اليمين القديم ومستقبل التيار المحافظ

اليمين القديم ومستقبل التيار المحافظ

في عام 1993 ظهر للمؤرخ السياسي الأمريكي جستين ريموندو كتاب بعنوان (استصلاح اليمين الأمريكي: تراث الحركة المحافظة المفقود) حاول أن يكشف فيه عن الأسباب التي أدت إلى ضعف وتراجع التيار المحافظ Conservatism الذي قدم لأمريكا عددا من أهم رؤسائها من خلال الحزب الجمهوري المحافظ, وربما كان الرئيس رونالد ريجان أعظمهم على الإطلاق - على الأقل في نظر المؤلف - وقد ذهب الكتاب إلى أن انتهاء الحرب الباردة كان من أكبر أسباب هذا التراجع والتدهور وأسهم في ذلك سقوط حائط برلين وتفكك ( إمبراطورية الشر) وتحرر الشعوب التي كانت ترزح تحت وطأة النفوذ السوفييتي.

والواقع أن عددا كبيرا من الكتاب والمفكرين السياسيين في أمريكا بالذات يذهبون إلى أن نهاية الحرب الباردة أوقعت التيار المحافظ في أزمة حادة لأن الشيوعية كانت تدفع الاتجاهات المختلفة داخل التيار المحافظ العام إلى التماسك والالتحام معا للوقوف في وجه الزحف الشيوعي على ما يقول جاكوب هومبرجر في عدد أكتوبر 1992 من مجلة Freedom Today. فلما زال الخطر ظهر الانقسام في صفوف المحافظين وأمسكت الاتجاهات المختلفة بخناق بعضها البعض وبدأت التصدعات تهدد التيار - أو الحركة - ككل وتشعبت الأفكار حول بعض المشكلات الأساسية مثل هجرة الأجانب إلى الغرب وحرية التجارة والملكية الخاصة وسياسة الضرائب على الدخل العام وغير ذلك كثير, لدرجة أن جستين ريموندو يقول إن التيار المحافظ - أو الحركة المحافظة - يمثل قضية مهمة عانت الفساد والخذلان على أيدي أصحابها.

ويواجه التيار المحافظ في الوقت الحالي كثيرا من الهجوم والنقد وحركات التشكيك في فاعليته وجدواه والرسالة التي يحملها والوظيفة التي يقوم بها وقدرته على الصمود في المستقبل أمام التغيرات السريعة التي تحدث في كل جوانب الحياة وبخاصة في المجالات السياسية والاجتماعية, وإزاء صحوة الشعوب وتمردها على الأوضاع العامة السائدة في كثير من دول العالم بما في ذلك الدول الغربية المتقدمة, ومطالبة هذه الشعوب بمزيد من الحرية والديمقراطية والتطبيق العملي الدقيق والأمين لمبادئ حقوق الإنسان والقضاء على الامتيازات التي تحظى بها بعض الطبقات أو الشرائح الاجتماعية على حساب الطبقات والشرائح الأخرى دون أن يكون هناك مبرر أو سند حقيقي يشفع لها الانفراد بهذه الامتيازات واعتبارها حقوقا (طبيعية) لها دون غيرها. فالعصر الحالي هو بغير شك عصر انصراف الشعوب عن حكوماتها ورفض سياساتها والتشكيك في نزاهتها وفي قدرتها على إدارة شئون الدولة بما يحقق مصالح ومطالب الطبقات والفئات الفقيرة, بل واعتبار بعض هذه الحكومات من أشد أعداء تلك الطبقات نظرا لانحيازها الواضح نحو الفئات الرأسمالية الغنية ومحاولة تركيز كل السلطات في أيديها بحيث تؤلف في آخر الأمر ما يمكن اعتباره طبقة أرستقراطية متميزة تجمع بين السلطة السياسية والقوة الاقتصادية وترفض التغيير تحت ستار المحافظة على تماسك الدولة وتحقيق الأمن السياسي والاجتماعي. وهذه كلها من سمات الفكر المحافظ وأسلوبه في الحكم. وقد وصل الأمر في هذا الصدد ببعض الكتاب إلى أن يعرفوا التيار المحافظ بأنه (سيطرة الطبقة الأرستقراطية على المجتمع) وأن التيار المحافظ ( لا يتفق مع الديمقراطية أو النجاح أو الحضارة بشكل عام وأنه نظام هدام يقوم على عدم الاعتراف بالتساوي وعلى التحامل ويعتمد على الخداع وليس له مكان في العالم المعاصر).

وعلى الرغم من كل ما يثار حول التيار المحافظ من جدل ونقد وهجوم فإن عددا قليلا من الدول في العالم هي التي يوجد بها حزب سياسي يحمل رسميا اسم (حزب المحافظين) إذ يكاد الأمر يكون مقصورًا على إنجلترا والدول الإسكندينافية وبعض الدول التي ارتبطت تقليديًا ببريطانيا فيما يعرف باسم (الكومنولث)- وذلك حسب ما ورد في (قاموس تاريخ الأفكار) - وإن كانت الأحزاب اليمينية تصف نفسها في العادة بأنها (محافظة) وكلها تميل على أية حال في سياستها إلى التمسك بما هو تقليدي و(المحافظة) عليه أكثر مما تميل إلى التجديد والتغيير وتخشى الاتجاهات والميول الثورية وتقبل فكرة التقدم بشرط أن يتم تدريجيا وألا يتعارض مع النظام القائم بالفعل. وكثيرا ما يساء فهم هذا الشرط الأخير إذ يرى الكثيرون أن التيار المحافظ بمقتضى هذا الشرط يقف ضد جهود التغيير. ومع ذلك فإن الرأي السائد لدى الكثيرين بمن في ذلك بعض المفكرين والكتاب (المحافظين) أنفسهم هو أن التيار المحافظ يؤلف قوة إيجابية هائلة تستطيع أن تحقق كثيرا من التقدم والنجاح والازدهار في المجالات السياسية والاقتصادية المرتبطة بالنظام الرأسمالي الذي يقوم على تكويم الثروات. ولكن الرأسمالية الجامحة التي تنجم عن ذلك قد تصبح قوة سلبية هائلة أيضا بل ومدمرة إن لم تخضع لقواعد ومبادئ محددة تتولى ترويضها والتحكم فيها وتوجيهها لمصلحة المجتمع ككل وليس لمصلحة فئات محدودة معينة حتى لا يؤدي ذلك إلى التمرد والرفض مما يهدد فرصة التيار المحافظ في الاستمرار في الوجود, ولا تفرق (العقلية المحافظة) - حسب تعبير قاموس تاريخ الأفكار أيضا - بين المجتمع والدولة ولا بين الأخلاق والسياسة, إذ يجب أن يخضع المجتمع لزعامة تدعي لنفسها هذا الحق استنادا إلى الدين أو إلى المكانة الاجتماعية المتميزة مما يحصر السلطة في أيدي فئة محددة ومحدودة من الناس مع رفض فكرة إمكان وجود شروط أساسية ترتكز على مبادئ اجتماعية عقلانية يمكن أن تؤدي إلى انتقال السلطة لمن تتوافر فيهم هذه الشروط. فثمة فوارق أساسية بين البشر تستلزم بالضرورة وجود اختلافات في الحقوق والواجبات بما في ذلك حق ممارسة الحكم. ولذا, فإن التيار المحافظ يرفض مبدأ حكم الأغلبية الديمقراطية بل وحكم الصفوة المثقفة ولا يعترف إلا بزعامة تلك الفئة المتميزة من الأرستقراطيين الذين توارثوا ممارسة الرياسة والزعامة وأصبحت لهم خبرة طويلة تؤهلهم للتدخل في تنظيم حياة الطبقات الأخرى التي تفتقر إلى هذه الإمكانات والقدرات وتوجيهها بما يحقق مصالح الطبقة الحاكمة دون أدنى اعتبار لحقوق الآخرين.

وسطية التيار المحافظ

وقد يكون في ذلك شيء من المبالغة ولكنه يعطي فكرة عن المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها التيار المحافظ ويكشف عن أوجه الخلاف بين هذا التيار وبين الاتجاهات الليبرالية والتحررية والفوضوية التي ترى أنه ليس ثمة ما يدعو إلى وجود الدولة من ناحية, وبين الحركات الفاشية والشمولية والسلطوية التي ترى أن الدولة أهم من الفرد من الناحية الأخرى. فالتيار المحافظ يحتل مكانا وسطا بين هذين الاتجاهين بالرغم من كل الانتقادات التي توجه إليه وبالرغم من كل ما يعانيه من نقائص تثير الشك حول إمكان استمراره في المستقبل إن لم تدخل عليه كثير من التعديلات الجذرية. وهذه حقيقة يدركها كثير من الكتاب والمفكرين المحافظين أو المتعاطفين مع التيار المحافظ والقيم التي يمثلها والتي كان يتمسك بها اليمين القديم وبخاصة أثناء الحرب الباردة ثم انصرف عنها عدد من زعماء و مفكري وأتباع هذا التيار ولم يعودوا - من الناحية الواقعية - يهتمون كثيرا بالقيم التقليدية. وقد وصل الأمر بالتيار المحافظ إلى درجة من السوء في الآونة الأخيرة بحيث ظهرت بعض الكتابات تنعى ذلك التيار على اعتبار أنه دخل في مرحلة الاحتضار الأخيرة التي تسبق الموت وتستخدم في ذلك عبارات أشبه بتلك التي تستخدم في تأبين الموتى, بل إن عبارة (موت التيار المحافظ) كثيرا ما تظهر في عناوين المقالات الصحفية بل والدراسات الرصينة. وهذا الوضع المتأزم الذي يجد التيار المحافظ فيه نفسه يشبه إلى حد كبير الأزمة التي تمسك بخناق الاتجاهات الليبرالية التي تعاني هي أيضا كثيرا من دعاوى التشكك والهجوم والنقد على ما رأينا في مقال سابق. بل إن ثمة نوعا من الهجوم المتبادل بين المفكرين الليبراليين والمحافظين حيث يشكك كل فريق في قدرة التيار الآخر على الاستمرار في الوجود وجدوى بقائه على الإطلاق وقدرته على التكيف مع الأوضاع المستجدة والمتغيرة بصفة دائمة. وهذا كله يكشف عن عمق الورطة التي تحيط بالفكر الاجتماعي والسياسي وعدم التأكد حول ما سيكون عليه هذا الفكر في المستقبل وما يحمله الغد للمجتمع الإنساني من مفاجآت.

فكأن أهم ما يؤخذ على التيار المحافظ - وهو ما قد يؤدي إلى تراجعه بشدة في المستقبل - هو مؤازرته للطبقات العليا في المجتمع ومساعدتها على الارتقاء والتقدم السياسي والاقتصادي وتكويم الثروات مما يثير قلق وانزعاج الطبقة الوسطى وطبقة العمال وأشباههم ويشيع عدم الاطمئنان وعدم الاستقرار في المجتمع نتيجة للتفاوت الشديد وما يترتب عليه من اختلال التوازن بين هذه الطبقات وانتشار السخط والتمرد وبخاصة بين أفراد الطبقة الدنيا التي تنتشر فيها البطالة.

ما وراء الستار

وقد يكون هذا الاتهام قديما وظهرت حوله كتابات كثيرة ولكن الجديد في الأمر هو شيوع وانتشار هذه الأفكار بين الجماهير العادية التي باتت تعتقد أن التيار المحافظ يتستر وراء بعض القضايا الاجتماعية الكبرى لتحقيق أهداف اقتصادية خاصة بتلك الطبقة المتميزة على حساب مجموع الشعب وأن كل ما يهتم به (المحافظون) هو أن يشعروا هم أنفسهم وأن يشعر الآخرون أيضا بأنهم يؤلفون طبقة أرستقراطية متميزة وتحتل مكانة خاصة في المجتمع وأن كل ما يهدف إليه هؤلاء (الأرستقراطيون) هو أن يرث أولادهم تلك المكانة المتميزة وذلك بصرف النظر عن قدراتهم وإمكاناتهم الذاتية حتى يضمنوا بذلك استمرار السيطرة والتحكم على أقدار الشعوب. فالاتجاهات المحافظة بكل أشكالها وفي كل زمان ومكان تقوم على الغش والخداع والتزييف, بل إن بعض الكتاب المناوئين للتيار المحافظ يذهبون إلى وصف الأرستقراطية بأنها حالة سيكولوجية مرضية وأنها على هذا الأساس مسألة مفتعلة ومصطنعة وليست وضعا طبيعيا مما قد يستوجب القضاء عليها. وليس من شك في أن الفكر المحافظ كان قد سيطر على العالم خلال الجزء الأكبر من تاريخه. ولذا, فليس من السهل القضاء عليه والتخلص من هيمنته سواء في المجتمعات التقليدية المحافظة بحكم الثقافة التي تسود فيها والظروف المحيطة بها أم في المجتمعات الغربية المتقدمة التي يحتل فيها اليمين المحافظ مكانة عالية متوارثة منذ القدم بحيث ظلت تتقبل دون معارضة نظام التسلسل والتراتب الاجتماعي الذي تقف الأرستقراطية على قمته. ولكن الظروف تغيرت وبخاصة في العقود الأخيرة ولم يعد الناس (يعبدون أباطرتهم وملوكهم وحكامهم) كما كان عليه الحال من قبل. ولقد درجت الشعوب منذ القديم على البحث عن الحرية وعن قيم الديمقراطية حتى وإن لم يعرفوا الكلمة, وقد وصل البحث عن هذه القيم ذروته الآن- حسب ما يرى أعداء التيار المحافظ - مما يبشر بقرب نهاية ذلك التيار. الأمر الثاني الذي يأخذه الكثيرون على التيار المحافظ ويرون أنه يحمل بذور القضاء عليه هو (الموقف اللاإنساني) الذي يتبناه المحافظون في كثير من الدول الغربية من بعض المبادئ التي أقرتها وثيقة حقوق الإنسان وأوضح مثال على ذلك هو المواقف الرافضة لتقبل المهاجرين من المجتمعات الفقيرة إلى الدول الغربية وعدم السماح باندماجهم في المجتمع والثقافة الجديدين لاعتبارات عرقية أو دينية وذلك تحت ستار محاربة الأصولية والإرهاب. بل الأكثر من ذلك هو عدم التعاطف مع رغبات وآمال الجماهير حتى في المجتمعات الغربية ذاتها, والمثال على ذلك هو الموقف المعارض لنظام الضمان الاجتماعي حيث يرى المحافظون أن مراعاة كبار السن في المجتمع التزام أخلاقي يقع على عاتق الأجيال الشابة إزاء الشيوخ والعجائز وأنه يجب أن يترك للاختيار الحر والإرادة الشخصية وتقدير الأولاد لواجباتهم إزاء آبائهم وأمهاتهم حين تتقدم بهم السن. ولذا, فحين قامت أمريكا بسن قانون الضمان الاجتماعي في الثلاثينيات عارضه المحافظون ورأوا فيه (برنامجا ليبراليا) يجب الوقوف ضده وأن من العار أن يستغل كبار السن أحكام القانون لكي (يسلبوا) غيرهم ثرواتهم.

ثم هناك, ثالثا, الخلافات في وجهات النظر والمواقف من بعض المشكلات الاجتماعية والسياسية نتيجة للتخلي عن المبادئ الأخلاقية والفلسفية التي كانت تحكم التيار المحافظ القديم مما أدى إلى نشوب معارك سياسية بين بعض الفصائل المحافظة داخل التيار العام كما هو الحال في اختلاف الموقف من هجرة الأجانب إلى الغرب وحرية التجارة والملكية الخاصة وسياسة الضرائب على الدخل العام وغير ذلك. ففي الوقت الذي يعتبر فيه الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا العائلة مثلا نظاما اجتماعيا يقوم على أساس الزواج بين رجل وامرأة من أجل تنشئة ورعاية النسل, يختلف المحافظون البريطانيون فيما بينهم حول قبول هذا التعريف. وبينما يعترف الاتحاد الاجتماعي المسيحي بدور الدين في أداء رسالتهم السياسية, يرفض المحافظون البريطانيون تدخل الدين في السياسة. وبينما يرى الاتحاد الاجتماعي المسيحي أن دخول ثقافات وأعراق وأديان ولغات غريبة إلى المجتمع يهدم وحدته الثقافية والاجتماعية, يرى المحافظون البريطانيون غير ذلك, وهكذا. وقد تبدو هذه الاختلافات مجرد خلافات سطحية في وجهات النظر ولكن الكثيرين يرون أن استفحال هذه الخلافات يهدد مستقبل التيار المحافظ ككل, ولذا, ينبغي العمل على تداركها.

محافظون جدد وتيار رحيم

ولقد أدرك أنصار التيار المحافظ مدى الأخطار التي تتعرض لها هذه الاتجاهات المختلفة المتضاربة والتي تنعكس بالضرورة على فاعلية التيار العام نفسه وتثير الشكوك حوله وتدفع إلى الانصراف عنه, ولذا تُبذل جهود مستميتة للدفاع عنه والكشف عن الجوانب الإيجابية في الرسالة التي يحملها مع بعض المحاولات لاستحداث أساليب جديدة لتحقيق هذه الرسالة وإبعاد الشبهات التي تحوط بها وإبعاد التهم التي توجه إليها دون أن يؤدي ذلك كله إلى الخروج على المسار الأساسي للتيار أو إدخال تغييرات جذرية على المفاهيم الأساسية. وقد تبلورت هذه الجهود في وقت من الأوقات عن قيام ما يعرف باسم التيار المحافظ الجديد وظهور المحافظين الجدد. وترجع هذه التسمية في الأغلب إلى إرفنج كريستول ونورمان بودهوريتز, ولكن يبدو أن هذه (الحركة) لن تعيش طويلا حسب توقعات بعض المفكرين الأمريكيين على الرغم من أنها أفلحت ولو ضمن حدود معينة في تحسين الصورة السائدة عن أهداف التيار المحافظ الذي نشأ بعد نهاية الحرب الباردة. والطريف هنا هو أن بعض هؤلاء المفكرين يرون أن (حركة) المحافظين الجدد ليست في حقيقتها سوى مؤامرة ليبرالية (لاختطاف hijacking) النزعة المحافظة لمصلحة اليسار على ما يقول جيمس نويشترلاين في مقال نشره بمجلة First Things (مايو 1996) تحت عنوان (نهاية التيار المحافظ الجديد).

ثم ظهر أخيرا التعبير الذي استخدمه الرئيس جورج دبليو بوش والذي يثير كثيرا من السخرية في الصحافة الأمريكية ذاتها, وهو (التيار المحافظ الرحيم) والذي يرى الكثيرون أنها تسمية فارغة وتافهة وخالية من المعنى, وأن (التيار المحافظ الرحيم) أشبه شيء بالمرأة الحامل, وأن الإنسان إما أن يكون محافظا أو ليبراليا ولكنه لا يمكن أن يجمع بين الاثنين, بل إن هناك من يذهب إلى حد القول إن وصف التيار المحافظ بأنه رحيم هو وصف مثير للاستفزاز أو أنه نوع من التحايل للتقرب من الليبرالية أو التشبه بها, وأنه إذا كان هذا هو كل ما يستطيع بوش أن يقدمه للشعب الأمريكي وللعالم فقد يكون من الأفضل إسقاطه هو نفسه (أي الرئيس بوش) من الاعتبار وهكذا. وهذا كله يشير إلى خطورة الأزمة التي تمسك بخناق التيار المحافظ بمختلف اتجاهاته وصوره, مع أن الرئيس بوش وأنصار هذا الاتجاه (الرحيم) يرون فيه محاولة جادة للتجاوب والتعاطف الاجتماعي الذي يتمثل في تخفيض الضرائب وإتاحة كل فرص التعليم أمام جميع الأطفال بغير استثناء والعمل على الارتقاء الاجتماعي بكل شرائح المجتمع وفئاته وبخاصة الأقليات العديدة المختلفة وتأهيل الفقراء للاعتماد على أنفسهم بدلا من الاعتماد في كل شيء على الحكومة وغير ذلك من الإجراءات التي تهدف إلى دحض ما يعتبرونه نوعا من الافتراء على التيار المحافظ بأنه يقوم على أسس ومبادئ من شأنها تشجيع الفردية والأنانية وعدم المبالاة بالتكوينات الجماعية وإهمال شئون الطبقات الفقيرة وعدم الاهتمام بتوفير العدالة الاجتماعية فضلا عن الانغلاق على الذات والموقف العدائي من الأجانب. فالتيار المحافظ يحاول إذن ما وسعه أن يتلاءم مع الظروف المستجدة ومع صحوة الشعوب وذلك حتى يضمن لنفسه استمرار البقاء في المستقبل بالرغم من كل التوقعات أو حتى التنبؤات باحتمال اختفائه. ولكن هل ينجح ذلك التيار في تحقيق ما يصبو إليه, وهل تنجح محاولاته في إقناع الشعوب وبخاصة الطبقات (الدنيا) بأنه يعمل بالفعل لمصلحتها ويهدف إلى رقيها وتوفير العدالة الاجتماعية لها? الكثيرون يشكون في ذلك. لكن غدا لناظره قريب.

 

أحمد أبو زيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات