إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

الانتصار الصغير

لا أنسى صورة عالم الجيولوجيا المصري المعروف فاروق الباز, كانت منشورة في كتاب عن حياته, ملونة وحديثة بعض الشيء, التقطت له وهو يقوم بزيارة قريته الصغيرة التي لا أذكر اسمها, ولا بد أنها واحدة من ثلاثة آلاف قرية منسية في أحراش الريف المصري العتيد, وكانت المناسبة هي حفلا أقامه أهل البلدة من أجل تشغيل ماكينة لضخ المياه, مجرد محرك بدائي يرفع مياه النيل إلى أعلى حتى يمكن ري الأرض الزراعية, ولكن علامات السعادة التي كانت على وجه العالم الكبير كانت لا تقل عن سعادته بافتتاح محطة لتوليد الطاقة النووية أو صعود مركبة أبوللو إلى سطح القمر. كان هو وأهالي بلدته يضحكون في انشراح بالغ وهم يراقبون المياه المتدفقة, ورجل عجوز ـ لعله العمدة ـ يضع يده على كتف الباز في اعتزاز كأنه لولا وجوده في هذه اللحظة لما دارت هذه الماكينة. ما أدهشني هو ذلك التعبير على وجه الباز الذي بدا وكأنه يعيش واحدة من أعظم لحظات حياته, ولعلها كانت كذلك بالفعل, فلم يكن فقط يعيش طقس استجلاب الماء الذي هو عنصر الحياة المقدس, ولكنها لحظة انتصاره الشخصي في المكان ذاته الذي شهده طفلا صغيرا بين عدد كبير من الاخوة لا يدرون أي مستقبل ينتظرهم, وسط الناس الذين خرج من بينهم هاربا أو طموحا أو (مقروفا) ــ أيا كانت اسباب الرحيل ــ تركهم مهمشين, وسعى هو للتميز, وعندما اصبح تحت دائرة الضوء بقوا كما هم في الظل. هذا التمايز بين الضوء والظل هو المقياس الوحيد الذي كان الباز يرتكن إليه ليعرف مدى ما أصابه من نجاح, لا غزو الفضاء ولا ملمس أحجار القمر ولا حفلات الكوكتيل الفاخرة التي أقيمت تكريما له, كانت توازي تلك العودة حتى يؤكد لنفسه وللآخرين أنه كان محقا حين اتخذ قرار الرحيل. كانت الصورة تعبيرا عن انتصاره الصغير والحقيقي. ولعل هذا كان الدافع نفسه وراء الدكتور أحمد زويل وهو يزور كلية العلوم القديمة في الاسكندرية, كان يعرف أن سقف الكلية ـ كما ذكرت الصحف ـ آيل للسقوط , وأن إدارتها قد قامت بفصله لأنه تأخر عن العودة من الخارج بعد المدة المقررة له, وأن عهدته الرسمية لم تسدد, ولكنه لم يسمح لشيء أو لأحد أن يفسد عليه انتصاره الصغير, سواء الطلبة الذين تأملوه مثل طيف ساحر أوالعميد المرتبك, أو الاساتذة السابقون الذين أصروا على الحديث معه بالانجليزية وهو يرد عليهم بالعربية متحدثا في خجل عن توصله لاكتشاف بالغ الصغر يسمى (الفوتون). كانت هذه لحظة التناقض الرائعة بين الضوء والظل, بين أضواء ستوكهولم وعتمة أروقة كلية العلوم. نجيب محفوظ عاش هذه اللحظة ايضا ولكن بدرجة أكبر من التواضع كما هو دأبه, ففي الوقت الذي كانت فيه وكالات الانباء تلهث خلفه وتنبش في كل تفاصيل حياته لم يغير هو شيئا من عاداته, ففي اليوم التالي لفوزه بجائزة نوبل أصر على الخروج في موعده الصباحي الثابت في السادسة صباحا وسار على قدميه وسط زحام الناس على شاطئ النيل في طريقه إلى ميدان التحرير وهو يرد بتواضع على عمال النظافة وحاملي أوعية الحليب وموزعي الصحف وبائعي الخبز الطازج والعاملين في محلات بيع الزهور وهم يلقون عليه عقود الفل ويهتفون به (صباحك أبيض زي الفل ياعم نجيب).

 

محمد المنسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات