طفلي وتكوين العادات أحمد الشرقاوي

يبدأ الطفل في تكوين واكتساب العادات من الأشهر الثلاثة الولى ، وذلك عندما يصحو من نومه فتهرع إليه أمه لتحمله وتحتضنه ، وإذا ما اعتاد الطفل على أن يحمل فسوف يتوقع حدوث ذلك كلما صحا من غفوته وسيتصور أنه سوف يحمل ما دام مستيقظا ، وبالأخص إذا أكثر أهله من حمله دون داع لذلك. وكلما ازداد نمو الطفل ازدادت بالتالي قابليته لاكتساب عادات جديدة أسرع من ذي قبل .

في أوقات المرض قد تأوي الأم إلى فراش صغيرها تاركة إضاءة خافتة بجوارها ، وقد يؤدي هذا إلى اعتياده للأمر ، كما قد يحدث حين ينام هو في حجرة والديه أيام العطلة فالرجوع إلى سابق عهده لينام بمفرده قد يكون صعبا .

ويرجع تكوين العادات في غالب الأمر إلى رغبة فطرية لدى الطفل في إشباع غريزة بدائية ، رغبة في الحب والاهتمام . وإذا كانت هذه العادات المكتسبة لا تتفق مع رأي المجتمع أو تمثل تعارضا مع رغبات الأم وأفكارها فقد اصطلح على تسميتها عادة سيئة .

واكتساب عادة طيبة هو الهدف من جميع برامج التغذية المعروفة والتدريب على التبرز والنوم في أوقات مناسبة . ومحاولة تطبيق روتين نظامي يومي لإكساب الطفل بعض العادات الطيبة قد يفلح مع بعض الأطفال ويفشل مع البعض الآخر ، وأحيانا يكون له أثر عكسي ، وعلى وجه الخصوص في هؤلاء الأطفال الذين لديهم غرائز فطرية قوية في التطلع إلى الحب والاهتمام والسيادة ، وعندئذ يصطدمون برغبات الأهل التي لا توافق أهواءهم فتنشأ هنا الاضطرابات السلوكية .

وكثيرا ما تؤدي محاولات القضاء على عادة سيئة إلى النتيجة نفسها ، وإذا كانت محاولة القضاء على عادة سيئة مصحوبة بالقلق والجزع ، وإن وجد الطفل في تلك العادة تحقيقا لذاته عن طريق جذب الأنظار ، أو سمع أمه تتحدث حول ذلك ، فإن الطفل سوف يستمر في اتباع تلك العادة كوسيلة منه لجذب الانتباه . ومن العوامل المهمة في اكتساب العادات قدرة الطفل الطبيعية على المحاكاة والتقليد إلى جانب درجة ذكائه وذاكرته . والأطفال الأكثر ذكاء من حيث الاستجابة للتعليم والإدراك أسرع في اكتساب العادات على وجه العموم سواء الطيبة منها أو السيئة .

المحاكاة والتقليد

تبدأ أولى مظاهر التقليد من الشهرين الخامس والسادس من العمر حينما يحاول الطفل تقليد الكبار فيخرج لسانه ويمضغ الطعام أو يثير ضجيجا . والطفل يقلد أمه بعد ذلك في سائر الشئون المنزلية مثل الكنس والغسل وتجفيف الأشياء ، والطفلة تخلع ثياب عرائسها وتلبسها إياها تماما كما تفعل معها أمها .

وما بين الشهر الثامن عشر والعام الثالث يقلد الأطفال الطريقة التي يلاعبهم بها الآخرون . ومن المحتم أن يقلد الأطفال أهلهم ومن هنا تبزغ أهمية إعطاء القدوة الصالحة ، وأي محاولات لإكساب الطفل سمات رقيقة أو عادات طيبة سوف تبوء بالفشل الذريع ما لم يكن أهل الطفل هم أنفسهم المثل والقدوة ، فإذا اعتاد الأهل أن يقاطعوا طفلهم وهو يتحدث أو انصرفوا عن الرد على كلماته واتبعوا معه أساليب بعيدة عن آداب الحديث فليس غريبا أن يتصف بهذا في حديثه مع الآخرين .

وإذا ما حفلت تصرفاتهم بالأنانية والتوتر وسوء التعبير وعدم الحب والافتقار إلى الرقة ، فمن البديهي ألا نتوقع أن يكون الطفل مختلفا . إن أهمية إعطاء النموذج أو القدوة يرتبط ارتباطا وثيقا بتطور الذاكرة والإدراك لدى الطفل ، فبعد أن يبلغ الطفل عامه الأول يتراوح حيز الذاكرة لديه بين أسبوع وعدة أسابيع ، وفي العام الثالث يزداد هذا الحيز إلى عدة أشهر . ولا بد للأهل ألا يقعوا في خطأ تصور أن ذاكرة الطفل محدودة أو قصيرة لأن قدرات الطفل على الإدراك والتذكر كثيرا ما يساء تقديرها ، وهي في حقيقة الأمر أعمق وأنضج بكثير من قدراته على الكلام . ومن هنا كانت أهمية إدراك الأهل لمعنى القدوة والمثل .

التخيل

ومعظم الأطفال بعد الشهر الخامس عشر يبدون خيالا خصبا وقدرة رحبة على التصور ، وهذا بالتأكيد يختلف من طفل لآخر ، ولكن من الثابت أنه كلما ازداد ذكاء الطفل ارتفعت بالتالي قدراته على التخيل . وما بين الشهرين الخامس عشر والثامن عشر تبدأ هذه السمة في الظهور من خلال لعب الطفل وحواره مع عرائسه .

وما بين العامين الثاني والثالث يتخيل رفاقا وهميين تحت الأرائك ويسرد قصصا طويلة ويمارس بعض الألعاب الوهمية مع أصدقائه . ويجب على الأهل ألا يحبطوا تلك النزعة في التخيل بل على العكس عليهم أن يحاولوا إثراءها وتشجيعها .

وقد يؤدي أحيانا هذا النخيل إلى العديد من المخاوف مثل الخوف من الظلام ومن الضجيج ومن الحيوانات .

التلقين أو الإيحاء

الحب والكراهية والخوف كلها معان يكتسبها الطفل عن طريق التلقين والإيحاء ، حتى كراهية بعض أصناف الطعام كثيرا ما تكون مستوحاة من الكبار والقصص المخيفة الحافلة بذكر الوحوش والغيلان والأشباح والشياطين وما هو من قبيل ذلك قد تصيب الطفل بنوع من الكوابيس المروعة في أثناء نومه . وتؤدي أحيانا إلى خوفه من الحيوانات .

الذكاء

إن الحديث عن الذكاء والنبوغ يجذب انتباه العديد من القراء ، وربما يتسع الوقت بعد ذلك لإفراد صفحات طويلة عن هذا الكنز الثمين . وما يعنينا هنا في هذا الصدد هو توضيح بعض الحقائق بإيجاز شديد ، فلا جدال أن الذكاء حصاد عوامل كثيرة متداخلة في مقدمتها الوراثة والبيئة والثقافة والتعليم والخبرة المكتسبة عن طريق الممارسة .

ويحدثنا التاريخ عن ذلك الطفل المعجزة " موتسارت " الذي قام بوضع سيمفونيات كاملة وهو لم يتجاوز السابعة من عمره ، وصار بعد ذلك أحد أعلام الموسيقى العالمية .

وعادة ما تنشأ الاضطرابات السلوكية بشكل ملحوظ في الأطفال الذين يقل ذكاؤهم عن المعدل الطبيعي ، وذلك لأن أهلهم يتوقعون منهم استجابة مماثلة لمن هم في مثل أعمارهم ولمن يتجاوزونهم في الذكاء .

وحين يجد الطفل نفسه عاجزا عن فهم أو إدراك ما يطلب منه أو ما يدرب عليه ، يصيبه شعور مرير بالأسي وعدم الأمان وخيبة الأمل ، كما يتأخر عادة الأطفال الأقل ذكاء في تعلم الكلام ويضاعف هذا من إحساسهم بالإحباط أو خيبة الأمل نتيجة عجزهم عن التعبير عن أنفسهم . وقد يمثل الذكاء المرتفع أيضا عقبة كبيرة في السنوات التالية ، وذلك لأن اكتساب العادات يكون أسرع في الطفل الأكثر ذكاء ، كما أن هذا النوع من الأطفال الأذكياء لديهم قدرة كبيرة على إثارة الانتباه وتقدير وتوقع ردود أفعال أهلهم .

إلى جانب أن قدراتهم الهائلة على التخيل قد تؤدي إلى صنوف شتى من المخاوف، وجدير بالذكر أيضا أن سوء تقدير مستوى ذكاء الطفل من قبل أهله قد يؤخر من اكتسابه للكثير من المهارات

والمسئوليات المؤهل لها بحكم تكوينه الذهني المتقد.