صورة القطّة

صورة القطّة

أفك حزام الأمان, أرجع بالمقعد قليلاً إلى الوراء, أستلقي فيه, ألتفت إلى النافذة.

هل يستطيع البلبل أن يحلق إلى هذا الارتفاع? ليته يستطيع, كيف سيتدبر أمر عيشه الآن وهو المعتاد على الدخن الناعم, من أين سيلتقطه? كيف سينام على الأغصان? أي تشرد هذا? وهو المعتاد على دفء الغرفة? ألن يقتله البرد? من سيؤنس وحشته, وهو المعتاد أن أكلّمه كل صباح? أغسل قفصه, أبدل الماء, أضع له دخناً جديداً, أقسم تفاحة جديدة, أقطع جنحا منها, أثبّته بين القضبان, أين له الآن التفاح?

تحت الثلج المنهمر نزلت مرة إلى السوق, كنت أسقط على الرصيف, لأجله نزلت, لأشتري نصف كيلو تفاح, أربع تفاحات فقط, لم آكل منها أي واحدة, احتفظت بها في الثلاجة, خبأتها له, واحدة فقط أعطيتها لحفيدتي, هل سيسقط في يد أحد? هل ستتسلق إليه في الليل قطة لتنشب فيه مخالبها, وهو نائم على الغصن?

السيدة العجوز إلى جواري, أحس بها تفتح حقيبة يدها, تنظر إلى شيء ما في داخلها تستله قليلاً, تنظر إليه, ثم تقفل الحقيبة, هي من غير شك مرآة صغيرة, تطمئن إلى كحلها, وجهها هادئ من غير زينة, ولكنها منذ إقلاع الطائرة قبل عشر دقائق, فتحت حقيبتها مرتين أو ثلاثاً.

أبى ولدي إلا أن يحجز لي مقعداً في الدرجة الأولى, لا أحب الدرجة الأولى, أحسّ فيها أنني وحدي, في الدرجة السياحية, أحس أني مع أناس كثيرين, ليته اعتنى بالبلبل بدلا من أن يعتني بي, البلبل أحب إلى نفسي من نفسي, (أبي اعذرني, أنا لا وقت لدي, الشركة والاجتماعات والأعمال الكثيرة والمسئوليات والسفر, لا أستطيع أن أستيقظ كل يوم لأبدل الماء وأضع له طعاماً جديداً, أخشى أن أنساه يوماً... (هكذا أخذ يعتذر إلي, ولم تكن زوجته بأفضل منه, قالت لي: (يا عمي, أنت قلت إن رائحة الطعام تؤذيه, إن لم أضعه في المطبخ فأين سأضعه? وأنا لا وقت لدي, أخرج إلى الوظيفة في الصباح الباكر, ولا أعود إلا بعد الثالثة, فأغرق في المطبخ, وهو بحاجة إلى مَن يرعاه, ولدي سامح لا أعرف كيف أتدبر أمره, إذا تأخرت السيارة التي تحمله إلى الروضة بضع دقائق, توترت أعصابي, فاضطر إلى توصيله في سيارة أجرة, نصف راتبي أنفقه على الروضة وسيارات الأجرة..) واستمرت تثرثر وتثرثر, ماذا سيكلفها طعام البلبل? أنا كنت سأشتري لها خمسة أرطال من الدخن, ولكن أعرف, هي لا تريدني ولا تريد البلبل.

جارتي العجوز, تغلق حقيبتها, لاشك أنها قد اختلست نظرة إلى المرآة, ماذا? هل سنمضي خمس ساعات هكذا صامتين, في البيت لا أحد يكلمني, أقعد في الشرفة وحدي, أضع القفص على الحافة, في الشمس الدافئة, آتي بجنح تفاحة, قبل أن أثبّتها بين القضبان, أمد له إصبعي فيداعبها بمنقاره الناعم, يدغدغها, ثم يمضي فيرسل الألحان, يشدو, يرجّع النغم, يقطعه, ثم يرسله رهواً, يمده, ثم يعيد تقطيعه, يهدأ قليلا, ثم يعيد إرساله عاليا وهو يمده ويمده ثم يقطعه فجأة, ينقر في التفاحة, يطري بها حنجرته, ويعود إلى التغريد, وهو ينظر إليّ بعينه السوداء الملتمعة, وريشه الأصفر يأتلق في الشمس ويشع مثل الذهب, مثل حقل حنطة, مثل شعر حفيدتي رجاء, والوفرة من الريش الناعم في عنقه تقبّ وتنتشر ثم تهمد لتقب ثانية, لا تعرف أنشوان هو أم غضبان?

حفيدتي رجاء, قالت لأمها: (أمي أريد البلبل, جدي سيسافر, ضعي البلبل في غرفتي, أنا سأعتني به) قالت لها أمها: (لا, يا ابنتي, الطيور في البيت مؤذية جداً), ردت البنت (ما هذا يا أمي, لا قطط ولا عصافير, حتى صورة القطة رأيتها مرة معي فمزّقتها) وتتكلم ابنتي الدكتورة أمل: أنت لا تعرفين, في ريش الطيور وشعر القطط أبواغ, تطير في الهواء, تدخل مع التنفس إلى الرئتين, لتستقر في الحويصلات الهوائية, فتسّدها, يجب أن أصارحك وإن كنت بعد مازلت صغيرة, تأثير هذه الأبواغ في البنت أكبر من تأثيرها في الشاب, وأذاها لا يظهر إلا عندما تكبر البنت وتتزوج, ولاسيما في أثناء الحمل), أحسنت أيتها الدكتورة, حقا, أنت طبيبة ماهرة, وأم شاطرة, ولكنك ابنتي ولا أستطيع أن أصفك بأي صفة تؤلمني, فأنت الأحب إلى قلبي, عندما تضعين السمّاعة على صدري, أو تقيسين ضغطي أنسى كل شيء.

والسيدة العجوز ما تفتأ تفتح حقيبتها وتغلقها, تنظر إلى المرآة فيها, ولكنها لا تمسح شعرها ولا تسوي حاجبها, فقط تكتفي بالنظر إلى المرآة, تختلس النظر إليها اختلاساً, هل أحدثها عن البلبل? عندما قعدت بجواري, ألقت السلام بهدوء, حتى إني لم أسمع ماذا قالت, مساء الخير أم صباح الخير, هل أبادرها الكلام, هل عندها بلبل وقد تركته مثلي? كيف أسألها?

المضيفة تؤدي عملها برتابة, تحيي, تبتسم: (قهوة أم شاي), (شاي دون سكر, إذا سمحت), وأضع الفنجان على المنصة الصغيرة أمامي, جارتي العجوز تشرب الشاي مثلي, ولكني أراها تحرّك السكر فيه.

أقول لابنتي: (ولكن يا أمل? أنت ولدت ونشأت وكبرت وهذا البلبل كان في البيت, أنت وكل من أخويك عماد وأمجد, ما مرضت لا أنت ولا أحد من أخويك?) وترد: (بابا, هل نسيت, نحن عشنا في دار مفتوحة واسعة, فيها فناء كبير, والبركة في وسط الفناء, وشجرة التوت الكبيرة تغطي البركة) أقاطعها: (آه, والشجرة مملوءة بالعصافير والحمام والزرازير والأعشاش حتى الغربان كانت تنام فيها, وما رأينا الأبواغ ولا سدت رئتي ولا رئة أحد من إخوتك) وتعلق: (هل نسيت يا أبي, تلك الدار كانت مفتوحة, والهواء فيها متجدد, والسماء فيها واسعة, نحن الآن نعيش في دور مغلقة, اختلفت الحياة يا أبي, تغيرت طرز العيش), وتصمت ثم تتكلم وهي تضحك: (ولا تنس أنك رزقت بأمجد في هذه الدار, ولا تنس أيضاً أن هذا البلبل ليس هو ذاك البلبل الذي عاش معنا, ذاك مات, الله يرحمه, هذا اشتريته أنت منذ ثلاث سنوات, أو خمس).

هل أحكي للعجوز عن دار أبي? عن أيام الشباب? عن البلبل الذي اشتريته وهو فرخ صغير, وزارني صديقي علاء, قال لي: (هذا لم يدرس, وإذا تركته هكذا فلن يتعلم الغناء, قد يصفر, ولكنه لن يجيد الغناء), قلت له وأنا أضحك: (كيف يمكن أن يدرس? وإلى أي مدرسة سوف أرسله? (أجابني بجد: (غدا آتيك بالأستاذ), وفي اليوم التالي جاءني بقفص مغطى بقماش أبيض نظيف, رفع الغطاء, فإذا أنا أمام بلبل أبيض نقي البياض, مذهل, يتلفت, ينظر هنا وهناك, كأنه يتعرف إلى المكان, حدقتاه السوداوان تلتمعان بذكاء, يتأملني, ينظر إلى صاحبه, يعيد النظر إلي, سألته: (لم هذا الغطاء?) أجاب: (حتى لا يصيبه تيار الهواء, أحضرته في سيارة أجرة, عليك أن تعتني بالبلبل أكثر من عنايتك بنفسك, أبعده عن المطبخ, جنبه روائح الطعام), ثم علق القفص على الجدار الغربي في داخل الإيوان المفتوح على فناء الدار, وعلق قفص بلبلي تحت دالية العنب, في الظل, وهو يقول لي: (جنبه الحر, ولا تدعه يرى الأستاذ, ولا تدع الأستاذ يراه, بعد أربعة أيام أو خمسة, يمكنك أن تعلقه هنا في الإيوان تحت قفص الأستاذ لا فوقه, هذه هي الأصول, يجب أن يسمع صوته من غير أن يراه, في اليوم السابع ستسمع تغريده, قد يغرد, ولكن إذا لم يغرد مثل الأستاذ, فافتح باب القفص وأطلقه, لأنه هذا يعني أنه مبندق, غير أصيل, على كل حال, أنا سأرجع بعد أسبوع, لآخذ القفص, لا أريد أن أوصيك, أنت ستعتني بالقفص والبلبل من غير شك) وأنا أودعه عند الباب سألني: (أرجو ألا يكون في البيت قطة) أجبته: (اطمئن أمي لا تحب القطط, إذا رأتها على السطح أسرعت إلى طردها, لذلك ترى شجرة التوت عندنا مأوى لكل العصافير والحمائم وحتى الغربان).

بعد أسبوعين زارني صديقي, سألني: (كيف التلميذ?) أجبته: (استمع إليه, فاق أستاذه), علق: (صدق المثل, من خلّف ما مات), سألته: (ماذا حصل?) أجاب: (ليتني تركت البلبل والقفص عندك, بعد يوم من أخذي القفص, رجعت إلى البيت, فوجدته واقعاً في فناء الدار, وعلى الأرض بقع دم, والريش الأبيض متناثر, هي قطة الجيران من غير شك).

وجاءت زوجتي مثل أمي لا تحب القطط, أحبت البلبل, بدأت تعتني به, في أيام الخطبة كنت أحدّثها عنه, كم كان يحلو لي الحديث عنه, وكم كان يطيب لها الاستماع: (غدا ترينه, يألفك, أشقر, ذهبي الشعر, تضعين له جنح التفاح فيداعبك, ينقر إصبعك بلطف), كانت تشتاق إليه, تقول: (أمس رأيته في نومي, فتحت الباب لأطعمه, فأفلت مني, هرب, طار), أرد ضاحكا: (لا تخافي, لن يهرب, لن يطير) وكان فعلا قد ألف القفص, مرة فتحت له الباب, حثثته بيدي, قفز مدهوشاً خارج القفص, طار, ثم حط فوقه, حثثته, طار إلى غصن شجرة التوت, قفز من غصن إلى غصن, وأنا أرقبه, ثم عاد فحط على القفص, أخذ يقفز حوله, كأنه يبحث عن الباب, ولما فتحته له, دخل فيه.لا أعرف الآن مصيره? القفص حطمته, قالت لي ابنتي: (احتفظ بالقفص إلى أن ترجع من باريس, عندئذ تشتري بلبلاً آخر), ولكنني أبيت, لا معنى للقفص من غير بلبل, ولا معنى للبلبل من غير قفص, عندما كنت في مصر, زرت متحف القاهرة, رأيت المومياء, لقد استطاع المصريون القدامى حفظ الجسد, ولكن لا قيمة للجسد وحده من غير البا, أي الروح, وهم لم يحفظوا الجسد إلا لكي تعود إليه الروح, ومن الطريف أنهم تصوّروا الروح في هيئة طائر.

أنظر من النافذة, آه, نحن فوق البحر, جارتي العجوز لاتزال تحتسي الشاي, وهي بهذا العمر تقضم قطعة الحلويات, يبدو أنها لا تشكو من السكري مثلي, كيف سأبدأ الحديث معها? هل أسألها لماذا أنت مسافرة إلى باريس? وإذا سألتني فكيف سأجيبها? هل أقول أنا ذاهب إلى ولدي أمجد, الطبيب المختص في الأمراض التناسلية لإجراء عملية? لا أعرف هل يرجع جسدي وروحي معا أم يرجع جسدي وحده? هل تطير مني الروح?

طار البلبل, أنا طيّرته بيدي, أمسكته بيدي وأطلقته في الفضاء, لم أجد من يرعاه بعدي, ابني قال ممازحاً: (فلنذبحه ولنأكله), أحس بامتعاضي, فقال: (والله أنا أمزح), ابنتي قالت: (فلنبعه هو والقفص) سألتها ممازحا: (وماذا سنفعل بثمنه?) أجابت: (نشتري قفصاً صغيراً فيه عصفور صناعي صغير, يستجيب لأي صوت, كالتصفيق مثلاً, أو لصوت إغلاق الباب, فيأخذ في التغريد, أنا وعدت ابنتي رجاء بذلك) زوجها قال: (أطلقه يا عمي, أطلقه في الفضاء الرحب).

زوجتي عنيت بالعصفور, ظلت تعنى به إلى أن رزقنا بابنتنا الأولى أمل, عنذئذ قل اعتناؤها به, بل أخذت تتذمر منه, وعندما جاء الولد الثاني عماد, قل اهتمامها به, بل نسيته كلياً, وازداد أنا بالمقابل تعلقي به, ثم انتقلنا إلى الدار الجديدة, دارنا المغلقة, بعد شهرين تقريباً مات البلبل, عاش عشر سنوات, بعد ذلك لم أشتر غيره. قبل خمس سنوات توفيت زوجتي, ثم أحلت أنا على التقاعد, بلغت الخامسة والستين, ضجرت من الوحدة, مللت, اشتريت هذا البلبل, أرجعني إلى أيام الشباب, ذكرني البلبل الأول, وجدت فيه أنسي وتسليتي.

السيدة العجوز إلى جواري ترجع بمقعدها إلى الوراء, مقعدها يوازي مقعدي, تستلقي فيه, أحس بها وهي تفتح حقيبة يدها, تستل منها المرآة, تخرجها من الحقيبة, ترفعها إلى مستوى نظرها, ترى وجهها, هكذا أحس بها, من غير أن ألتفت, يدفعني الفضول, ألتفت قليلاً, أختلس النظر إلى المرآة, غير معقول, ليست مرآة, هي صورة, أستوي في مقعدي, ألتفت إلى السيدة مباشرة, أتكلم:

- جميلة جدا هذه القطة, لاشك أنها عزيزة إلى نفسك.

تلتفت إليّ السيدة العجوز, وجهها يقابل وجهي, مازال فيه بقايا من جمال أنيق, تتكلم بصو هادئ:

- شكرا لإطرائك, هي أثيرة جدا إلى نفسي, لكن مع الأسف, تركتها, وسافرت, لم أجد من يؤويها, كل أولادي تشتتوا في البلاد, واحدة في كندا والثانية في أستراليا, ولدي الوحيد في باريس, أنا مسافرة لحضور حفل زفاف حفيدي, أعزّ صديقاتي اعتذرت عن إيواء القطة, شقيقتي قالت لي: (سافري, واتركيها, ما المشكلة? آلاف القطط تسرح في الشوارع, لن تجوع), أخي لم يشأ سماع حديثي عنها, قال: (أرجوك, لا تذكري كلمة قطة أمام زوجتي), لا أعرف لماذا تنفر زوجة أخي من القطط إلى هذا الحد, ترى هل أرجع فأجدها على قيد الحياة?

تصمت هنيهة, ثم تتكلم بصوت متقطع كأنها تحبس دموعها:

- أرجو ألا أكون قد أزعجتك بالحديث عنها?!

هل أحدثها أنا عن البلبل?

 

أحمد زياد محبك

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات