من قضايا الثقافة العربية في القرن العشرين: مأساة القصبجي مع أم كلثوم

من قضايا الثقافة العربية في القرن العشرين: مأساة القصبجي مع أم كلثوم

لم يكن دور محمد القصبجي في حياة أم كلثوم الأستاذ الثالث لها وحسب, لكنه مَنْ كوَّن لها الفرقة الموسيقية والمطّور لصوتها .. فماذا حدث?

إن من يلم إلماما تاما وعميقا بكامل الرصيد الموسيقي لمحمد القصبجي - وعلى الأخص ذلك الجزء من رصيده الذي أنجزه من خلال صوت أم كلثوم في عقدين من الزمن (1925 - 1945), ويدرك تمامًا تفاصيل مسيرة التطور الهائل الذي حققه في تطوير الموسيقى العربية (بعد سيد درويش ومع محمد عبدالوهاب), خاصة من خلال اعتماده على صوت أم كلثوم, لا يستطيع أن يصف الأزمة التي نشبت بينه وبين أم كلثوم, وأدت إلى إنهاء قسري لدوره كملحن عبقري, وتحويله إلى مجرد عازف عود, يؤدي وراءها ألحان سواه من الملحنين الذين يحتل معظمهم مراتب أدنى من مرتبته في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة, وعزلته عن موقعه في قيادة فرقتها الموسيقية - الذي ظل يشغله عقدين من الزمن - يدرك أن ما حدث للقصبجي هو مأساة حقيقية. ويكبر حجم المأساة حين نعلم أن نتيجتها تجاوزت القطيعة الفنية, بين القصبجي وأم كلثوم, إلى تجفيف ينابيع العبقرية الموسيقية لدى القصبجي, فتوقف نهائيًا عن الإبداع, لأم كلثوم أو سواها من الأصوات.

لماذا هي قضية من قضايا الثقافة العربية المعاصرة?

لأنه بالرغم من وجود عوامل شخصية أدت إلى هذه المأساة, فإن النقد في بلادنا غالبًا مااكتفى بهذه العوامل الشخصية, وقلما تنبه إلى العوامل العامة الأخرى, الأكثر أهمية في حياتنا العامة, والتي تدخل في شبكة علاقات التوتر والتناقض بين تيارات الحداثة والتغريب, والصراع الثقافي الهائل, الذي مازال يعصف بالعرب المعاصرين منذ قرنين, بحثًا عن الصيغة المثالية للتوازن, بين أساسيات الشخصية الحضارية والثقافية العربية من جهة, وعناصر الانتماء الحتمي والكامل للعصر الحديث بكل مكوناته ومتطلباته من جهة أخرى.

الأستاذ والتلميذة

يركز النقاد غالبًا, عندما يتحدثون عن الأساتذة الذين ساهموا في تكوين أساسيات الشخصية الفنية لأم كلثوم, على اسمين: والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي, الذي دربها على أصول الإنشاد الديني, (القاعدة الصلبة التي ظلت ترتكز إليها طيلة حياتها الفنية), والشيخ أبو العلا محمد, الذي دربها على أصول فن الغناء الكلاسيكي للقصيدة العربية, وهو الجسر التاريخي الذي سهل لها الانتقال من الإنشاد الديني إلى الغناء الدنيوي.

فإذا وصل حديث النقاد إلى اسم محمد القصبجي, فإنهم غالبًا ما يكتفون بوضعه في خانة الملحنين الموهوبين الذين تعاملت معهم أم كلثوم, لا في خانة الأستاذ الثالث (وربما الأهم) في حياتها, الذي فتح أمام صوتها الأبواب المشرعة والآفاق الواسعة, ووضع كل عبقريته الموسيقية التجديدية في خدمة صوتها العبقري, لتستطيع بذلك الصمود في منافسة العبقرية التجديدية الأخرى الصاعدة كالصاروخ, في مجالي التجديد الغنائي والتجديد الموسيقي: محمد عبدالوهاب.

فإذا صح - في مرحلة لاحقة - القول إن أم كلثوم قد نافست عبدالوهاب, بثلاثي من عباقرة التلحين: القصبجي وزكريا والسنباطي, فالصحيح أن دور القصبجي وسط هذا الثلاثي, كان متميزًا, خاصة في المرحلة التأسيسية الأولى, بين 1925 و1931 (أي قبل أن ينضم زكريا أحمد إلى فريق ملحنيها, ورياض السنباطي بعد ذلك في العام 1936).

أما الآن, وبعد أن دخلوا جميعًا في ذمة التاريخ (أم كلثوم وملحنوها الأساسيون), فيمكن القول - استقراء لوقائع المرحلة التأسيسية الحساسة في حياة أم كلثوم - إن دور محمد القصبجي في حياة أم كلثوم (في مراحلها الأولى), لم يكن فقط احتلال موقع الأستاذ الثالث في حياتها (بعد والدها وأبو العلا) لكنه كان الأستاذ الأساسي الذي كون لها الفرقة الموسيقية (وقادها) التي دخلت بها ميدان منافسة عبقري التجديد الآخر محمد عبدالوهاب, وأنه ظل وحده طيلة خمس أو ست سنوات, يزود هذه الفرقة وحنجرة: أم كلثوم, بالألحان التجديدية الساحرة, خاصة في نوع المونولوج, الذي سمح لها (قبل الدخول في منافسة متكافئة مع عبدالوهاب) الانتصار الكامل في معركة تنازع البقاء بينها وبين حنجرتين نسائيتين عظيمتين, كانتا تتقدمان الصفوف أمام أم كلثوم في طليعة الغناء النسائي العربي: منيرة المهدية وفتحية أحمد. وهناك وقائع تفصيلية كثيرة (لا مجال لها في المقال), تؤكد هذا الاستنتاج وتدعمه, لكن أهمها هو أن فتحية أحمد ومنيرة المهدية, حاولتا المقاومة بترديد ألحان القصبجي الجديدة لأم كلثوم, وتكليفه بأن يقدم لهما ألحانًا موازية, غير أن عظمة حنجرة أم كلثوم, وعظمة أسلوبها المتطور في الأداء - أصبح القصبجي مسئولا أول عن تطويره بعد رحيل أبو العلا محمد في العام 1927 - حسما الموقف نهائيًا لأم كلثوم.

ومع أن زكريا أحمد قد دخل في العام 1931 ميدان الملحنين الأساسيين لأم كلثوم, بمزاج محافظ من الأدوار والطقاطيق, أغنت رصيد أم كلثوم (من قبل ظهور السنباطي في حياتها), بخط ثان محافظ لكنه يوازي خط القصبجي في عبقريته اللحنية, فقد ظل القصبجي, وفقًا لوقائع تلك المرحلة التاريخية من تطور الغناء العربي الكلاسيكي المعاصر, يلعب في حياة أم كلثوم دور الأستاذ الأول, الذي له الكلمة الأولى في تحديد وجهة السير الفنية (في الخطين المجدد والمحافظ). ومن المؤكد أن العلاقة بين القصبجي وأم كلثوم, كانت في تلك المرحلة, واستمرت حتى ما قبل المأساة, علاقة الأستاذ العبقري بتلميذته العبقرية.

بين التحديث والتغريب

من التفاصيل المهمة التي تحدد حجم دور القصبجي الأساسي في مسيرة أم كلثوم الفنية, والتي قلما يتوقف عندها النقاد والمؤرخون, أن رياض السنباطي - الذي شكل في مرحلة لاحقة ثنائيًا مهما مع حنجرة أم كلثوم, أنسى النقاد والمؤرخين كل أو معظم مسيرتها مع من سبقه من ملحنين - لم يبدأ علاقته كملحن عبقري بأم كلثوم بالصيغة السنباطية - الكلثومية, التي تبلورت وترسخت واشتهرت فيما بعد, بل بدأت هذه العلاقة بالتلحين من داخل الخط القصبجي, وليس في هذه الملاحظة أي مبالغة, أو تحيز للقصبجي, لكنها الحقيقة الموضوعية التي تنطق بها الوقائع, في تسلسلها الزمني.

فبداية ظهور السنباطي في حياة أم كلثوم كانت في مونولوج (النوم يداعب), وفي ثلاثة ألحان له في فيلم نشيد الأمل (1936), ومن يستمع إلى هذه الألحان اليوم, يحسبها من تأليف محمد القصبجي, وهو أثر ظل واضحًا في أعمال السنباطي حتى أواخر الأربعينيات.

غير أن تطورًا فنيا وثقافيا صارخًا طرأ في مطلع الأربعينيات, واتخذ شكل الصدمة التي أدت إلى المأساة التي نحن بصددها.

إن خلاصة التجديد الهائل الذي أنجزه محمد القصبجي بين بداياته الأولى مع أم كلثوم (إن حالي في هواها عجب, وإن كنت أسامح), ونهاياته في: ما دام تحب بتنكر ليه, ورق الحبيب, تؤكد أنه تجديد يستند إلى معادلة ثقافية فنية, دقيقة التوازن بين جذور القصبجي العميقة, في تربة المقامات العربية, وآفاقه الواسعة المفتونة بإنجازات الموسيقى الأوربية الكلاسيكية.

ولعل هذا التوازن وصل ذروة الإبداع والعبقرية (قبل رق الحبيب) في ألحان القصبجي في فيلم نشيد الأمل (منيت شبابي, ويا مجد) وفي مونولوجات مثل يا ما ناديت, وفين العيون وسواهما.

غير أن عاملاً مهمًا في هذه التجربة كان متوافرًا لدى المجدد الآخر (محمد عبدالوهاب), ولم يكن برأيي متوافرًا لدى القصبجي, هو عبقرية الصوت الغنائي.

وهو عامل سيكون له برأيي الأثر الإيجابي الحاسم لدى عبدالوهاب, والأثر السلبي عند القصبجي, لعدم وجوده. لذلك فإن ارتباط حنجرة عبدالوهاب العبقرية بجذور الإنشاد الديني, لعب في مسيرته الفنية دور العامل الكيميائي الذي كان (يكبح) اختلال التوازن في التأثر بالموسيقى الأوربية, حتي لا يتحول التحديث (استعانة بهذا التأثر) إلى تغريب جارف, يجعل المؤلف الموسيقي يفقد بوصلته وسط محيط الموسيقى الذي لا أول له ولا آخر.

وتؤكد الوقائع, مرة أخرى - وليس الاستنتاج النظري المجرد - أن ملامح فقدان التوازن بين التحديث والتغريب كانت تطل برأسها في بعض ألحان القصبجي, خاصة في لحنه الكبير لأسمهان (يا طيور) في مطلع الأربعينيات, أي في زمن انفجار مأساته مع أم كلثوم.

ولما تولى القصبجي والسنباطي تلحين أغنيات فيلم (عايدة), في العام 1942, أفلتت بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب من أيدي القصبجي والسنباطي على حد سواء. وذلك واضح عند الاستماع إلى المقطع الأوبرالي من فيلم عايدة, الذي لحنه السنباطي (والباقي تسجيله حتى اليوم), فما بالك بالمقطع الذي لحنه القصبجي, والذي يبدو أن أم كلثوم مسحت تسجيله?

صدمة الفشل, وصدمة الغيرة

عند وصول العلاقة بين القصبجي وأم كلثوم إلى هذه النقطة, كانت الأمور المتأزمة بينهما تتراكم, حتى وصولها إلى لحظة الانفجار:

  • من الواضح أن جرعة التغرب الذي كان القصبجي مسئولا عن قيادة أم كلثوم إليه (ومعها السنباطي) في فيلم عايدة, قد صدم (قبل أم كلثوم) آذان المستمع العربي, الذي كان قبل ذلك يقبل بنهم شديد على تجديدات القصبجي الجريئة, ويمنحها رضاه وإعجابه, عندما كان التوازن الدقيق مسيطرًا على هذه التجديدات التاريخية الخالدة, ففشل فيلم (عايدة) سينمائيا وغنائيًا.
  • نحن بحاجة إلى دراسات تاريخية معمّقة ومفصلة, لنكتشف مدى انسجام شخصية أم كلثوم, التي تميل إلى التيار المحافظ, وآفاق التجديد التي قادها القصبجي, بين العشرينيات والأربعينيات, وهل كانت تؤدي هذه الألحان بروح المغامرة لديها في عمر الشباب? أم تعبيرًا عن طاعة التلميذ لأستاذه?!

غير أن القشة, التي قصمت ظهر البعير حتمًا, كانت الفشل الجماهيري الذريع لـ(عايدة), كفيلم سينمائي وكألحان وأغنيات.

ويقول المتخصص في سيرة أم كلثوم, الأستاذ محفوظ عبدالرحمن (كاتب مسلسل أم كلثوم), في حديث هاتفي مطوّل بيني وبينه بهذا الشأن, إن أم كلثوم كانت لا تطيق الفشل, ولا تسمح باستمراره إذا ما زارها ذات يوم زيارة عابرة.

وقد جاء فشل فيلم (عايدة), متزامنا مع فشل آخر, لعل أم كلثوم اعتبرت القصبجي مسئولاً عنه, هو فشل أغنية (وقفت أودع حبيبي) (في العام 1941) لصديق القصبجي الملحن اللبناني المقيم في مصر آنذاك فريد غصن, وكانت أم كلثوم قد قبلت اللحن, بعد أن قدمه القصبجي وألحّ عليها بقبوله.

لكن الوقائع, تؤكد أن عوامل أخرى, قد حلّت في تلك الحقبة لتدفع الأمور بين القصبجي وأم كلثوم إلى انفجار كامل للمأساة, هو عامل الغيرة الفنية, بعد عامل الفشل, الذي تحدثنا عنه.

أما الغيرة, فكان محورها النجاح الجماهيري, الذي بدأت تحصده حنجرتا أسمهان وليلى مراد.

وكان يمكن لأم كلثوم أن تدير بروية ودهاء شئون هذه المسألة, لو لم يندفع القصبجي, بثقته بنفسه كأستاذ, يحق له أن يضم إلى (مدرسته) تلامذة آخرين بعد أم كلثوم, ليزوّد حنجرتي أسمهان وليلى مراد - خاصة الأولى - بألحان عبقرية, جمعت بين الجرأة الكاملة في ارتياد آفاق التجديد, وبين الإقبال الجماهيري الكبير عليها.

عند هذا الحد من تجمّع وتراكم عوامل الأزمة, يبدو أن كل ما كان يفرق بين الروح الفنية والثقافية المحافظة لدى أم كلثوم, المغنية العبقرية, والروح الفنية والثقافية المنطلقة إلى التجديد بجموح وثقة بالغة بالنفس لدى محمد القصبجي الملحن العبقري, كل ذلك صحا دفعة واحدة ليولد الصدام الكبير.

وإذا كان لنا أن نضيف إلى هذا العرض الموضوعي للوقائع, بتسلسلها التاريخي المجرد, خلاصة تحليلية من الزاويتين الثقافية والإنسانية, فإننا نسجل على أم كلثوم, بعد الاعتراف بحقها في الاختلاف الفني والثقافي مع أستاذها وملحنها العبقري, أنها تصيدته في لحظة فقد فيها (لأول مرة ربما), بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب, وأنها قررت أن تعامله, حتى نهاية حياته, بوتيرة غضبها الجارف, الذي انفجر في تلك اللحظة العابرة.

كان بوسع أم كلثوم (في سيناريو آخر) أن تكتفي بردها الثقافي والفني, الذي عبرت عنه بفيلم متطرف في عروبته الفنية, ردّا على (عايدة) المتطرف في تغربه, هو فيلم (سلامة), الذي كلفت زكريا أحمد وحده بألحانه, لكنها تجاوزت هذا الموقف الثقافي الفني المبرر, إلى إصدار وتنفيذ حكم بالإعدام الفني والثقافي لمحمد القصبجي الإنسان والفنان, الذي كان بوسعها أن ترد له جميله التاريخي إزاءها, فتشجعه على استعادة بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب.

أما العبقري النادر في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة, محمد القصبجي, فقد أطلق صيحاته الأخيرة, في ثلاثة ألحان لحنجرة ليلى مراد الرائعة (قلبي دليلي, في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه, و(يختي عليه), و(نعيمًا يا حبيبي) في فيلم (شاطئ الغرام), قبل أن يختم تعامله مع أم كلثوم إلى الأبد, بألحان عادية في فيلم (فاطمة).

بعد ذلك, وحتى رحيل العبقري محمد القصبجي في 25/3/1966, نضبت ينابيع عبقريته الموسيقية تمامًا, وتحوّلت قيادة فرقة أم كلثوم منه إلى عبقري القانون محمد عبده صالح, فتحول إلى مجرد عازف للعود في الفرقة, يعزف وراء أم كلثوم حتى آخر يوم في حياته, كما كان يتمنى (وكما أكّد لصديق عمره المؤرخ الموسيقي محمود كامل), ويذبل يومًا بعد يوم, حتى كعازف عبقري على آلة العود.

 

إلياس سحاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات