المصادر اليومية للقصيدة العربية

المصادر اليومية للقصيدة العربية

ازدحم الشعر العربي المعاصر بقصائد لا حصر لها, لا تسمو بالعارض واليومي إلى مصاف الكتابة الشعرية الحقيقية, وإنما تنساق وراء الحدث بشكل مباشر. فأين يوجد الخلل?

يبدو الشعر مسكونا بالتاريخ بصورة سرية, مصنوعا, في لحظاته الأكثر كثافة, من مادة هذا التاريخ, بالرغم من محاولة الشعر الدائمة التخلص من الاشتباك بنسيج اليومي, والعارض ليسمو في معارج الخيال. كانت هذه الرغبة تسكن كثيرا من شعر العرب في القرن العشرين, ما أنتج كثيرا من الشعر الأثيري وابتعد بالكتابة الشعرية عن مصادرها اليومية, وجعل هذه الكتابة تمرينا في تأمل العالم من نقطة بعيدة في برج الشاعر العاجي. هذه النزعة في الكتابة الشعرية تقابلها نزعة مضادة لا ترى في الشعر سوى انعكاس لليومي, والحدث العارض, فتسعى إلى تسجيل وقائع التاريخ أولا بأول, وتتشبث بالأحداث الكبرى, من انتصارات وهزائم متكررة, لتبني مادتها الشعرية منها, ولكنها لا تسمو إلى الكتابة الحقيقية للشعر.

لكن الشعر الحقيقي لا يسكن في أرض هذين النزوعين المتباعدين, بل فيما يؤلف بينهما, فيما يطلع من أرض التاريخ ولكنه يعيد تأليفه وترتيب ذراته ليكون الحدث, وما يسمى التاريخ (بمعناه الشامل الذي يرفعه من وهدة التسجيل التاريخي), مجرد ماء سري يسري في أحشاء الكتابة الشعرية.

أدونيس وكتاب التاريخ

في السياق نفسه تبدو علاقة أدونيس بالتاريخ, واليومي فيه, علاقة إشكالية معقدة; ويبدو شعر أدونيس, بدءا من (أوراق في الريح) وانتهاء بـ(الكتاب), وكأنه يعيد كتابة التاريخ عبر استدعاء شخصياته الشعرية من زمان العرب القديم مهملا, في الظاهر لا على الحقيقة, صراعات الحاضر وسلسلة أحداثه وشخوصه. إن أدونيس منشغل باستعادة التاريخ والكتابة عن شخصياته, وإعادة موضعة هذه الشخوص في كتاب التاريخ العربي, ليمكن لنا أن نعيد تأويل أدوارها ومعنى هذه الأدوار في سياق تاريخ من الاستبداد, الذي قمع الأصوات الهامشية وأجبر من كانوا في هامش السلطة على تبني الحكايات الكبرى للفئات السائدة. ولعل (الكتاب) أن يكون ذروة طموح أدونيس في هذا النوع من الاستعادة الشعرية ـ التاريخية لشخوص ووقائع وأفكار تتصارع على صفحات هذا العمل الشعري الضخم لتعرض لنا تأويل الشاعر, بل إعادة تركيبه لتاريخ العرب في واحدة من ذراه الكبرى.

لكن هل يتنكب شعر أدونيس التاريخ اليومي, هل يحاول أن ينأى بشعره عن وحل الحاضر وأرض التجربة المعاصرة? ليست عودة أدونيس إلى التاريخ وشخصياته سوى رغبة في فهم الحاضر من خلال تفسير وقائعه التاريخية, والتعرف على أسباب مشكلات الحاضر. لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه? هل من بذور تعيق تقدمنا في الحاضر مزروعة في الماضي وعلينا تتبعها في التاريخ? تلك هي الأسئلة التي يسألها النص الأدونيسي ويحاول الإجابة عنها. لكن الحاضر, يسكن لحظة الكتابة الشعرية, ويتخلل فعل الاستعادة التاريخية التي يقوم بها الشاعر. يحصل ذلك عندما يجعل الشاعر من نفسه, اسما وكيانا وانشغالات معاصرة, شخصية من شخصياته الشعرية, ما يجعل استعادة التاريخ رحلة شخصية للشاعر لفهم الزمان الحاضر. إن التاريخ في شعر أدونيس قناع, وغالبا ما يكثر صاحب (أغاني مهيار الدمشقي) من استخدام الأقنعة في شعره.

صلاح عبد الصبور, يقترب بدوره, ومنذ مجموعاته الشعرية الأولى: (الناس في بلادي) و(أقول لكم) و(أحلام الفارس القديم) مما يسميه النقد العربي في اللحظة الراهنة بـ (القصيدة اليومية), أي تلك القصيدة التي تعنى باليومي والبسيط والعادي فتجعله مدار بحثها الشعري لتقوم بتصعيده والعثور فيه على ما هو شعري ولافت ومثير للدهشة. في قصيدته (شنق زهران) يستخدم صلاح عبد الصبور الكلام السائر بين الناس في القرية (العبارات العامية المتداولة في صورتها الفصيحة, وموجودات القرية وعناصرها) والصور الدالة على البيئة الريفية, وما يبدو تفصيليا جزئيا في حياة شاب قروي, ذاكرا الوشم على صدغ زهران وزنده.

كان زهران غلاما
أمه سمراء والأب مولد
وبعينيه وسامة
وعلى الصدغ حمامة
وعلى الزند أبو زيد سلامة

وفي موضع آخر من القصيدة يصف الشاعر ظهور زهران في السوق بعبارات تلوح فيها البساطة, واستعادة المتداول واليومي.

مر زهران بظهر السوق يوما
واشترى شالا منمنم
ومشى يختال عجبا, مثل تركي معمم
ويجيل الطرف... ما أحلى الشباب

يساعد قصيدة (شنق زهران) في تنمية لغة التفاصيل, كونها تستند إلى سرد حكايتها المركزية مستخدمة تقنية الفلاش باك, وأسلوب التقطيع السينمائي, وجعل مشهد الشنق يفتتح القصيدة ويختتمها. لكن اللافت في القصيدة لا يتمثل في استخدام السرد وسياقاته بل في تطعيم بنيتها باليومي السائر في حياة أهل القرية, وفي تفصيح العامي, وما يبدو مبتذلا مهملا لا تلحظه العين. إن عبد الصبور ينزل بالشعر العربي, في مرحلة مبكرة من ثورة الشعر العربي الحديث, من عليائه ويدخل إلى القاموس الشعري ألفاظا وتعبيرات كان الذوق السائد ينكر شعريتها وينسبها إلى عالم النثر والحياة اليومية للعامة. لكن الشاعر يقتنص هذه العبارات (غير الشعرية) ليصنع منها قصيدة تحكي عن البطولي والوطني, بلغة أقرب ما تكون إلى لغة الناس البسطاء غير المثقفين الذين ينتمي إليهم زهران. وبهذا المعنى تبدأ لغة الشعر, التي أرهقها الكلام المكرر والصور المستعادة من القاموس الشعري الموروث, في التحرر من النمطي والميت والمهجور, لتعيد الاتصال بالتفصيلي والحي وتعمل على (خلع الشاعرية) على (فتات الحياة النثرية).

دنقل وقصيدة القناع

أما أمل دنقل فيتخذ من الشخصيات والوقائع التاريخية, التي يستدعيها في شعره, أقنعة يتراءى خلفها الإنسان المعاصر المطحون بالأحداث اليومية. وهو في اعتماده الدائم على تلك الشحنة التاريخية المتقدة, التي ينهل منها شخوصه وموضوعاته ورؤيته للحاضر المدان, يحول شعره, في مجمله, إلى حكايات رمزية تحكي عن الحاضر من خلال الاستحضار الكثيف للماضي. وهو على مدار تجربته الشعرية استطاع أن يجعل من المادة التراثية - بالمعنى العام لكلمة تراث, حيث يضم التراث كل ما ورثته الأمة من معارف وأساطير وموروث ديني مسيحي أو إسلامي أو فرعوني..إلخ - المُولّد الفعلي للمعنى في قصائده. ومن ثمّ فإن المادة التراثية التي يستحضرها الشاعر في قصائده تمنحنا مفاتيح عالمه الشعري وتقيم بينه وبين قارئه صلات نسب في المعرفة والمشاركة الوجدانية. ولعل هذه القاعدة من المعرفة المشتركة من بين الأسباب التي منحت شعر أمل دنقل جماهيريته وانتشاره وقربه من قلوب قرائه.

يدرك أمل دنقل, بحسه الشعبي العميق, أن المادة التي يستلها من التاريخ, بما فيها من شخصيات ووقائع وإشارات وأساطير وحكايات شعبية, ينبغي أن يعاد تشكيلها في ضوء الحاضر حتى تمتلك قدرة التأثير على قارئ متلهف للتعرف على الصدع القائم بين الماضي والحاضر, على الفارق بين الماضي الذهبي للعرب وحاضرهم الرمادي المهزوم. يبلغ استخدام أمل دنقل للتاريخ أوجه في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة), حيث يكتفي الشاعر باستخدام الإشارة التاريخية إلى حكاية زرقاء اليمامة, التي تشكو إليها الأنا الشعرية هزيمة العرب عام 1967. في هذه القصيدة, التي ولد من رحمها أمل دنقل الشاعر الكبير, مزج مدهش بين لغة المجاز واللغة المباشرة, بين التعبير المجرد ولغة الملموس, بين استحضار الماضي والتعبير عن الراهن, بين الحفاظ على صورة الرمز التاريخي وتجريده من رمزيته, وجعله تعبيرا عن الحاضر, الأعمى. في هذا السياق من التعبير الشعري تجرى مقارنة ضمنية بين نفاذ بصيرة الشخصية التاريخية ورؤيوية الشاعر في الوقت الراهن. ففي كلتا الحالتين حصلت الهزيمة لأن الجماعة لم تلتفت إلى الأخطار المحدقة بها, ولم تستمع إلى قول الحكماء فيها, ما يجعلنا نتساءل من قناعُ الآخر زرقاءُ اليمامة? أم الشاعر?!

أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى, وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف, مغبر الجبين والأعضاء.
أسأل يا زرقاء
عن فمك الياقوت, عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاة على الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاص رأسه.. في لحظة الملامسة!
عن الفم المحشو بالرمال والدماء!!
أسأل يا زرقاء
عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار!
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار?
كيف حملت العار?
ثم مشيت? دون أن أقتل نفسي? دون أن أنهار?
ودون أن يسقط لحمي, من غبار التربة المدنسة?

درويش وتراجيديا التاريخ

هناك نموذج إشكالي آخر في العلاقة بين الشعر والتاريخ, يمثله عمل محمود درويش, فعلى الرغم من أن هناك اشتباكا واضحا بين شعر درويش, والتاريخ اليومي طوال مسيرته الشعرية, فإن هذه العلاقة المعقدة التي تقوم بين قصيدته والحدث السياسي, بصورة خاصة, قد فهمت خطأ في النقد العربي المعاصر, من خلال تأويل كتابة درويش الشعرية بوصفها انعكاسا لقضيته الكبرى (فلسطين). لكن العلاقة بين شعر درويش والتاريخ اليومي لا تقل تركيبا وإيحاء عن تلك العلاقة التي تضفر شعر أدونيس بالتاريخ. ليست قضية فلسطين سوى الخلفية التي يتحرك إنجاز درويش الشعري استنادا إليها, وهي كتراجيديا كبرى في تاريخ البشر المعاصرين, تكوّن العمود الفقري لقصيدته حيث تلقي بثقلها على خياله الشعري وصوره وإيقاعاته ورؤيته الشعرية للعالم. في هذا الإطار يطور درويش, الذي كتب العديد من قصائده تحت ضغط الوقائع التاريخية المعاصرة, علاقة شعره بالحدث اليومي العابر, رافعا هذا الحدث إلى مقام الأسطوري الذي يتخطى العارض والمؤقت والزائل. وقد شهدت تجربة درويش الشعرية انحناءات وتحولات في هذه العلاقة: من كتابة قصيدة غنائية, ذات شبهة رومانسية, تستلهم الحدث اليومي والوقائع العارضة, إلى البناء على هذا الحدث لكتابة قصيدة ملحمية كبرى ذات إيقاعات بطولية صاخبة, وصولا إلى تخليق أساطير جديدة ولحم حكاية الفلسطيني بحكايات الآخرين من الشعوب الغاربة (الأندلسيين, والهنود الحمر, وحتى الكنعانيين..).

في مجموعته الشعرية (لماذا تركت الحصان وحيدا) يصرح محمود درويش أن (... من يكتب حكايته يرثْ/ أرض الكلام, ويملك المعنى تماما!). ويمكن أن نلخص تجربة درويش بأنها تطمح إلى كتابة الحكاية الشخصية, المعجونة بالحكاية الجماعية الفلسطينية, وإضفاء معنى على هذه الحكاية من خلال تصعيد التجربة الفلسطينية, والبلوغ بها أفق الأسطورة, والكشف عن البعد الملحمي فيها, بالشخوص والأحداث, وحشد الاستعارات والصور المركبة, التي تزدحم في قصائده بدءا من (أوراق الزيتون) وصولا إلى (لا تعتذر عما فعلت).

إن درويش يجدل في شعره التطوير الشكلي بمسرحة المأزق الفلسطيني بعد الخروج من بيروت عام 1982 حيث يتجلّى انسداد الأفق في صور شعرية تعبر عن الإرهاق وفقدان الأمل والإحساس بالتراجيديا الفلسطينية وقد قاربت عناصرها على الاكتمال. وفي ذروة هذا الانسداد والتيقن من اليأس الشامل يفتح الشاعر قصيدته على أمل غامض يتمثل في نهايات القصائد المفتوحة.

تضيق بنا الأرض. تحشرنا في الممر الأخير, فنخلع أعضاءنا ونمر
وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا. ويا ليتها أمنا
لترحمنا أمنا. ليتنا صور للصخور التي سوف يحملها حلمنا
مرايا. رأينا وجوه الذين سيقتلهم في الدفاع الأخير عن الروح آخرنا
بكينا على عيد أطفالهم. ورأينا وجوه الذين سيرمون أطفالنا
من نوافذ هذا الفضاء الأخير. مرايا سيصقلها نجمنا.
إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة? أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير? سنكتب أسماءنا بالبخار
الملون بالقرمزي سنقطع كف النشيد ليكمله لحمنا
هنا سنموت. هنا في الممر الأخير. هنا أو هنا سوف يغرس زيتونه, دمنا. (من ديوان (ورد أقل))

في القصيدة السابقة يعيد درويش إنتاج التجربة الفلسطينية, يلخص الشرط التراجيدي للوجود الفلسطيني بعد الخروج. ثمة ممر أخير, وعصافير بلغت بطيرانها سقف السماء ونباتات تنفست هواءها الأخير, وحدود أخيرة, لكن الدم في نهاية القصيدة يعلن عن البداية الغامضة, عن أمل لا شفاء منه في قصيدة درويش, التي تذهب في معراج صعودها الفني إلى إعادة تأمل الأشياء الصغيرة, والحكايات الناقصة لقراءة مشهد الشتات الفلسطيني في أكثر صوره رمزية وتعبيرا عن تراجيديا التجربة الإنسانية. في هذه المرحلة, من مراحل تطور تجربته الشعرية, يجدل الشاعر ما هو وطني ـ قومي, بما هو إنساني, لتصبح التجربة الفلسطينية وجها آخر من وجوه عذاب البشر على هذه الأرض.

يتحول درويش في مجموعتيه (لماذا تركت الحصان وحيدا), و(سرير الغريبة) إلى كتابة شبه سيرة ذاتية, إلى توليف عناصر من عيشه الشخصي مع عناصر من التاريخ الفلسطيني الجماعي, والحكايات والأساطير والاقتباسات القرآنية والتوراتية, للتعبير عن الإحساس العميق بالمنفى الجماعي والشخصي. لكن الانشغال هنا بحكاية السيرة, بتفتح الوعي على هذا العالم والانغماس في الحب, لا يخفف من الشعور الملازم بالغربة والمنفى. كما أن انتصار الحاضر على مشهد الولادة, بتأزم أفق الصراع وثقل الواقع الضاغط, يدفع شعر درويش إلى التلون برؤيا الغريب المنفي, ويصبح اليأس والإحباط, من التجربة الجماعية التاريخية, مهيمنين في فصول (لماذا تركت الحصان وحيدا), التي تنفتح على المجموعة الشعرية التالية (سرير الغريبة), من خلال حضور مادة السيرة الشخصية, والإلحاح على حضور المنفى في تلافيف حكاية العشق, التي يكتب الشاعر قصائده انطلاقا منها. وبذلك يدشن درويش فضاء جديدا لتجربته الشعرية عبر تخليصه هذه التجربة من ثقل الواقعة التاريخية, وإعادته النظر في عناصر سيرته, متأملا الماضي في ضوء الحاضر, جادلا الشخصي بالجماعي, واضعا تراجيديا الوجود الفلسطيني في بؤرة الحياة الداخلية للشاعر.كذلك يفعل درويش في مجموعة (حالة حصار) حين يقيم محورا جديدا في تاريخ علاقته باليومي. إنه يصدر من اليومي الضاغط, ومن الراهن بكل عناصره وقربه من الجلد والأصابع, برائحته وألوانه وأصواته وملمسه الخشن, ليكتب قصيدة إنسانية تنهض من أرض الحدث, لتصوغ أساطير صغيرة عن صمود الفلسطيني في وجه تهديد المحو والطرد خارج تاريخ البشر المعاصرين.

 

فخري صالح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات