عَبَرْتُ حدود المدارك

عَبَرْتُ حدود المدارك

شعر

(إلى أبي.. وكل الأحبة الذين رحلوا.. ولم يرحلوا)

أتأمّلُ هذا المسيرْ:
فآنًا هو الصحو يعقُبُ حلمًا,
وآنًا هو الحلم يعقب صحوا,
وما كنتُ آبَهُ بالصحو,
أو أتحمّسُ للحلمِ,
حتى تشابه صحوي وحلمي
فَأَمْسَيْتُ حُرًا كأنّي أطيرْ
عَبَرْتُ حُدودَ المدارِكِ
حتى تساوتْ لديَّ المشاهدُ:
صار التحقُّقُ مثل التوهمِ,
ما عدت أهتم,
إن كنت أمضي لحلمٍ,
يبدِّدُهُ الصحوُ,
أو كنتُ أمضي لصحوٍ,
يعاجله الفَوْتُ من بعد وقتٍ قصيرْ.
أنا الآنَ صحوي كحلمي,
وخَطْوي مضى,
وسيمضي,
طواعيةً أو برغمي,
وإني لأتْبَعُهُ كصبيٍّ غريرْ.

***

.. ولكنني كلما كنتُ أمضي,
أرى أنني أتحرَّرُ,
شيئًا فشيئًا
من الصحو والحلمِ,
أُفْلِتُ من أسْرِ هذي المداراتِ,
من كل هذا التَّلهِّي
بخوف التوقُّعِ,
أو طمع الأمنياتِ,
لأدخل في غيمةٍ من أثيرْ.
وليس الأثيرُ مكانًا
بل الحقُّ أنّ الأثيرَ افتراض مكانٍ,
ولكنني حينما صِرتُ فيهِ,
تساوى الذي كان صحوًا,
بما كان حلمًا,
فكلٌ مضى,
تاركًا بعض ذكرى,
هي الآن كل الذي قد تبقّى
لقلبي الكسيرْ.

***

ربما قبل ذلكَ كنتُ أخاف وأندمْ,
أو أتحسَّرُ حين أفكرُ:
ماذا لو أنّ السنين التي لاأزال أجاهدُ
تمضي سدى?!
رغم هذا الجهاد المريرْ!
ربما قبل ذلك كنتُ أخافُ,
ولكنني إذ بلغت مكاني,
(الذي هو أفق الأماكن)
أدركت أني انتهيت إلى موطنٍ
قد برئت به من مخافة فقد الوطنْ.
بلغت مكانة من هو يَعْزِفُ عما يكونُ
وليس يخاف الذي قد يصيرْ!

***

[ينهضُ أصحابٌ من وسط مدافنهم ويجيئون, يروحون ويغدونَ, يقولون كلام الأحياء وينصرفونْ!
لِمَ جاءوا, ولِمَ انصرفوا, ومتى?
فأنا لا أدري هل ذهبوا حقًا, أم أني إذ أدخل للمقهى سألاقيهم: إبراهيم ويحيى الطاهر وأمل: إبراهيم إذا يضحك يتنفَّسُ وإذا يتنفّس يضحك, لا يضحك يحيى بل ينقل عينيه من الأوجه للسقف إلى الجدرانِ, وإن نظر إلينا لم يحفل بملامحنا, تنظرنا عيناه ولا تنظرنا, بل تعبرنا وكأنْ بُغيتها لا تتحقق في واقعنا.. يبتلع دخان السيجارة في صوت مسموعٍ, وكأنّ دخان السيجارة شيءُ يؤكل, يضحك إبراهيم, وينتقل الشاعر ليشاغب رجلاً في منضدة أخرى, لا ينسى - حين تلاقت أعيننا أن يسخر مني, سيعود إلينا بعد قليل كي يصف المقهى بالماخور!]

***

زُرْقَةٌ ستضيءُ بوجهي,
إذا ما قضيتُ,
فلا تُنْكِرُوها
فليْستْ سوى لونِ هذا المكانِ,
ومِن سائر اللونِ,
ليس سوى الأزرق الملكيّ,
يليق بأفق الأماكنِ.
فهو المكان الذي تتناهى إليه جميع الجهاتْ
إذن فلتكن زرقةٌ مصطفاةٌ من العالمينَ,
لكي تمنح الداخلين سمات المكانْ.
إنّ لون السحاب إذا ما تجمَّع أزرقُ,
لون الأثير إذا ما تكاتف أزرقُ
والموجُ إذ يتراكب أزرقُ..
هل هو لونُ المسافةِ,
لونُ التعمق في البُعْدِ,
لون التوغّل في جوهر الكائنات?!
أم الخوف والجوع والحزن
ألوانها تتراكم إذْ تنقضي السنوات?!

* * *

لَكَمْ ظَلْتُ أجهد نفسي
أحاول أن أستبين إشارات صحوي وحلمي,
توهََمْتُ أني خسرتُ
توهمت أني انتصرتُ
وما كان خُسْرٌ
ولا كان نصرٌ
وما كنت أوقن من أي شيءٍ
هنا أو هناك
سوى أن أمرًا يراوغني,
يختبي
- ربما -
بين هذا الشهيق
وهذا الزفير!

 

فتحي فرغلي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات