ماتسيس, فراجونار, موريزو.. ثلاث قارئات

ماتسيس, فراجونار, موريزو.. ثلاث قارئات

شكّلت المرأة التي تقرأ كتابًا, موضوعًا لم يملّ الفنانون الأوربيون من معالجته, منذ أن ظهرت المواضيع الدنيوية غير الدينية, ومشاهد الحياة اليومية في فن اللوحة على أيدي الرسامين الفلامنكيين في أواخر القرن الخامس عشر.

وفعل القراءة أكثر من نشاط, إنه المناسبة أو الحجة, التي يجد فيها الفنان نفسه أمام نموذج اتخذ وضعية ثابتة وهادئة تسهل عليه مهمته, سواءً أكانت هذه الوضعية عفوية أم متعمدة. ولكن كل فنان تصرّف بفعل القراءة على هواه, وبما يتلاءم مع عصره وثقافته. وهكذا أصبح الفعل الواحد ذا أوجه عدة ومختلفة لا تمت إلى بعضها بصلة. وهنا ثلاث نساء قارئات في ثلاث لوحات من ثلاثة عصور مختلفة.

ماتسيس: القراءة في موعظة

اللوحة الأولى هي (المرابي وزوجته) للفلامنكي كوانتان ماتسيس. وكما يدل اسم اللوحة التي تعود إلى العام 1514م, فإن المرأة القارئة ليست الموضوع الأساسي في هذه اللوحة, بالرغم من أنها تحتل مكانًا بارزًا إلى جانب زوجها. فهي هنا جزء من المحيط الداخلي في مكتب المرابي, مثلها مثل الذهب المكدس على الطاولة, والميزان في يد الرجل, والمرآة المستديرة على الطاولة, التي تعكس وجه الرجل الذي جاء ليبيع ذهبه أو يرهنه. وكما هو حال معظم اللوحات الفلامنكية, التي تعود إلى ذلك العصر, فإن لكل شيء مهما صغر حجمه في اللوحة دورًا ودلالة رمزية واضحة.

نرى المرأة هنا تقلب صفحة من كتاب يقول الخبراء إنه (كتاب الساعات), الذي كان رائجًا آنذاك ((بيست سيلر) ذلك العصر), وقيام هذه المرأة بقراءة كتاب في مكان عمل زوجها, يدل على شيء من الرخاء الاجتماعي, وربما على (شراكة) في العمل, أو مراقبة عن كثب لأداء الزوج. غير أن أهم ما في وضعية هذه القارئة, هو إشاحتها بنظرها عن الكتاب لتتأمل في ميزان الذهب...وهكذا, إن كنا اليوم قد فقدنا الدلالات الرمزية لأشياء كثيرة ظاهرة في هذه اللوحة, ولم نعد نعرف ما كان مقصودًا بها, فإن التفاتة هذه المرأة صوب ميزان الذهب, بدلاً من الكتاب, تبقى خطابًا واضحًا على أن الاهتمام المادي يبعد الإنسان عن الاهتمام الفكري والثقافي.

فراجونار: انتصار الشكل

من كل خطاب القارئة في هذه اللوحة, لا نجد أي أثر في (القارئة الشابة) للرسام الفرنسي جان - هونوريه فراجونار (1732-1806).

رسم فراجونار هذه اللوحة عام 1776م. كان آنذاك في ذروة نجاحه المهني, وكانت البرجوازية الفرنسية في ذروة صعودها الاجتماعي والسياسي, وتفشّت في أوساطها موضة تزيين الشقق الباريسية الفاخرة بلوحات صغيرة الحجم, تمثل مشاهد من الحياة اليومية الجميلة.

لا نعرف شيئًا عن الشخصية الحقيقية, التي تمثلها هذه اللوحة. فهي واحدة من مجموعة لوحات رسمها فراجونار, وتمثل فتيات يقرأن كتابًا أو رسالة حب أو يجلسن أمام المرآة للتزيّن. ومن المرجح أنه أنجز هذه المجموعة للترويج الدعائي لمحترفه, وللإعلان عن قدرته على الاستجابة للموضة الرائجة في صفوف النخبة الباريسية. و(القارئة الشابة), هي من دون شك تحفة هذه المجموعة.

أول ما يلفتنا في هذه اللوحة, هو الثوب الأصفر الرائع, وتناغم لونه مع اللون العنبري, الذي يذوب به في الجزء السفلي من اللوحة, فتضيع الحدود ما بين الثوب والوسادة على المقعد. ولو تطلعنا إلى شعر الفتاة, لوجدنا به رسمًا بلونين فقط, الزيتي الذي رسم به حائط الغرفة, والعنبري الذي رسم به المقعد.

وإلى جانب الاكتفاء بأقل قدر ممكن من الألوان, تمكن الفنان بفضل عبقريته من الاكتفاء بأقل عدد ممكن من ضربات الريشة لرسم أشياء كاملة, مثل الوسادة خلف الفتاة, التي رسمت بلونين فقط, وبضربات من فرشاة غليظة جدًا. ومع ذلك, يمكن للمشاهد أن يتحسّس بعينيه حجمها وانتفاخها وطراوتها خلف ظهر الفتاة.

وبمزيد من التأمّل, يكتشف المشاهد ما هو أعمق من ذلك على الصعيد الشكلي. فأصابع اليد الممسكة بالكتاب ترسم إيقاعًا يتكرر في أماكن عدة من اللوحة, إذ نراه نفسه في الشريط القماشي الذي يزيّن صدر الثوب. وفي ذيل الثوب الأصفر, الذي يطفح من فوق ذراع المقعد, وإلى حد ما, في الشريط الذي يربط شعرها فوق رأسها, وهذا الإيقاع القائم على الخطوط المنحنية, التي تلتقي وتفترق هو الأساس, الذي يقوم عليه الفن الباروكي, الذي كان قد بلغ ذروة نضوجه ورواجه في ذلك العصر. فـ(القارئة الشابة), إذن هي مجرد خطاب شكلي وجمالي وتعبير عن مقدرة عبقرية في التعامل مع اللون والفرشاة لإنجاز لوحة تبقى قيمتها أولاً وأخيرًا في جمالها والإحساس العميق بالأناقة.

موريزو: الشكل والعاطفة

بعد ذلك بنحو قرن, وتحديدًا في العام 1870م, شاركت الرسّامة الفرنسية بيرت موريزو في المعرض السنوي للرسامين الفرنسيين بلوحة تمثل (والدة الفنانة وشقيقتها). ونرى في هذه اللوحة السيدة موريزو جالسة بثوبها الأسود المهيب تقرأ كتابًا, وإلى جانبها ابنتها لا تفعل شيئًا, بل تكتفي بالتطلع إلى أمها تقرأ.

كانت موريزو (1841-1895م) قد بدأت بدراسة فن الرسم منذ سن الخامسة عشرة, وفق المنهج العظيم, الذي كان معتمدًا آنذاك, ويقضي بنسخ لوحات كبار الفنانين في متحف اللوفر. وهو المنهج الذي أدى إلى ظهور الحشد الكبير الذي نعرفه من الرسامين الفرنسيين في القرن التاسع عشر. وقبل أن تبلغ الفنانة الثلاثين من العمر, كانت قد جمعت من الخبرة والمقدرة ما يسمح لها بمعالجة اللوحة بنضوج, ووفق الأصول, التي ترسّخت على أيدي كبار الأساتذة من عصر النهضة وحتى عصرها الحاضر.

ففي الجانب الشكلي, نرى الفنانة قد قسمت لوحتها المستطيلة إلى مثلثين يفصلهما قطر المستطيل. في الجانب الأيمن, نرى الأم القارئة تحتل المثلث الأسود, وإلى اليسار, الابنة, شقيقة الرسامة والمقعد يملآن مثلثًا أبيض. ومن المرجح أن تركيب اللوحة وفق هذا التشكيل (ضلع المستطيل) اكتسبته الفنانة من دراستها للوحات بيتر بول روبنز, ولعبة التناقض ما بين الأسود المظلم والأبيض المضاء من لوحات كارافاجيو والفنانين الإيطاليين في أواخر القرن السادس عشر...غير أن ملابس هاتين السيدتين وهندامهما, وحتى مفروشات المنزل, تعكس كلها اهتمام الفنانة, بما يمكن أن نسميه (الشياكة الباريسية), فالأم وابنتها هما في منزلهما, ولكنهما في أزياء وهندام يليقان بالخروج إلى أماكن عامة, أو القيام بزيارة رسمية.

والواقع, أن فن الاهتمام بالجانب الشكلي غذته موريزو بفضل الصداقة الوثيقة, التي جمعتها بالرسام إدوار مانيه, الذي كانت قد تعرفت إليه في اللوفر, قبل أن تتزوج شقيقه في وقت لاحق, وبقيت تأخذ بنصائح الأستاذ وتوجيهاته, حتى أنه يقال إنها عندما أنجزت هذه اللوحة, استدعته لتطلب رأيه, فأبدى إعجابه الشديد بها, غير أنه تناول فرشاة, وأضاف بنفسه بعض اللمسات, التي لاتزال ظاهرة على وجه الأم تحت عينها اليسرى, وفوق شفتها, وأيضًا فوق ثوبها الأسود, ليحوله إلى مساحة متجانسة خالية من الظلال.

وبمقارنة لوحة موريزو باللوحتين السابقتين, نكتشف جملة فروقات واختلافات تظهر كم أن فعل القراءة يمكن أن يتلوّن وفق شخصية كل فنان على حدة.

لم تعد موريزو مثل ذلك الفنان, الذي يريد أن يلقي خطابًا حول الذهب الذي يشتت الذهن عن القراءة, ولم تعد الأناقة المجردة غاية بحد ذاتها. فالفنانة ترسم هنا والدتها وشقيقتها, أي أناسًا تربطها بهم علاقة عاطفية لابد وأن تعكسها اللوحة.

وبالتأمل في وجه السيدة موريزو, نلاحظ أنها تقرأ فعلاً, وليست كفتاة فراجونار مجرد رأس يتخذ وضع القارئة. وأكثر من ذلك, فهي امرأة ذات أعماق نفسية تتسم بالهدوء وقوة الشخصية والاستقرار, وهذا ما ركزت عليه الفنانة أكثر بكثير - على سبيل المثال من تركيزها - على أصابع يدي والدتها الممسكة بالكتاب, هذه الأصابع, التي تبقى فنيًا أبسط بكثير من أصابع زوجة المرابي, وبشكل خاص أقل أناقة شكلية من أصابع قارئة فراجونار. الأمر نفسه ينطبق على شريط القماش الذي يربط شعر شقيقة موريزو, الذي أصبح أبسط بكثير من شريط الرأس في لوحة فراجونار.

وفي حين أن وجه الأم, يوحي بالاحترام وقوة الشخصية, فإن ابنتها الجالسة إلى جانبها تستدعي شيئًا من العطف أو التعاطف معها. فهي ضجرة, لا تفعل شيئًا, تجلس بقرب أمها, وتكتفي بالتطلع إلى الكتاب في يديها, وكأنها أسيرة المنزل, أما ثوبها الأبيض فيقول إنها فتاة برسم الزواج وتنتظر.

هذا الإشعاع العاطفي, هو ما يميز لوحة موريزو عن اللوحتين السابقتين. وهو ما يؤكد أن الموضوع المألوف يمكنه أن يكون مادة لإنجاز لوحة عظيمة شرط ألا تكون معالجته مألوفة.

أما الاختلافات الشكلية (مثل رسم الأيدي), التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها لا تصب في مصلحة موريزو, فقد أتت في إطار تحرير اللوحة من وجوب الالتزام بدقة نقل الواقع, الأمر الذي كان قد بدأ يطل برأسه آنذاك ليفتح الطريق أمام الانطباعية وكل ما تلاها من تيارات فنية حديثة.

 

عبود عطية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




كوانتان ماتسيس: (المرابي وزوجته), زيت على خشب, 1514م, (70x67سم), متحف اللوفر, باريس





جان هونوريه فراجونار: (القارئة الشابة), 1776م, (81x64سم), مجموعة أندرو مليون





بيرت موريزو: (والدة الفنانة وشقيقتها) 1870م, (101x82سم), متحف الناشيونال غاليري واشنطن