرها إنتاج سينمائي أبيض وأسود, قام فيه بدور القبطان الممثل الأسطوري تشارلز لوتون بينما أدى دور رفيقه كلارك جيبل, وقد تعبوا في إقناع هذا الأخير بأن يحلق شاربه للمرة الأولى في حياته, وأن يجعل ضفيرة تتدلى على قفاه, وإنتاج آخر ملون كان القبطان فيه الممثل الإنجليزي الكبير تريفور هوارد الذي قد يذكره القارئ في دور القاضي الذي وقف احترامًا للمتهم المهاتما غاندي في الفيلم الذي يحمل اسم الزعيم الهندي, ثم حكم عليه بالسجن مبديًا أسفه لذلك, بينما قام بدور الضابط المتمرد مارلون براندو. كان القبطان بلاي هو أيضًا شخصًا أسطوريًا في كفاءته وأيضًا في قسوته وشراسته, وكان يعاقب البحارة بحرمانهم من الطعام والماء, وعندما ثار واحد منهم شاكيًا الظمأ في الحر الشديد, صاح به: حسنًا, سأعطيك ماء وفيرًا, وأمر بربطه في مقدمة السفينة لكي (يشرب من البحر), والسفينة طبعًا تعلو وتهبط مع الأمواج, والمسكين لا يتنفس إلا عندما تعلو طبعًا, ثم يغوص معها كاتمًا أنفاسه, وعندما صدر العفو السامي وأمر القبطان بسحبه قالوا له: لم يعد هناك ما نسحبه, فقد كانت أسماك القرش قد التهمت جسد البحار. ووقع عقوبة الجلد على واحد منهم, ولما قضى نحبه قبل تنفيذها أمر بتنفيذها على جثته. عمت البغضاء طبعًا بين البحارة, وهم جميعًا مجندون يخضعون للحكم العسكري, بينما تزايد إعجابهم بالضابط الرفيق لشهامته وشجاعته, وأخذوا يحضونه على التمرد وخلع هذا الشيطان. وحدث هذا فعلاً في موقف بالغ القسوة, ووضعوا القبطان ومعه ثمانية عشر بحارًا رفضوا التمرد, في زورق واحد وقطعوا أربعة آلاف ميل إلى إنجلترا.

وقد عاش القبطان بلاي سنوات طويلة بعد ذلك ورقى إلى رتبة أدميرال, وأتم المهمة التي كان مكلفًا بها من أجل الاقتصاد في إطعام العبيد, بل وأسهم في اصطياد المتمردين الذين أمكن العثور عليهم وجيء بهم إلى إنجلترا حيث حوكموا وأعدم البعض منهم نظير اجترائهم على شرف البحرية البريطانية العظمى, أما الذين بقوا في الجزيرة وامتدت بهم الحياة فقد تزاوجوا مع سكانها وبقي نسلهم متميزًا فيها بعرقيته المختلفة إلى أن انضمت بيتكيرن إلى أستراليا في أواخر القرن الماضي واكتسبوا جنسيتها.

(فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ) هكذا يقول المتنبي لسيف الدولة, وهذا هو الحال مع السلطة, وقد انهالت سيوف الدولة على رقاب هؤلاء البحارة الأبطال لاجترائهم عليها. إن السفينة التي تخرج إلى عرض المحيط تصبح قطعة من المجتمع, ومعها الصورة الحديثة لها: الطائرة ومركبة الفضاء. لا بد في جميع هذه المواقف ممن يقول لمن عليها ما كان يقوله بلاي: (أنا القبطان وأنا القاضي والمحلفون) ويقول للضابط فلتشر: (إنهم لا يحترمون إلا قانونًا واحدًا, هو الخوف) وهذا لأن البشر, كما يقول ابن خلدون, (يستحيل بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض, وقد احتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم, وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم), وإلى يومنا هذا لايزال ربابنة السفن في أرقى المجتمعات وأكثرها تطورًا في العدالة ونظم الحكم, يزودون بالقدرة على إصدار أحكام الإعدام والتخلص من الموتى بإغراقهم, فالمعارضة قد تكون ممكنة على البر ولكن ليس في أرجاء البحار وآفاق الفضاء.

وبالرغم من أنه لم يحدث تمرد على أي سفينة أمريكية, فإن الكاتب الأمريكي هيرمان ووك, يطلع علينا برواية عن تمرد من خياله يحدث على كاسحة ألغام أثناء حرب الباسفيك مع اليابان, ويقع التمرد ضد (الكابتن كويج) عندما يصاب ضباطه بالإحباط من جبنه وشذوذه, ويصل الأمر إلى ذروته عندما تهب عاصفة عاتية ويصر الكابتن على مواجهتها بشكل يؤدي حتمًا إلى أن تغرق كاسحة الألغام ويهلك من عليها من ضباط وجنود, وهنا يعلن الضابط التالي له أنه قد خلعه من القيادة, ويتولى بنفسه إدارتها إلى النجاة ثم يحال هذا الضابط إلى مجلس عسكري خصص له المؤلف عملاً مسرحيًا شاهدته في برودواي, ولا ينجو الضابط الشجاع من الإعدام إلا عندما يتمكن محاميه من استفزاز الكابتن بشكل يجعل جنونه يتمثل واضحًا أمام القضاة. وفي إنتاج سينمائي قديم يلذ لك أن ترى همفري بوجارت وهو يؤدي هذا ببراعة مدهشة. ولولا هذا لكوفئ الضابط الشجاع الذي قاد التمرد بالإعدام نظير بطولته التي أنقذت السفينة بمن عليها.

جنون السلطة

ونحن لا نعيش كلنا على متون السفن, هذا صحيح, إلا أن الهوس هو أيضًا لا يقتصر على القباطنة والكباتنة, فهو يشيع - بدرجات متفاوتة - بين الأباطرة والملوك والرؤساء كاليجولا, الإمبراطور الروماني الملتاث (12 - 41ق.م) يصوره ألبير كامو في مسرحيته المعنونة باسمه على أن أفعاله الجنونية لم تكن سوى رد فعله لعبثية الحياة الآدمية, وهذا هو ما جعله يشترك في مؤامرة اغتياله, يعني (داوني بالتي كانت هي الداء) الحاكم بأمر الله, الخليفة الفاطمي وحفيد المعز, ملك مجنون متعصب وسفاح, أعلن نفسه إلها وكان له داعية يدعى (درزى), جعل أتباعه يزعمون عندما قتل على ربوع المقطم بتدبير أخته ست الملك, أن أحدًا لم يعثر على رفاته لأنه صعد إلى السماء وسيعود يومًا بعد غيبته الكبرى لكي يصلح أحوال العالم. ومعروف ما ذاقه المصريون من العسف والجوع في ذلك العصر المنكوب.

إلا أن آفة السلطة ليست في ذلك, فالذين يعدون مجانين أقلية من أصحاب السلطة, إن الجنون بالسلطة هو الكارثة الكبرى. فالسلطة تأتي الفرد الإنساني بكل ما يمكن أن يحلم به إنسان من مال أو متع, بل إنه حتى في المجتمعات المتطرفة في الرأسمالية نجد السلطة أقوى من كل مال وأعتى من كل ثروة. لم يكن الرئيس الأمريكي ليندون جونسون من كبار الأثرياء, لم يكن حتى يقرب من سابقه جون كنيدي من حيث الثروة, وذات يوم كان يوشك أن يذهب في رحلة بطائرة الرئاسة, وإذ هو يتجه نحوها محاطًا بأعوانه سأله واحد منهم: أيها طائرتك يا سيدي? فأجابه: كلها يا بني! ولم يكن هتلر أو ستالين أو أي دكتاتور مماثل يجني شيئًا من وراء المال, فهو يملك المجتمع كله بما في ذلك حياة أعضائه, وكذلك بالطبع كان المستبدون من حامورابي إلى يوليوس قيصر, ومن نابليون إلى ماوتسي تونج. وعندما صدر كتاب برتراند راسل الشهير: السلطة (أو ربما: السطوة) كتب واحد من المعلقين إن: (مفتاح الديناميكية الاجتماعية الذي وجده ماركس في الثروة, وفرويد في الجنس, يجده راسل - بمنطق دامغ - في السطوة) وقد كان السلوك الجنسي للزعيم الصيني ماو موضوع كتاب عنه بقلم طبيبه الخاص, وهو سلوك غير آدمي, بأي مقياس. وفي هذا الجانب يقول راسل في كتابه هذا: (كل إنسان يتمنى أن يجعل من نفسه إلها, إذا أمكنه ذلك, وهناك قليلون لا يستطيعون أن يقروا باستحالة ذلك!). ثم: (إنه عند من ينالون قدرًا ضئيلا من المجد والسلطة, قد يبدو أن قدرًا ضئيلا آخر يضاف إليه سيكون مرضيًا, إلا أنهم مخطئون, فهذا النوع من الشهوة لا حد له ولا يمكن إشباعه), ويروى أن نابليون كان في صباه يحلم بأن يقود ثورة ضد فرنسا في موطنه كورسيكا, ثم يضيف: (إن التعرض للبطش والقسوة يؤدي بالناس إلى واحد من اتجاهين: أولئك الذين يخافونه ينزعون إلى الاختفاء والتهرب, أما أصحاب العزم والجرأة, فإنه يحفزهم إلى أن يسعوا إلى المراكز التي تمكنهم من ممارسة البطش بدلاً من التعرض له), وهذا هو ما فعله قائد التمرد في (باونتي), والذين يتمردون في وجه شياطين القمع الوحشي, قد ينتصرون, وعندئذ يصبحون هم الشرعية والقانون, وقد ينهزمون وعندئذ يعاملون كخارجين على الشرعية وعلى القانون, ومن هذا وذاك حالات لا حصر لها في التاريخ.

فهل تظل البشرية تحلم بأن تقوم حفنة من الشجعان بالتصدي لبهيمية الحاكم المستبد الذي يصيب المجتمع كله بالفقر والدمار والتعاسة من أجل اشتهائه للسلطة وما تأتي به من نعيم, ومرة بعد مرة إلى أن ينتصر هؤلاء الشجعان عليه? فثم ماذا? لقد رأينا هذا يحدث في النصف الثاني من القرن العشرين في عديد من دول العالم الثالث, ثم في الاتحاد السوفييتي ذاته, وفي جميع الحالات فإن الحاكم الجديد يجد نفسه عاجزًا عن أن يفعل شيئًا في مواجهة الدمار الذي يصيب النفس الآدمية من جراء الحكم الشمولي, وسرعان ما يقنع نفسه بأنه ليس إلا الإله الجديد, وبدلاً من أن يقف في وجه الفساد الذي ينشأ حتمًا من محاولات الخصخصة والعودة إلى اقتصاديات السوق, فإنه يجعل من نفسه أثرى الأثرياء وأعظم الآلهة, ويتخذ هذه الصورة المألوفة: فهو عنيف كالثور, جاهل كالحمار, قاسٍ كالشيطان... وتستمر الدورة, فما العمل?

هل يمكن تهذيب السلطة?

يبدو أن هذا هو قدر الإنسان, أن يخضع للقيادة, فمن ثلاثة أو أربعة أشخاص فأكثر لا يمكن لأي جماعة أن تؤدي عملاً نافعًا دون قائد يتولى تنسيق جهودهم, وهل يمكن لجوقة موسيقية, تتألف أحيانًا من ثمانين عازفًا, أن تؤدي لحنا يُسمع, دون مايسترو?

إنه حتى الحيوانات الذكية تمارس العمل الجماعي وتحتاج فيه إلى القيادة, وقد قرأت مرة تحقيقًا مصورًا بمجلة (ناشيونال جيوجرافيك) يصور عددًا من الحيتان السفاحة تشترك في افتراس حوت أبيض هائل الحجم, وتظهر الصور بوضوح توزيع الأدوار على مختلف الوظائف في مختلف المواقع, حقًا, القيادة فن قديم, وإلا لما أمكن لمجتمعات مثل مصر القديمة وبابل وآشور أن تمارسها منذ ستة آلاف سنة. إلا أنها كانت تمارسها كـ (فن) يعتمد إلى حد كبير على الخرافة وعبادة الحكام ثم على قدرة هؤلاء الحكام على استعباد شعوبهم, لاشك أنها كانت قيادة على طريقة رعاة الغنم, لا رعاة البشر. وقد دأب هؤلاء - البشر - على ممارسة كل شيء بالتجربة إلى أن يأتي الفلاسفة ويضعون التعميمات المجردة التي نسميها النظريات. وقد كان المصريون القدماء يستخدمون المثلثات بأطوال 3 , 4 , 5 لإقامة الزوايا القائمة على الأرض, إلى أن جاء فيثاغورس بنظريته الشهيرة في المثلث ذي الزاوية القائمة.

وهكذا فإنه من الصناعة نشأت علوم الإدارة, ومن الحرب أيضًا, ومن هنا جاءت عبارة (بحوث العمليات) وهي الممارسات التحليلية للجدولة وتخصيص الموارد بأسلوب الرياضيات وباستخدام الحاسبات الإلكترونية, وهي أمور يصبح اتخاذ أي قرار استراتيجي من دونها عبثًا لا طائل وراءه. وهناك أسماء عديدة وراء هذا التطور الهائل منذ ظهور الإنتاج الكثيف في أواخر القرن قبل الماضي وحتى الآن, أسماء ليست شائعة بين عموم الناس ولكنها عبقريات عظمى: أوردواي تيد (فن القيادة) بيتر دراكار (الإدارة بالأهداف) جون آدير (المهمة والفريق والفرد) هنري فايول (أركان الإدارة), وهكذا, حكماء الإدارة كما يسمونهم الذين جعلوا الإدارة والقيادة والجودة والتنافس, علومًا لها قواعد, ليست كالفيزياء والكيمياء ولكن كالاجتماع والاقتصاد. ولو كانت هذه العلوم قد ظهرت أيام كارل ماركس لأدرك مدى عجزه عن رؤية الكون مادام يرقبه من خلال ثقب إبرة. الذي يعنينا هنا هو أن اتخاذ القرار الانفعالي أو العشوائي في إدارة المؤسسات الاقتصادية وفي مواجهة المنافسات الحادة حريّ بأن يؤدي إلى انهيارها, ولذا فهو لا يأتي إلا بضم عقول الأخصائيين والاستماع الجيد لما لديهم من نصائح ومحاذير, وبالتالي فإن الدول الحديثة أصبحت تحكم بهذا الأسلوب نفسه, لكي لا تلقى هذا المصير السيئ. وهذا هو ما يسمى (الديمقراطية), والتي أصبحت مبدأ لا تحيد عنه كبريات المؤسسات, فهي ليست قضية أخلاقية, إنهم لا يدعون إليها لأنها خير والدكتاتورية شر, بل لأنها صواب والدكتاتورية خطأ. تأمل قرار نابليون بغزو روسيا وما جره إذ ذاك على البشرية وعلى بلاد أوربا, تأمل الشيء نفسه بالنسبة لأدولف هتلر. أما إذا أردت مثالاً من حياتنا فانظر ماذا كانت عاقبة القرار الانفعالي الذي اتخذه الرئيس المصري الراحل عبدالناصر بإبعاد قوات الطوارئ الدولية قبل 1967, لو أنه كان يحيط نفسه بمستشارين ذوي علم وكفاءة (وكان قد أعلن أنه يفضل أهل الثقة على أهل الكفاءة) لكانوا قد بصروه بالعواقب القانونية لهذا القرار وبأنه يوازي إلغاء اتفاقية الهدنة الموقعة مع إسرائيل في أعقاب 1956, ولكنه كان يحيط نفسه بضباط هو ولي نعمتهم, ومنهم وزير خارجيته الذي أشك في أنه كان على دراية بتلك الاتفاقية, وحتى لو أراد أن يعترض, فهو على الأقل يعرف أن مجرد الاعتراض على رؤية الزعيم الملهم سيؤدي به إلى مصير سيئ.

كل هذا أدى إلى ظهور مفكرين قدماء ومحدثين لا يقفون عند حد الرغبة في تهذيب السلطة - وهذا ما فعله النبلاء الإنجليز عندما تقدموا للملك جون سنة 1215 بوثيقة العهد الأعظم, الماجنا كارتا, المطالبة بتقييد سلطاته في فرض الضرائب ومصادرة الأملاك بإخضاعها للقانون - بل تمتد إلى إلغاء الحكومة ذاتها والعيش من دونها لأنها شر وبلاء مستطير. وكان أول هؤلاء زينو الكريتي مؤسس الفلسفة الرواقية (حوالي 250 ق.م) والذي واجه جمهورية أفلاطون بالمجتمع الذي لا حكومة له, ودعا إلى سيادة قوانين الأخلاق. توالت العصور بعد ذلك وظهرت الأفكار المماثلة في كتابات الكثيرين من فلاسفة العصور الوسطى بدءًا من القرن التاسع الميلادي في أرمينيا كما عبر عنها رابيليس وفينيلون في الأنظمة اليوتوبية التي تخيلاها, كما ظهرت في كتابات جان جاك روسو (1712 - 1778) الذي دعا أيضًا إلى العودة إلى الطبيعة, وإن كان كل هذا قد تعرض لرقابة الكنيسة الكاثوليكية مما أدى إلى الحد من قدرة هذه الأفكار على الانتشار. وقد احتوت الثورة الفرنسية تطبيقات عديدة لهذه المبادئ, وعمدت الجموع إلى الاستئثار بحق انتخاب القضاة وتنظيم إمدادات الجيش, بل إنهم حاولوا إيجاد قنوات مباشرة بين الكوميونات الفرنسية التي بلغ عددها إذ ذاك ستة وثلاثين ألفًا, من خلال مجلس يختص بالتنسيق بعيدًا عن الجمعية الوطنية, ثم في عام 1793 ظهر مؤلف وليم جودوين في الفوضوية (الأناركية) وبعده جاء الفرنسي جوزيف برودون, ثم الضابط الروسي السابق ميخائيل باكونين, الذي أصبح قائدًا للفوضوية الحديثة, ورحل إلى ألمانيا سنة 1840 حيث تعرف على الكاتب الروسي ايفان تورجنيف الذي يقال إنه استوحى منه بطل روايته (رودين).

ولم يعلن تولستوي انتماءه لهذا المذهب, ولكنه اتخذ موقفًا فوضويًا تجاه الدولة وحقوق الملكية, مستمدًا عقائده - كما هو معروف - عنه من ديانته المسيحية. وقد لجأ الفوضويون إلى العنف وكان منهم من اغتال الرئيس الأمريكي وليم ماكنلي سنة 1901, وقد لقى الكثيرون منهم عقوبة الإعدام على أيدي الحكومات التي يريدون - بحق على ما يبدو - تخليص البشرية منها, وقد ظهر في روسيا مفكرهم الشهير بيتر كروبوتكين (1842 - 1941) الذي سجن في روسيا القيصرية ثم في سويسرا ثم أوشك أن يسجن في روسيا السوفييتية التي ظن الأناركيون أول الأمر أنها هي الجنة الموعودة التي ستلغى فيها الدولة وتحل محلها الكوميونات والسوفييت ثم وجدوها دولة أبشع من كل دولة وحكومة أشر من كل حكومة ومن كل قبطان! وما عليك إلا أن تقرأ الكسندر سولزنتسين وهو يصف ما رآه بعينيه وكابده مع غيره في جحيم الجولاج السوفييتي مما يجعل وقائع السفينة باونتي تستحق اسمها (النعم الوفيرة)!

الديمقراطية والجمهورية

(ديمو) باليونانية, تعني (الشعب), و(كراتوس) تعني الحكم, وكما كان الأثينيون هم الذين ابتدعوا هذا التعبير, فقد كان السياسي الإغريقي القديم بيريكليس (500 - 429 ق.م) هو أول من عمل على تطبيقه خلال فترة سيطرته على أثينا لما يقرب من ثلاثين سنة سابقة لموته في وباء اجتاح هذه المدينة, وكان بيريكليس متأثرًا بفلسفة أناكساغوراس, وكان طموحه يتمثل في جعل أثينا بلدًا ديمقراطيًا يهيمن على بقية العالم, وهو من أدخل دفع الأجور لأعضاء (المجلس) وبذلك انتفت فكرة أنه لا بد أن يكون الرجل ثريًا أرستقراطيًا لكي يكون له رأي في مسائل الحكم. أما كلمة (جمهورية) فهي ترجمتنا للاسم الذي اختاره أهل روما القديمة, باللاتينية هذه المرة (ريبلك) من (ريس) يعني (شأن), و(ببليكوس) يعني الجمهور, وقد كان (الجمهوريون) بزعامة بروتس وكلودياس هم الذين اغتالوا يوليوس قيصر في (مجلس الشيوخ) لنزعته الأوتقراطية, ولكن ابن أخيه أوكتافيوس ورفيقه ماركوس أنطونيوس هما اللذان طاردا قتلة قيصر وقضيا على زعيمي القتلة, وكما هو معروف فإن أوكتافيوس أصبح بعد ذلك أول إمبراطور روماني, وقضى بعد ذلك على أنطونيوس في عش الغرام السكندري.

وبالرغم من أن الجمهورية الرومانية استمرت لفترة أطول كثيرًا من ديمقراطية أثينا فقد تهالكت حوالي سنة 130 ق.م بسبب النزعة العسكرية والتوسع الإمبراطوري في زمن لم تكن فيه وسائل للاتصال والسيطرة سوى الحصان والحمام الزاجل, وكان اغتيال قيصر سنة (44 ق.م) بداية هذا العصر الإمبراطوري والعودة إلى الدكتاتورية.

يبدو أن إشراك الناس, أو على الأقل, الصفوة منهم في إدارة المجتمع, هو السبيل الوحيد لمنع أمثال الكابتن بلاي من أن يتحكموا في رقاب العباد وأرزقاهم والويل لمن يعترض.

إلا أن التاريخ يدلنا على أن هذه المشاركة قد انتهت بالفشل في تجربتي أثينا وروما, واختفت من الوجود لغاية القرن الثامن عشر, ثم عادت إلى الظهور, ومضت تتطور وتترسخ في العديد من بلدان أوربا وأمريكا ثم آسيا. الذي أظنه أن هذا الفشل يرجع إلى أنها تتطلب درجات من المعرفة, ومن التطبيق التكنولوجي, ثم من الرقيّ الآدمي, لكي تتحقق وتستمر. خذ الصحافة مثلاً, بالقطع ليست هناك فائدة من محاولة التصدي لبهيمية الحكام وشهواتهم, دون صحافة قوية ومستقلة, وهم يسمّونها (السلطة الرابعة), إلى جانب السلطات الثلاث الأخرى: التشريع والتنفيذ والقضاء, ومن أسس المشاركة الفعّالة, أن تكون كل من هذه مستقلة تمامًا. إن خضوع القضاء للسلطة يجعله يتخذ هو أيضًا هذا الشكل القبيح, الذي تتخذه سلطة البحرية البريطانية والأدميرال بلاي!

لم تعد الديمقراطية مجرد فصل السلطات وحرية الإعلام, وتكوين الأحزاب, وممارسة الاقتراع الحر, فقد استكملت بتحريم امتلاك العبيد في القرن التاسع عشر, بل وقبل ذلك بقليل في بعض البلدان (وفي أثينا لم يكن لهم - بالطبع - حقوق المواطن الحر), ثم جاء القرن العشرون بإنهاء عبودية النساء أيضًا كأساس للديمقراطية, واستكمال لتعريفها, ثم تلاه تجريم التفرقة العنصرية في أمريكا, ثم في جنوب إفريقيا, ولا يمكن لمجتمع أن يوصف الآن بالديمقراطية إذا لم تتوافر فيه هذه أيضًا.

وإذا كانت الهند قد توصلت إلى ديمقراطية كاملة, مع كونها من أفقر بلاد العالم, وأكثرها ازدحامًا. فهذه حقيقة لا تنكر, ولكنها جاءت من رقي القادة السياسيين لشعب هذا البلد, وتقبلهم لحضارة الإنجليز, والتتلمذ عليهم, بالرغم من المقاومة التي خاضوها ضدهم, وقد كانت - كما نعرف - مقاومة سلمية تستنكر العنف, وسفك الدماء. ونلاحظ - مثلاً - أن بلدًا آسيويًا آخر - هو اليابان - كان قد توصل إلى قمة المعرفة والتقدم في الصناعة, وفي القوة الحربية, منذ أن بدأت حركة التحديث في عصر الإمبراطور (ميجي), تحت شعار (دولة غنية وجيش قوي), ولكن الثقافة السائدة كانت لاتزال حبيسة عصر الاقطاع, وفرسان الساموراي, وألوهية الإمبراطور. الذي نفع اليابان هو ذاته الذي نفع الهند, وهو أنهم نسوا مرارة الحرب, وأدركوا أن قنبلتي هيروشيما وناجازاكي كانتا وسيلة الأمريكان, إلى تجنب هلاك عشرات الملايين من الجانبين في حرب لن تنتهي - مع إصرارهم على القتال حتى الموت - إلا بفناء شعب اليابان, وهكذا بدأ التطور نحو الديمقراطية بالقضاء على بهيمية (القباطنة), وتقبل فكرة التعاون مع الصديق الجديد, الذي كان عدوًا بالأمس, كان الطريق ممهدًا أمامهم بحكم التقدم, الذي كانوا قد حققوه على مدى الثمانين عامًا السابقة لانتهاء الحرب, وكان هذا متزامنًا مع إعلان استقلال الهند سنة 1947.

لكي نمارس الديمقراطية, لابد أن نكون أهلاً لها, وألا يكون الاقتراع الحر وسيلة إلى أن تصل إلى الحكم عناصر التعصب الديني والعنصري, وعواطف البغضاء, وحب التعاسة والاستعباد. هناك فارق بين أن تتعرض المرأة للاغتصاب من جانب مجرم أو سفاح, وبين أن يكون هذا هو قدرها ومصيرها المحتوم, وهناك فارق بين أن تكون هذه جريمة يعاقب عليها القانون, وبين أن يكون هذا هو القانون, الذي تطبقه دولة تستوظف لديها مَن يقومون به, وتدفع لهم أجورهم من أموال ضحاياهم, كما في قصة نجيب محفوظ - قبل أن نستحدث المنظومة, لابد أن ننتقل إلى العصر الذي تنتمي إليه: الحد من التكاثر, احترام المرأة - رعاية الطفل - الارتقاء بالمعرفة والفنون والقيم الإنسانية.

 

محمد الحديدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات