البوسنة والهرسك.. نار تحت الرماد

البوسنة والهرسك.. نار تحت الرماد

حين حلقنا فوق البلقان تذكرت سخرية بسمارك حين قال عن تلك المنطقة ( لا يستحقون حياة سمكة الفرناد البحرية السليمة), إنها مقولة تلخص النظرة الأوربية للبلقان وتكشف سر تلكؤها للتدخل في نزاعاتها, وآخرها ما حصل بعد تفكك جمهوريات يوغسلافيا. ثلاث حروب شنها الصرب على سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك, وفي النزاع الاخير لم تقع حرب بالصورة التقليدية بين طرفين بل إبادة جماعية أزهقت آلاف الأرواح وهدمت مئات المساجد والمآذن, وأوربا لا تزال تفكر وتدرس!!!.

الآن وبعد عشر سنوات من نهاية الحرب, يصعب التفاؤل المفرط أو التشاؤم المضاعف في وصف المستقبل أو ما يجري على الأرض, فهناك يكاد كل شيء يتجمد في مكانه فيما عدا تزايد رغبات المتعصبين الصرب والكروات بالانفصال عن (الأتراك) وتحقيق أحلامهم القومية الكبرى.

وبقدر ما يحتويه ذلك المشهد من قتامة يبقى حلم الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوربي هو خيط الأمل الرفيع الذي يجمع الفرقاء الثلاثة في البوسنة والهرسك, الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك والبوشناق المسلمين, وفي نظرة فاحصة لموقف الأسرة الأوربية, نجد أن الأمور تسير في مصلحة القوى المطالبة بوجود دولة بوسنية موحدة, فأوربا المتمدنة قد تتجاهل اشتعال النيران خارج حدودها, ولكنها لن تقبل مجددا بالرسوب الأخلاقي والعجز الميداني على أرضها كما حصل في بلدة سربينتشا.

مع اقتراب الطائرة من الهبوط يدفع الفضول عادة كل مسافر إلى رفع ستارة النافذة كي يشاهد ما يوجد في الأسفل, خاصة للبلدان التي يزورها للمرة الأولى. قبل الهبوط إلى مطار سراييفو كان يشغلني هاجس المطابقة بين ما قرأته عن فترة حصار المدينة من قبل القوات الصربية وحقيقة ما ستشاهده عيناي وهي أصدق عندي من كل ما قرأته وسمعته. وقبل الهبوط بربع ساعة وكانت الساعة تشير إلى السادسة مساء, رأيت سراييفو مدينة مأسورة داخل حلقة من الجبال السوداء أسميتها (جبال الانقضاض). إنها صورة مشبعة بالرعب الذاتي لا تحتاج إلى قناص متوثب أو مدفعية ثقيلة تدك البيوت والمساجد والكنائس على رءوس أصحابها, وللحظة عابرة استرجعت مغامرة الساعات الست, التي قام بها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران عام 1992 لمطار سراييفو المحاصر بغرض فتح الطريق أمام المساعدات الإنسانية لنحو 300 ألف مسلم مدني تحاصرهم القوات الصربية. وقد نجا ميتران من إطلاق نار لدى عودته من اجتماع مع زعماء البوسنة في سراييفو واضطر إلى الاختباء في مبنى المطار لحين توقف القتال.

في وسط الغابات الجبلية تبدو مساحات خالية اعتقدنا أن القوات الصربية كشطتها لأغراض التمركز العسكرية كنصب مدفعيتهم الثقيلة مثلا, إلا أن الحقيقة غير ذلك, فسكان الأكواخ القريبة اضطروا أيام الحرب لتقطيع الأشجار لاستعمالها في طهي الطعام واتقاء لبرد الشتاء.

الجروح تلتئم ببطء

خرجنا من مطار سراييفو الواقع في القسم الحديث من العاصمة ووجهتنا إلى سراييفو القديمة حيث سنقيم. كانت آثار القصف المدفعي وثقوب طلقات الرصاص العشوائية لا تزال باقية على حالها وكأن الحرب في أوج اشتعالها, وقد حظيت بنايات المناطق القريبة من المطار بنصيب الأسد من التخريب, يضاف إليها الكثير من المباني الحكومية المدمرة بالكامل. ومن بين تلك المناظر نشاهد أكثر من مسجد تم تشييده بعد نهاية الحرب مثل مسجد إندونيسيا ومسجد الملك فهد بن عبد العزيز وهما يتصفان بالاتساع والنمط المعماري الذي يعكس روح المكان الذي جاءا منه.

عندما نرفع رءوسنا كي ندقق في البيوت البعيدة المنثورة على (جبال الانقضاض) تقع أنظارنا على العديد من المقابر العشوائية التي رصت بين المنازل وأي مساحة خالية, بعدما تعذر أيام حصار سراييفو العصيبة دفن الموتى والصلاة عليهم والقناصة متربصون بكل رأس حي, وقد تمكن الصرب في مدينة سراييفو وحدها من قتل عشرة آلاف مدني, من بينهم طفلان في حافلة تقطعت أوصالهم بفعلً نيران مدفع مضاد للطائرات!!!!.

لا أنكر انني أحصيت في طريقنا العشرات من المباني المدمرة المتصلة ذكرياتها بأيام الحرب, ولكن أيضا يوجد هناك في مقابلها مؤشرات تدل على أن البوسنة تعيش في مرحلة الاعمار والبناء, وخذوا هذه الأمثلة, المباني الجديدة التي تضم عشرات المكاتب التجارية والشقق السكنية, تجديد شبكات الطرق المهترئة, منح تسهيلات بالغة السخاء للمستثمرين الأجانب, وإقامة شراكات عدة مع مؤسسات رسمية مثل هيئة الاستثمار الكويتية التي تقاسمت مع الحكومة البوسنية مشروعات صناعية ضخمة, الإعلانات التجارية الضخمة المنصوبة على طول الطرق الرئيسية, حركة السياحة المتنامية التي تعبر عن حالة الاستقرار الأمني, وأخيرا وليس آخرا نظافة العاصمة سراييفو كأي عاصمة أوربية حريصة على سمعتها.

وصلنا إلى الفندق بعد المرور بشارع ضيق يطل عليه فندق آخر محروق من رأسه حتى أخمص قدميه, اختاره لنا بحس صحفي سفير البوسنة في دولة الكويت شريف مويكانفيتش, إذ يقع في قلب المدينة القديمة النابض بحركة الناس وضجة الأسواق التقليدية, فضلاً عن العشرات من المعالم الدينية والتاريخية والثقافية.

فرهاديا قلب المدينة النابض

كانت الشمس لا تزال في استقبالنا ترسل خيوط أشعتها الذهبية في كل مكان وكأنها تدعونا بإصرار لاكتشاف شوارع سراييفو وأزقتها, توجهنا إلى الشريان الرئيسي الذي لم يبعد عنا كثيرا وسرنا فيه مع الناس. لم يكن فرهاديا للوهلة الاولى شارعا يستحق كل هذه الشهرة والإقبال من الناس, ولكن بمرور الوقت اكتشفت العكس, فهو يمتلئ بالناس في الأيام العادية وتمتد فيه المقاهي المفتوحة المظللة والمطاعم الصغيرة ومحلات بيع الهدايا والملابس المعتدلة الأسعار. كنت أقلب في وجوه الناس عبثا أحاول التمييز ما بين الصربي والكرواتي والبوشناقي ولكن دون جدوى, فملامحهم قريبة الشبه من الروس, بشرة شديدة البياض وحمرة في مواضع محددة من الوجه ولون الشعر موزع مابين الأشقر والكستنائي والأسود والاختلاف الوحيد بينهم وبين الروس, هو في طول القامة اذ لا يتمتع به البوسنيون كثيرا.

فرش شارع فرهاديا بمكعبات حجرية ناعمة الملمس ( جدا ) وقليل من المطر يجعل حركة الناس أبطأ خشية الانزلاق والتعثر, والسيارات ولحسن الحظ ممنوعة من السير فيه, كان البازار التركي المسقوف هو أول المعالم التي شاهدتها وأكثرها لوقوعه على مرأى من نافذة غرفتي, بعد مسافة قصيرة كنت أقف أمام واحد من أشهر المساجد في البوسنة والهرسك إنه مسجد الغازي خسرو بك والذي يضم ضريحه المسجى في مبنى منفصل, عند دخولي ساحة المسجد أحاطت بي رائحة عطرة لم أعرف مصدرها, وعندما سألت أحد المصلين أشار بيده إلى شجرة ضخمة وقال اسم هذه الشجرة (ليبا) وهي تطلق هذه الرائحة الجميلة في هذا الوقت من السنة. كان المسجد عامرا بالمصلين والمصليات وحركة الزوار الراغبين في التعرف على تاريخ ذلك المعلم التاريخي والإسلامي المهم.

التفت بحثا عن زميلي المصور فوجدته يقف أسفل برج الساعة العثمانية الواقع بين البازار ومسجد الغازي.

لم تكن حمى التسوق الاستهلاكي قد أصابت بعد أهل مدينة سراييفو, وهذا ما انعكس على طبيعة أسواقها البسيطة التي لم ترتق بعد لمرحلة الأسواق التجارية الضخمة المتعددة الأدوار المنتشرة عادة في الكثير من عواصم العالم, وحتى في أبسط الأنماط الاستهلاكية التي تجتاح العالم تخلو سراييفو ومن دون (شعارات المقاطعة) من مطاعم الوجبات السريعة, ربما لن يصدقني أحد, ولكن هذا هو ما وجدته وعندما واتتني الفرصة كي أسال الناس تأتيني الإجابة نفسها.. إنهم يقولون مالنا والوجبات السريعة ولدينا الشاورما والكباب ألذ وأرخص منها طبعا, لم أعرف كيف حكموا على شيء لم يجربوه?. ولكن ما زاد في استغرابي هو كيف أن تركيا مصدر الشاورما والكباب يوجد لديها آلاف من مطاعم الوجبات السريعة وسراييفو خالية منها.

عند هذا الحد انتهت جولتنا القصيرة في التاسعة مساء بعد أن أظلمت الدنيا وأطلق مؤذن مسجد الغازي خسرو بك من دون ميكروفون صوته في السماء رافعا أذان المغرب.

تأثيرات دينية ولغوية

هنالك سؤال أول محتمل يطرح عادة بعد سماع اسم جمهورية البوسنة والهرسك وهو: لماذا يوجد هناك بوسنة وأيضا معها هرسك?.. الجواب هو: من الناحية الجغرافية تمثل البوسنة المناطق الوسطى والشرقية والغربية, أما الهرسك فهي اسم لمنطقة حوض نهر نيريتفا, أما من الناحية السياسية فالبوسنة والهرسك كانتا في السابق منطقتين تفصل بينهما سلسلة جبال إيفان وحدث الانصهار بينهما على يد ملك البوسنة بان كوترومانيتش (1322-1353) ومنذ ذلك الوقت لم يعد هناك حديث عن كيانين بل دولة واحدة موحدة. وخلال زيارتنا لمدينة موستار كنا قد توجهنا لزيارة منبع نهر نيريتفا وفي الطريق بدت لنا قلعة حجرية في أعالي الجبال كانت تعود للملك هرسك الذي سميت الأراضي التابعة له باسمه.

ينحدر شعب البوسنة والهرسك من الأسرة السلافية الكبيرة وخلال فترة الحكم العثماني (1463م-1878م) أسلمت طائفة من البوسنيين أطلق عليهم اسم البوشناق أو البوشنياق باللهجة المحلية, وقد أخذوا كثيرا من حياة الاتراك وطبائعهم في العيش خاصة أن الأتراك هم النافذة الأولى التي أطلوا منها على الدين الاسلامي.

ويحدثنا عميد كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو الدكتور أنس كاريتش وهو وزير سابق للتعليم والثقافة, عن أثر الثقافة العربية في البلقان مؤكدا بأن التأثير العربي والإسلامي وصل إلى شبه جزيرة البلقان قبل الفتوحات العثمانية من خلال الاتصالات التي جرت مع عرب جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا وبلاد الأندلس, مضيفا: (نحن نسمي الإبريق إبريك والسجادة ننطقها كما تنطق بالعربية, وكذلك: دكان وزقاق وحلوى وصحن والحناء وآلاف الكلمات وتركيبات الجمل العربية الأخرى, التي دخلت إلى لغات البلقان وانصهرت فيها إلى الأبد).

وكانت اللغة التركية ومفرداتها هي من أول ما تسلل داخل اللغة البوسنية وبصحبتها بحكم ضرورات الدين اللغة العربية. والكثير من المفردات التركية متداخلة في نسيج اللغة البوسنية, وكلمة شاي مثلا ينطقها باللفظ نفسه الفرقاء الثلاثة الصرب والكروات والبوشناق في جميع أرجاء البوسنة والهرسك. أما اللغة العربية فهي تفرض نفسها مكتوبة في حالات معينة, فمثلا عندما يموت المسلم البوسني يعلق نعيه وسيرته المختصرة على لوحات المساجد والأشجار الضخمة ويكتب على رأس النعي بالعربية (ارتحال دار بقا), ولا أزال أذكر قبل تأدية صلاة الميت في بلدة سريبينتشا تردد كلمة جنازة بصورة واضحة بين المصلين.

أستاذ اللغة العربية في كلية الفلسفة بجامعة سراييفو الدكتور أسعد دراكوفيتش أوضح لنا أن البوشناق منذ عصر الأتراك كانوا يؤلفون ويكتبون بالعربية والتركية والفارسية في الفلسفة وعلم الكلام والدين وغيرها, والبارزون منهم من القدماء والمعاصرين يصل عددهم إلى ثلاثمائة مؤلف, ويبين د. دراكوفيتش مكانة اللغة العربية عند البوسنيين قائلا: (نحن في البوسنة لا نعتبر اللغة العربية لغة أجنبية بل هي من صميم تراثنا خاصة في هذا الوقت الذي نأمل فيه بزيادة حجم التبادل المعرفي بيننا وبين العالم العربي. وحاليا تذهب مجموعة من طلبتنا إلى القاهرة لمدة ثلاثة أشهر بهدف صقل مهاراتهم اللغوية).

ويؤكد د.دراكوفيتش أن قسم اللغة العربية في جامعة سراييفو من أقوى أقسام اللغة العربية في جامعات أوربا كلها وطلبتنا يدرسون الأدب العربي من العصر الجاهلي وحتى يومنا الحاضر, كما اعتبر أن مستقبل اللغة العربية مرتبط بمدى المساندة العلمية, والدعم المادي من الدول العربية, ثم فجأة بدت عليه مظاهر الاستياء وقال : ( أنا استغرب من السفراء العرب في سراييفو, كيف أنهم لا يعرفون أن في البوسنة قسمًا لتدريس اللغة العربية ولا يهتمون حتى بزيارته, ماعدا السفير المصري).

ودفعتني صراحة د. دراكوفيتش لأن أطرح عليه سؤالا كان يهمس به في خضم الموجة العاطفية التي اجتاحت العرب والمسلمين تجاه ما يحصل في البوسنة, وهو ما حجم معرفتنا بمسلمي البوسنة والهرسك والعكس صحيح حتى نقف معهم? أين مساهمتهم ومواقفهم في القضايا العربية والإسلامية? الدكتور أسعد تقبل السؤال بابتسامة وصدر رحب وقال: نحن البوشناق كنا مرتبطين بعالمكم ولم ننقطع يوما عنه, الصعوبة التي واجهناها هي الأنظمة السياسية التي أوصدت الباب علينا, فمن النمساويين إلى الشيوعيين هذه أكثر من مائة سنة لم نستطع فيها مد جسور العلاقات الطبيعية, ومنذ الاستقلال بدأنا نعيش مرحلة جديدة لم نشهدها من قبل, وآمل عودة التواصل بيننا وبين العالمين العربي والإسلامي)

والدكتور أسعد دراكوفيتش ترجم الكثير من الكتب العربية وهو مترجم ألف ليلة وليلة كاملة, كما ترجم القرآن الكريم من الناحية الأسلوبية, وكذلك المعلقات السبع وشرحها وبعض أعمال جبران خليل جبران وأخيرا عمل للروائية اللبنانية حنان الشيخ.

وينتشر الحجاب في البوسنة والهرسك على نطاق واسع بين المسلمات ولجميع الفئات العمرية بل إننا لا نغالي حين نقول - من خلال مشاهداتنا اليومية في شوارع سراييفو - إن حجاب الفتيات الصغيرات بالرغم من حداثته أكثر إتقانا في اخفاء الرأس من حجاب الأمهات والجدات. ويبدو أن تحرر البوسنة والهرسك من قيود الحكم الشيوعي فجر مخزوناتهم الثقافية والدينية بحرية لأول مرة منذ خروج العثمانيين من أرضهم (1878م) كما لعبت الحرب الأهلية دورا مهمًا في إعادة تحديد هوية مسلمي البوسنة, فقد اعتادوا على القول إنهم يوغسلافيون وعندما انهارت يوغسلافيا أصبحوا بوسنيين, ولأنهم باتوا يُقْتلون ويُشرّدون ويُغتَصبون, فقط لأنهم مسلمون لم يعد أمامهم سوى العودة لهويتهم المخبأة وهي البوشناقية كي توضع على قدم المساواة مع الصربي والكرواتي.

وعلى صعيد علاقتهم بالدين الإسلامي فقد ردد على مسامعنا رجال الدين والعلم ممن التقينا بهم مشددين على أنهم في البوسنة والهرسك: (ليسوا بحاجة إلى من يعلمهم أصول الدين من جديد, فالإسلام راسخ وكامن في قلوبهم وعقولهم طوال خمسة عقود, لم تمحه الشيوعية أو تنجح حملات التنصير في تحويلهم عنه), وهم فقط بحاجة إلى معلمين متخصصين في اللغة العربية وبعض المال لطباعة مؤلفاتهم, وبخاصة تلك المترجمة إلى اللغة البوسنية من أمهات الكتب العربية في الدين والأدب والشعر وغيرها, وقد حملونا نشر ذلك النداء على صفحات (العربي).

ويعشق البوسنيون ارتشاف القهوة التركية التي أصبحت مع مرور الزمن تسمى القهوة البوسنية, ولهم طريقة في صنعها, ولكن بأدوات التحضير والتقديم التركية نفسها. كما أنهم يعرفون جيدا الحمام التركي ويرتادونه بصورة دورية منذ أن أقحمه في حياتهم الوالي العثماني الغازي خسرو بك.

خسرو بك.. مؤسس سراييفو

الغازي خسرو بك هو المؤسس الحقيقي لمدينة سراييفو, وشغل منصب والي منطقة البوسنة في عام 1521م ولغاية 1541م, وقبل مجيئه إلى البوسنة شغل منصب الوالي على (سميدير يفو) أو صربيا - يوغسلافيا, وقاد حملات عسكرية بنفسه على دالماتسا وكرواتيا وهنغاريا, وحظي الغازي خسرو بك برعاية مميزة وتعليم عالٍ في قصر السلطان بالأستانة مقر الخلافة العثمانية نظرا لكون والدته (سلجوقة) هي شقيقة السلطان بايزيد الثاني.

وعكس انشغال الغازي بالبناء والتعمير داخل سراييفو تعلقه الشديد بها وعندما واتته المنية أوصى بدفنه داخل ساحة المسجد الذي يحمل اسمه. ويعتبر مسجد الغازي خسرو بك ( أنشئ عام 1531م ) من أكبر وأجمل مساجد البوسنة والهرسك وإلى جانبه بنيت مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم و(خانكه) أي مدرسة لدراسة التصوف. وقد بلغت حجة وقف المدرسة الدينية سنة 1537م سبعمائة ألف درهم.

مدير مكتبة الغازي خسرو بك في سراييفو مصطفى ياهيتش عرفنا بموجز تاريخ تلك المكتبة التي تأسست سنة 1450م, موضحا أنها من أقدم المكتبات في سراييفو وأهمها في أوربا, وهي تضم عشرة آلاف مخطوطة وعشرين ألف مؤلف أغلبها باللغة العربية والتركية والفارسية والبوسنوية في شتى العلوم. وقد أطلعنا ياهيتش على عينات من تلك المخطوطات كالمصحف الصغير المخبأ داخل لفافة من الجلد وهو مصنوع خصيصا لقادة الجيوش كي يسهل عليهم حمله, إضافة إلى صك عثماني يبين ملكية أراض ووصف دقيق لحدودها, وديوان شعر باللغة الفارسية التي استعذب البوسنيون قراءة الشعر بها, وأخيرا مصحف من داغستان كتب بماء الذهب مع شروحاته, وقد جلبت تلك المخطوطات النادرة من مدن إسلامية عدة عريقة عن طريق الحجاج وطلاب العلم والعلماء البوسنيين الذين تلقوا العلم في تلك المدن.

وكانت مكتبة الغازي خسرو بك من الأهداف الرئيسية المتوقع قصفها أثناء الحرب. وخوفا على محتوياتها من الحرق, حرص السيد ياهيتش ومجموعة من الناس على نقلها من مكان إلى آخر, وكانت دار رئيس العلماء هي آخر مكان أخفيت فيها محتويات المكتبة إلى أن وضعت الحرب أوزارها وعادت لمكانها الأصلي. وهناك مشروع جار الانتهاء منه لبناء مكتبة جديدة بالقرب من مسجد الغازي خسرو بك بتمويل من الحكومة القطرية.

وأشار ياهيتش إلى بعض التسهيلات التي حصلت المكتبة عليها من مركز جمعة الماجد من الإمارات, وبينها: أجهزة متخصصة لترميم المخطوطات, ومن معهد استاس الماليزي أجهزة لتصوير المخطوطات رقميا وحفظها على أقراص ممغنطة, إضافة إلى الحفظ بالميكروفيلم, و قامت مؤسسة الفرقان في لندن بطباعة فهارس المكتبة التي تسهل من عملنا وعمل الباحثين والدارسين. ووقعت مكتبة الغازي خسرو بك اتفاقا مع مكتبة الإسكندرية للإشراف على ترميم أكثر من 30 ألف مخطوطة عربية وفارسية وتركية خلال ثلاث سنوات.

بعد أربعة قرون من العيش كولاية عثمانية تطبق فيها الشريعة الإسلامية والفرمانات والتنظيمات السلطانية, انتقلت البوسنة والهرسك لتعيش مرحلة مختلفة مع الاستعمار النمساوي الهنغاري المسيحي, بعد أن تخلى الأتراك عنهم في معاهدة برلين إلى الأبد, وقد ظلت (مقاطعتا) البوسنة والهرسك تحت الاحتلال مدة 40 عاما.

وكانت سلسلة من الأحداث غير المتوقعة هي التي أخرجت البوسنة من التبعية العثمانية, ففي عام 1877م أعلنت روسيا الحرب على العثمانيين انتقاما لهزيمة أتباعها الصرب والجبل الأسود وتمكنت من تحقيق النصر وانتزاع مكاسب كثيرة في معاهدة (سان ستيفانو) وهو ما لم يعجب إمبراطورية النمسا وهنغاريا بسبب تبدل موازين القوى لمصلحة الروس في البلقان, فضغطت فيينا إلى أن تمكنت مع دول أوربية أخرى من عقد مؤتمر ثان !! في برلين قسمت فيه الغنائم مرة أخرى, فذهبت البوسنة والهرسك للنمساويين واقتطعت مقدونيا من بلغاريا للعثمانيين وحصلت كل من صربيا والجبل الأسود على استقلالهما.

وتنفيذا للمعاهدة دخل أكثر من ربع مليون جندي نمساوي - هنغاري أرض البوسنة والهرسك, وتم وضع البلاد تحت الإدارة العسكرية لمدة أربع سنوات بعد أن بدأت عمليات المقاومة المسلحة, ومن ثم تولت إدارة مدنية شئون البلاد بدءًا من 1882م جاءت خصيصا لتنفيذ ما عرف بـ (مشروع تحديث البوسنة).

كان أول ما حرصت عليه فيينا هو تقليص علاقة البوشناق المسلمين الدينية والسياسية مع استنبول إلى الحد الأدنى, واتبعت في ذلك إجراءات عدة أهمها إنشاء منصب رئيس العلماء وتشكيل مجلس العلماء ليصبح (أعلى جهاز لإدارة وتنظيم الشئون الدينية للمسلمين البوسنيين), وعين الإمبراطور النمساوي الشيخ مصطفى حلمي حجي عميروفيتش كأول رئيس للعلماء, إضافة إلى أربعة قضاة كأعضاء في مجلس العلماء, وفي عام 1888م تم الانتهاء من بناء المدرسة الشرعية وأطلق عليها مكتب النواب (أصبحت لاحقا كلية الدراسات الإسلامية) بهدف تعليم العلوم الشرعية وتأهيل القضاة الشرعيين, وقد امتدح مفتي مصر الراحل الشيخ محمد عبده (1849-1905) تلك المدرسة عندما اقترح على الحكومة المصرية تأسيس مدارس لتخريج القضاة الشرعيين على غرار مكتب النواب في سراييفو.

كنا على موعد للقاء عميد كلية الدراسات الإسلامية الدكتور أنس كاريتش في مكتبه للتعرف على مدى إقبال الجيل الجديد من المسلمين البوسنيين على دراسة العلوم الإسلامية , ذهبنا مشيا على الأقدام في جو غائم ممطر برقة متقطعة من حمام تركي تم تحويله إلى متحف ومعهد ثقافي يقع في سراييفو القديمة حتى وصلنا صعودا إلى واجهة الكلية. بهرني بداية جمال الطراز المعماري العربي المغربي الذي لف أرجاء الكلية وقد وضعه المهندس كارلو بارشق أول الامر الى أن دمرت الكلية أيام الحرب وأعيد بناؤها من جديد على الطراز القديم نفسه.

ويوضح الدكتور كاريتش أن عدد طلاب وطالبات كلية الدراسات الإسلامية يصل إلى 770 طالبا يدرسون في فصول مختلطة, وهم موزعون على ثلاثة أقسام رئيسية هي : أصول الدين والتربية الإسلامية والأئمة, والأخير يعمل على تخريج أئمة المساجد والمدرسين. وتمول المشيخة الإسلامية ميزانية الكلية بالكامل.

وعن مستوى اللغة العربية في منهج الكلية العلمي كشف د.كاريتش عن وجود نقص شديد في أساتذة اللغة العربية من المتخصصين وكذلك في الكتب والأشرطة التعليمية الحديثة التي تمكن الطلبة من تحسين مستوياتهم اللغوية, ويصف د.كاريتش طلبة الكلية بأنهم من أفقر الناس فهم أبناء الفلاحين والعمال والمسحوقين وهم بحاجة إلى دعم ثقافي وتعليمي ووبرامج تبادل علمي مع الدول العربية.

إبادة كل 40 عاما

كانت صربيا على الدوام ترى في البوسنة والهرسك امتدادا طبيعيا لصربيا الكبرى, وأنها أرض صربية استولى عليها العثمانيون الذين زرعوا الدين الدخيل في البلقان أي الإسلام, أما الكروات فلديهم الرؤية نفسها, والحلم نفسه (كرواتيا الكبرى), واذا ما واتتهم الفرصة, فإنهم لا يتأخرون ساعة. أما البوشناق المسلمون فلديهم جدول مواعيد (لم تركز عليها وسائل الاعلام كثيرا) خاص بعمليات الإبادة والتطهير ضدهم وهم يحسبونها كالتالي.. ابادة كل أربعين عاما.. سريبينتشا وتوابعها وقبلها بأربعين عامًا مجازر الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها خمسة وسبعون ألف مسلم.

وحتى نستوعب سبب إصرار البوشناق المسلمين (بالدرجة الاولى) على مشروع انضمام البوسنة والهرسك الى الاتحاد الاوربي, فلا بد من معرفة أمرين مهمن, الأول: خوفهم مما سيحدث بعد ثلاثين عاما وهو موعد الابادة القادمة ضدهم, وثانيا طبيعة الجغرافيا السياسية العنيدة التي تغذي الأطماع التوسعية الكامنة في صدور المتعصبين الصرب والكروات.

إن صرب البوسنة الذين أسسوا جمهورية سيربسكا بفضل اتفاقية دايتون للسلام يهيمنون على نصف أراضي البوسنة والهرسك, ولديهم وزارتا دفاع وداخلية يرفضون التنازل عنها والأخطر من كل هذا هو أن لديهم حدودًا مشتركة مع جمهورية صربيا (الأم), والمشهد نفسه يتكرر مع الكروات, وهم أيضا لديهم حدود مشتركة مع جمهورية كرواتيا. إذن فإصرار البوشناق على وجوب قيام جمهورية موحدة ديمقراطية ذات تعددية ثقافية وعضو في الاتحاد الأوربي هو خيار حاذق يضمن لهم البقاء والاستفادة من التشابكات الاقتصادية والسياسية والأمنية, التي تمنحها لهم مميزات العضوية. ولو ساروا خلف رومانسية إنشاء دولة إسلامية يشكلون فيها الأغلبية المطلقة لنجحوا بامتياز في إقامة كيان غير قابل للحياة, لأنه ببساطة أرض مقطعة الاوصال جغرافيا ومحاصرة بالمتعصبين.

سألنا أستاذ القانون المقارن الدكتور فكرت كارتيتش عن امكان وجدوى انضمام البوسنة والهرسك الى الاتحاد الأوربي? فأجاب: (إن الحق الأخلاقي يفرض على أوربا التي فشلت في إيقاف المجازر ضد البوسنيين قبول طلبهم بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي, ومن الناحيتين القانونية والموضوعية أؤكد أن انضمام البوسنة أسهل بكثير من تركيا التي يصل تعدادها 90 مليونا غالبيتهم من المسلمين وهو أمر يراه الأوربيون يسبب إرباكا في تركيبة أوربا المسيحية, أما البوسنة فهي دولة صغيرة في مساحتها وسكانها وبها تعددية دينية متوازنة, المعضلة التي سنواجهها في مفاوضات الانضمام هي إصرار الصرب على الاحتفاظ بوزارتي دفاع وداخلية خاصة بهم ليس لها صفة الدولة وهذا أمر غير مقبول ولا يمكن بناء دولة موحدة بها أكثر من وزارة دفاع وداخلية).ولعل الانفتاح على قارة متطورة مثل أوربا قد يثير تخوف بعض المسلمين المحافظين من تأثر الهوية الإسلامية في البوسنة والهرسك بذلك الانفتاح ويرد كارتيتش: (لا داعي للتخوف على الهوية الإسلامية فالدستور الأوربي يولي أهمية خاصة للأقليات عموما. وهناك جانب إيجابي من الانضمام لأوربا زيادة التواصل بين الأقليات المسلمة في القارة الأوربية لأن الحدود ستختفي بين الدول الأعضاء).وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدعم الأوربي والأمريكي لقيام دولة موحدة في البوسنة والهرسك موجه لكل القوى المحلية المؤيدة لذلك التوجه وليس للبوشناق فقط, ويوجد في البوسنة صرب وكروات معتدلون لا يستهان بهم يؤيدون الوحدة ويدعمونها.

من بين أولئك المعتدلين التقينا بنائب رئيس الحكومة البوسنية الفيدرالية غابرييل غراهوفاتس وهو صربي أرثوذكسي ويشغل بالإضافة إلى عمله حقيبة وزارة التعليم والثقافة, وقد حدّثنا بداية عن معضلة تعددية المناهج التعليمية في البوسنة والهرسك وخطرها على تفكير الأجيال القادمة حيث قال: (من سلبيات اتفاق دايتون للسلام أنه لم يطبق كما أريد له, واكتفى فقط بإيقاف الحرب. ونتج عن ذلك تقسيم الدولة إلى كيانات وتفتيت وحدة وتماسك التعليم على مستوى الدولة لأن كل قومية تقوم بتدريس طلبتها منهجا مختلفا عن القومية الأخرى وبلغة أيضا مختلفة, وهذا الوضع لا يمكننا الاستمرار فيه, لأننا نريد دولة بمنهج تعليمي موحد).

ويضيف غراهوفاتس : (حتى وقت قريب مثلت البوسنة والهرسك حالة متميزة في أوربا من التعايش السلمي بين ثلاثة أديان رئيسية وطوال حياتنا اعتبرنا ذلك التمازج جزءا من تقاليدنا الاجتماعية, ولو اقتطعت جزءا مما كتبه أي من أدبائنا وكتابنا دون الإشارة إلى أسمائهم لما استطاع أحد تحديد هوية الكاتب القومية أو الدينية لأنهم يكتبون بأسلوب يمثل روح البوسنة., وظللنا هكذا طوال ألف سنة موحدين على الصعيد الثقافي وحدودنا السياسية معروفة, والكثير من الصرب والكروات مع الاسف الشديد يرفضون اليوم هذه الحقيقة ولا يعجبهم هذا الكلام). وسألت غراهوفاتس عن سر تمسكه بالبوسنة والهرسك موحدة بالرغم من كونه صربيًا, وربما يراوده حلم تحقيق صربيا الكبرى?.. أجاب: (لقد ولدنا في البوسنة واعتدنا أن نرى المساجد بجوار الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية, فكيف أقبل بعد هذا العمر الابتعاد والانعزال في كيان من لون واحد? لقد حاولوا تدمير كل التشابك الموجود بيننا وأن يفصلوا ثقافتنا ومدارسنا المشتركة ولكن لمن الغلبة في النهاية ? إنها لمن تشرب العادات البوسنية وأحب أن نعيش سويا... وفي سبيل بوسنة موحدة فنحن ندعم المسلمين بالرغم من كل الاختلافات التي بيننا).

سريبينتشا.. يوم الدفن بكرامة

كان حضور مناسبة إحياء ذكرى مرور عشر سنوات على جريمة التطهير العرقي في بلدة سريبينتشا, هي سنام رحلتنا إلى البوسنة والهرسك ومن أجلها ذهبنا, كان برنامج المناسبة من حيث عدد الفعاليات بسيطًا جدا. (أوبريت غنائي رمزي وكلمات لعدد من المسئولين وتأدية صلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا وأخيرا تأدية صلاة الميت على 610 شهداء), ولكنه - أي البرنامج - امتد معنا إلى منتصف الليل.. كيف حدث ذلك ? ولماذا?... الإجابة بعد حذف التفاصيل هي الشرطة الصربية التي سدت طريق العودة أمامنا وحولت رحلة الآلاف من العجائز والأطفال إلى محنة إنسانية تضاف إلى سجل مآسي مدينة سريبينتشا.

قبل أيام من موعد ذكرى سريبينتشا كثفت الصحف اليومية الصادرة في سراييفو أنباء التحضيرات المتعلقة بتلك المناسبة, كان من أبرزها قيام مجموعة من الشباب البوسني برحلة عكسية سيرا على الأقدام بين الجبال الوعرة في نفس الطريق التي سار به الناجون من الإبادة, ورتب أولئك الشباب نهاية مسيرتهم الرمزية في منتصف موقع إقامة الذكرى وهو عبارة عن مقبرة كبيرة خصصت لاستيعاب ثمانية آلاف شهيد قتلتهم الميلشيات الصربية في يوم واحد. وقد أنشئت هذه المقبرة قبل عامين ويتم فيها دفن ضحايا المقابر الجماعية سنويا في الحادي عشر من شهر يوليو.

كانت تعليمات منظمي الاحتفال لنا واضحة وهي أن نكون مستيقظين وجاهزين أمام بوابة الفندق في تمام الساعة الخامسة والنصف صباحا وإلا فستفوتنا الرحلة والذكرى معها, وقد انتهزت تلك الفرصة لأسأل أحد المنظمين..لماذا تستخدمون كلمة احتفال في تعريفكم لتلك المناسبة الحزينة?.. فرد علي برد بليغ: (لأن الشهداء سيدفنون أخيرا بكرامة بعد مهانة دفنهم في مقابر جماعية).

من ناحيتنا أنا وزميلي المصور استيقظنا من الرابعة صباحا وكنا في انتظار السيارة قبل الخامسة بدقائق وفي الموعد المحدد انطلقنا برفقة (ياسمين) سائقنا.

كانت الشمس تتمهل في صعودها وبدت لنا كأنها تشاور الغيوم الحبلى في أمر ما, وقبل خروجنا بقليل من (كانتون) سيراييفو كما تشير العلامات الإرشادية نزل المطر علينا بضراوة وأعلنت مشاشات الزجاج الأمامي استسلامها. وشيئا فشيئا بدأت الصورة في الخارج تتضح أمامنا وكنت في حينها مهتما بمعرفة المناطق التي كنا نقطعها والقرى التي مررنا بها, ليس بالأسماء ولكن بتبعيتها الإدارية فمثلا حين ندخل منطقة تكثر بها المساجد فذلك يعني أننا دخلنا أراضي الاتحاد المسلم - الكرواتي وحين تختفي المساجد وتظهر لنا الكنائس الأرثوذكسية فهذا يعني دخولنا جمهورية سيربسكا (صرب البوسنة).

وتقع بلدة سريبينتشا ذات الأغلبية المسلمة في عمق سيربسكا ولضمان سلامة احتفالية الذكرى السنوية جرى اتفاق مع الشرطة الصربية تقوم بموجبه بتأمين الطريق للذاهبين لموقع الاحتفال, وقبل وصولنا بساعة كاملة انتشرت عناصر الشرطة الصربية بواقع شرطي لكل خمسين مترا, أقرباء الضحايا وأهالي سريبينتشا كل منهم وصل إلى مقبرة الشهداء حسب إمكاناته وأكثرهم سيرا على الأقدام, كانوا يحملون حقائب متوسطة الحجم وسلالاً بها شيء من الطعام و يسيرون بخطى حثيثة دون كلام كثير, العجائز اتكأن في خطواتهن البطيئة على الأصحاء والأطفال يفعلون المستحيل لدفعهم نحو الأمام.

وصلنا بعد ثلاث ساعات إلى مقبرة الشهداء ولحسن الحظ توقف المطر نهائيا. دخلنا من أحد البوابات المخصصة للإعلاميين وبعد خطوتين من عبورنا نظرت إلى الجهة اليمنى لأفاجأ بالنعوش الخضراء موضوعة بترتيب وعناية على العشب الأخضر ومفروش عليها سجادة بلاستيكية لحمايتها من المطر, لم يتوقف أهالي سريبينتشا عن التوافد منذ الصباح الباكر وحتى نهاية الاحتفال في الثالثة عصرًا, فإذا ما أضفنا إليهم أهالي الضحايا الذين دفنوا العام الماضي ومئات من المتعاطفين معهم من جميع أرجاء البوسنة والهرسك فالعدد وصل إلى ما يقارب خمسين ألفا على ذمة أحد منظمي الاحتفال. وفي خضم هذا الجو المؤثر المترع بالمشاعر الفياضة عبقت أجواء المكان بصوت القرآن الكريم ليزيده خشوعا وصبرا واحتسابا.

اعتبرت بلدة سريبينتشا التي يقطنها ستون ألف مسلم منطقة آمنة أثناء الحرب وخصصت الأمم المتحدة لحمايتها وحدة عسكرية من هولندا قوامها 370 جنديا يلبسون القبعات الزرق, وكانت قوات صربية بقيادة مجرم الحرب راتكو ميلاديتش (المختبئ الآن في جمهورية صربيا) تحاصر سريبينتشا, وبدأ الأمر بتحرشات صربية ضد القوة الدولية لعدة أيام انتهت بقيام القوات الصربية بإجبار الهولنديين على خلع ملابسهم وخوذاتهم الأممية والسترات الواقية من الرصاص حتى يؤمنوا لأنفسهم دخولا سهلا, وقد انطلت تلك الحيلة على أهالي البلدة الآمنين وتحت حجة إرسالهم إلى مناطق أكثر أمنا جمع الصرب الناس وعزلوا الرجال والشبان عن النساء وشحنوهم كالقطيع في شاحنات إلى مواقع مجهولة والقوات الهولندية الجبانة واقفة تتفرج, وخلال يومي 10-11/7/1995م ذبحت القوات الصربية ثمانية آلاف مسلم أعزل تم دفنهم في مئات المقابر الجماعية بعضها لا يزال مجهولا حتى اليوم, وارتكب الصرب جريمة إنسانية بشعة أخرى وهي اغتصابهم للفتيات والنساء الجميلات بعد عزلهن في مكان بعيد.

واعتبرت جريمة القوات الصربية أول عملية تطهير عرقي وإبادة جماعية في القارة الأوربية بعد عمليات الإبادة ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية, وأنشئت محكمة دولية خاصة لملاحقة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة ولا تزال تقوم بدورها, وقد أجبرت الضغوط الدولية جمهورية صرب البوسنة على الاعتراف بالجريمة التي ارتكبتها قواتها, وذلك ضمن تقرير رسمي أصدرته لجنة تحقيق تم تشكيلها لهذا الغرض, وتحاشت اللجنة ذكر وصف إبادة جماعية واكتفت بالقول (وقوع انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان) كشف التقرير عن وجود 32 مقبرة جماعية تكتشف لأول مرة منها مقابر تم نبشها ونقلت محتوياتها إلى مواقع أخرى لطمس معالم الجريمة.

أستاذ القانون المقارن في كلية الحقوق بجامعة سراييفو الدكتور فكرت كارتيتش بين لنا أن القانون الدولي اعتبر ما حدث في سريبينتشا إبادة جماعية وهو الوصف القانوني المعتمد في المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة, وأيضا في مجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة استخدموا المصطلح نفسه ( إبادة ) وهو ما يحاول صرب البوسنة وأيضا جمهورية الصرب استبدالها بأوصاف ومصطلحات أخرى.

فصول الإبادة الجماعية في سريبينتشا لم تنته مع انتهاء الحدث, فما يتسرب من أشرطة فيديو القتل البارد تضيف آلاما جديدة لأقارب الضحايا الذين يدركون أن شيئا كريها قد حدث دون أن يشاهدوا التفاصيل, ولكن ما العمل إذا ما داهمت إحدى الأسر وهي تتناول وجبة العشاء نشرة إخبارية في التلفزيون تعرض أمامهم بالصوت والصورة عملية إعدام قريب لهم?.. سوف يشاهدون ذلك بالتأكيد.

كان أحدث تلك الأفلام يفضح قيام عناصر إحدى ميليشيات الصرب - بالمناسبة تم تصوير الفيلم بعلمهم - وهم يتسلون بقتل ستة من شبان بلدة سريبينتشا رميا بالرصاص الواحد تلو الآخر, وآخر اثنين تم الإبقاء عليهما كي يقوما بمهمة دفن من سبقوهما, وما إن انتهيا من مهمتهما حتى لحقا بهم بالطريقة نفسها. ما كشفته بعض وسائل الإعلام الغربية يؤكد أن شريط العار الإنساني كان متداولا على نطاق واسع لدى الصرب لمدة عشر سنوات ويباع في محلات الفيديو لإشباع غريزة الانتقام التاريخي من الأتراك الذين قتلوا أجدادهم قبل خمسة قرون!!!!. والعجيب أنه لم يحدث خطأ واحد خلال تلك السنوات العشر أفضى لوقوع الشريط بأيدي أحد من الناجين من مذبحة سريبينتشا أو من المتعاطفين معهم, إلى أن وصل الشريط إلى محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة ليستعمل كدليل إدانة ضد الجناة, وفي الأول من شهر يونيو الماضي عرض الفيلم ليشاهده العالم بأسره, ويقوم التلفزيون البوسني ببثه بصورة متواصلة ضمن تغطية مكثفة لوقائع محاكمة مجرمي الحرب في لاهاي. وأثبت شريط ذبح شبان سريبينتشا مرة جديدة أهمية وسائل الإعلام (المرئية خاصة) في إيقاظ الضمير العالمي..كان مشهد 68 من قتلى سوق سراييفو المركزي وهم مقطعو الأوصال هو ما جعل أوربا تتيقن من وجود مذبحة حقيقية يجب وقفها.

ويا للأسى فقد ساعد شريط مقتل الشبان الستة والدة الشاب ازمير (16 عاما) في التعرف على مصير ابنها الصغير, وهو أكثر من تلقى رصاصات الحقد العرقي بعد أن رفضت روحه البريئة الخروج من جسده أول الأمر ثم ما لبث أن تلقى المزيد منها لتفيض روحه أمام أعين أمه المكلومة.

ملفات ساخنة مفتوحة

نهاية الحرب في البوسنة والهرسك ربما أوقفت دوامة القتل والتشريد والترويع, ولكن توابع تلك الحرب لا تزال مستمرة وتسقي العشرات من مرارتها. فمثلا من يعرف أن أرض البوسنة والهرسك معبأة بنحو 750 ألف لغم مبثوثة في نحو 30 ألف منطقة ملغمة حسب تقديرات ( مركز العمل الخاص بالألغام التابع للأمم المتحدة), وتصيب تلك الألغام شهريا ما بين 30 - 35 حالة, ولا يزال مصير أكثر من 16600 شخص مجهولا كما تشهد بذلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر, وقد أصدرت كتابا خاصا بأسماء المفقودين في البوسنة والهرسك (الطبعة السادسة حتى الآن) بهدف توفير البيانات للمنظمات المهتمة في البحث والتقصي, وبالرغم من زيادة عدد حالات التعرف على هوية رفات الأشخاص المفقودين فان الأسر لا تزال تتصل باللجنة الدولية طلبا للمساعدة في البحث عنهم.

وهناك ناحية اجتماعية لم تركز عليها وسائل الإعلام كثيرا وهي الأضرار التي ألحقتها الحرب بين الأسر المختلطة دينيا ومذهبيا, ويوجد في البوسنة والهرسك ما يتعدى نصف المليون حالة زواج مختلط بين القوميات البوسنية الثلاثة, وقد سألت: ألم تكف تلك الوشائج في منع وقوع الحرب?.. قيل لي إن النار لإضرامها تحتاج إلى عود واحد فقط.

وحاول الكثيرون من البوشناق والصرب العودة لبيوتهم أو زيارة مناطق اعتادوا الذهاب إليها فوجدوا صعوبات وعراقيل إدارية تمنع عودتهم, فلقي بعضهم حتفهم إما ضربا أو بسبب الشراك الخداعية والألغام التي وضعت في طريقهم.

موستار مجمع الأديان السماوية

في موستار حكاية أخرى عن الشرخ الذي أصاب جدار التسامح والتعددية الثقافية التي ميزت البوسنة والهرسك على الصعيد الأوربي, فالصراع الذي نشب فيها حدث بين البوشناق المسلمين والكروات الكاثوليك في وقت كان كلا الطرفين بحاجة قصوى إلى التنسيق وتوحيد جهودهما ضد خصمهما اللدود الصرب.

وتبعد مدينة موستار أو ( ستاري موست ) ومعناها الجسر القديم باللغة البوسنية مسافة 120 كلم جنوب العاصمة سراييفو, وتتمثل فيها القوميات الثلاث بصورة متوازنة, المسلمون (35%) والكروات (34%) والصرب (19%), ومع مرور الزمن أصبح جسر موستار التاريخي الذي بناه العثمانيون سنة 1566م يرمز الى حياة التعايش والتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين كونه يربط بين شطري المدينة المسلم والمسيحي, كما أنه يمثل مصدرًا للإلهام للكثير من الرسامين والمصورين وهناك من يعتبر مدينة موستار نموذجًا مصغرًا للبوسنة والهرسك.

واعتبر وزير التعليم والثقافة البوسني غابرييل غراهوفاتس جسر موستار التاريخي : (أول جسر يربط بشكل رمزي ما بين الحضارتين الاسلامية والمسيحية في ذلك الجزء من العالم).

وخلال الحرب كان المسلمون والكروات يشكلون تحالفا عسكريا ضد القوات الصربية وفي تحول مفاجئ انقلب الكروات المتعصبون على المسلمين نتيجة حسابات مرحلية خاطئة أوحت لهم بإمكانية إقامة دولة خاصة بهم, ولأن مدينة موستار تعتبر من أشهر وأجمل المدن التي يقطنها الكروات, أرادوها عاصمة لهم وضم القسم المسلم إليها. وفي محاولة غبية من قائد عسكرى ضحل الثقافة لقطع حبال المودة والوئام بين الكروات والبوشناق, أمر قواته في 9 نوفمبر 1993م بتدمير جسر موستار بمدفعية الدبابات, وطلقة بعد طلقة كما يعرضها شريط فيديو في متحف جسر موستار هدم الجسر وتساقطت كتله في نهر نيريتفا.

كان وجود الجسر بالنسبة للمتعصبين يمثل رؤية مختلفة عما يراه الآخرون فهو بنظرهم عقبة نفسية تقف أمام مشروعهم الانفصالي وشاهد عمره خمسة قرون ظل يذكرهم بالعثمانيين كلما شاهدوه.

وكلفت عملية إعادة بناء جسر موستار 15 مليون دولار أمريكي وهو يعد من أهم المواقع الأثرية المهمة في سجلات منظمة اليونسكو. وأقيم احتفال تاريخي بمناسبة إعادة بناء الجسر في 23 يوليو 2004م بحضور ممثلين عن دول العالم وعشرات الآلاف من البوسنيين المبتهجين بعد انقطاع دام 11 عاما.في موستار حكاية أخرى عن التسامح الديني ترد على سخرية بسمارك بسخرية أكبر منها.. تقول له: البلقان تستحق الحياة أكثر من مرة, وعند (ستاري موست) ختمنا رحلتنا الى البوسنة والهرسك.

رئيس العلماء د. مصطفى تسيريتش:

أوربا دار صلح وعهد.. ونؤيد الديمقراطية وتسامح الأديان

لم تكن جائزة البحث عن السلام لعام 2004م التي حصل عليها رئيس العلماء في البوسنة والهرسك الدكتور مصطفى تسيريتش من اليونسكو مناصفة مع الكاردينال الفرنسي روجيه ايتشيغاري, إلا تتويجا لما يحمله ذلك الرجل الأزهري من فكر مستنير وعقل منفتح يحسن التعامل مع مستجدات العصر وتحولاته .

وقد سنحت لـ(العربي) فرصة للقاء الشيخ الدكتور مصطفى تسيريتش في مقر المشيخة الإسلامية بمدينة سراييفو في خضم انشغالاته الرسمية وهي المجلة التي تحتل مكانة عظيمة في قلب رئيس العلماء فقد شكلت جزءًا مهمًا من علمه ولغته وتفكيره وذكرياته عندما كان طالبا في القاهرة كما أخبرنا.

في البداية سألنا مضيفنا عن مدى تفاؤله بمستقبل الاسلام في البوسنة والهرسك بعدما حل به في الحرب الأخيرة?... فأجاب: (قبل خمس سنوات كنت متشائما وأتساءل كيف نبدأ ? وأين ? لقد حاول الصرب محونا عن طريق تدمير الرجال والأشياء , ولم يقوموا بذلك بالحكمة , لقد استهدفوا كل الرجال المؤثرين في الناس وقتلوهم , لدينا 800 إمام وخطيب ذبحوا وكل المفكرين والمثقفين ألقي بهم في السجون, أما المساجد فكانت أول شيء يقومون بتدميره.

اليوم استطعنا ولله الحمد افتتاح ستين مسجدا من أموال البوسنيين المهاجرين, منها أول مسجد تم تدميره في الحرب ويقع في براتوس , وفي مدينة بريتشكو أعدنا بناء مسجدها الذي أصبح من أجمل مساجد البوسنة وبإذن الله كلما دمروا لنا مسجدا سنبني أجمل منه في مكانه.

وأيضا هناك ست مدارس إسلامية في مدن عدة, ومئات الطلبة في كلية الدراسات الإسلامية أغلبهم من الطالبات وفي ذلك دلالة إيجابية على المستقبل كونهن أمهات المستقبل).

  • وما هي المشاكل التي تعترض طريق عملكم حاليا?

- ليس لدينا كرسي للغة العربية يخرج لنا معلمين ومتخصصين في اللغة العربية يحملون شهادات عالية مثل الماجستير والدكتوراه, وسبق ان خاطبنا ايسيسكو كي يرسلوا إلينا أستاذًا في اللغة يؤسس لنا كرسيًا في اللغة العربية يتخرج من بين يديه مدرسون لجميع المراحل التعليمية.

  • اليوم أصبح كل مسلم متهمًا بالإرهاب مهما كانت خلفياته وآراؤه ? حتى لو كان شيوعيا مثلا, وأنتم كمسلمين في البوسنة تعيشون في قلب أوربا وتطمحون في عضوية اتحادها, فكيف تعيشون في ظل هذه الاوضاع? وكيف تجدون الطريق الأسلم للخروج من هذه الأزمة?..

- هناك في الغرب من سيبقى حاقدا على الإسلام والمسلمين وهؤلاء لا نستطيع تغيير عقولهم ولا أريد الانشغال بهم , وعلى العكس هناك في الغرب من لا يكروهننا ويريدون صداقتنا. وفي العالم الاسلامي الشيء نفسه تماما هناك من يحقد على الغرب ومن يريد صداقته والتعامل معه.

المشكلة اليوم هي أن من يحكم العلاقة بين الغرب والإسلام شرذمة حاقدة في الطرفين لأن صوتهم هو العالي أما معسكر الأصدقاء في الطرفين فحجتهم ضعيفة , والسؤال هو كيف نخرج نحن في البوسنة من هذه الورطة? برأيي المتواضع لا بد من تقوية حجج معسكر الأصدقاء بأن يدين الاصدقاء في أوربا بأن كل ما حدث من تطاول على الاسلام في أفغانستان والعراق وفي المقابل نعلن بوضوح دون لبس للاتحاد الأوربي أننا بوسنيون مسلمون وأوربيون نحترم الدستور الاوربي , نعتبر أوربا دار صلح وعهد وليست دار حرب, وثانيا نعلن أننا نؤيد الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان وتسامح الأديان , ونتوقع من الاتحاد الاوربي ان يضمن لنا خمس ضروريات هي (حق النفس وحق الدين وحق العقل وحق المال وحق العرض).

وأخيرا نطالب الاتحاد الأوربي للمسلمين في أوربا بحرية ممارستهم للإسلام والسماح لهم ببناء المساجد فوق الأرض وليس في باطنها , وإزاء هذه الحرية يجب علينا كمسلمين تحمل مسئوليتها بنجاح حتى نكسب المزيد منها. ونحن ولله الحمد نعتبر أن البوسنة والهرسك نموذج وحجة للمسلمين على الذين يكرهون الإسلام فنحن نجحنا في التوفيق ما بين تجربتنا الغربية وقيمنا وهويتنا الإسلامية التي لن نتنازل عنها).

وفي ختام لقائنا مع رئيس العلماء تحدث الدكتور مصطفي تسيريتش بعين متفائلة صافية عن مستقبل البوسنة والهرسك قائلاً: (دولة واحدة موحدة بين أربعة أنهار, ساوا شمالا وناريتفا جنوبا ودرينا شرقا وأونا غربا, دولة مسالمة لا تتورط في حرب جديدة والناس فيها بمختلف أديانهم يتحدثون لغة واحدة ويحملون لغة واحدة ويعيشون في ظل نظام ديمقراطي حر ويسمعون الأذان وقرع أجراس الكنائس), مضيفا (حرام أن نكون متشائمين فالمؤمن إذا أصابته مصيبة صبر وإذا أصابته النعمة شكر).

رئيس الحكومة البوسنية السابق د. حارث سيلادزيتش:

اتفاقية دايتون تعرقل تقدمنا السياسي والاقتصادي

من الصعب الالتقاء بالدكتور حارث سيلادزيتش دون الخروج منه بشئ جديد بخصوص البوسنة والهرسك, خاصة أنه تولى أخطر المهام (الخارجية ورئاسة الحكومة) أيام الحرب ولعب مع الرئيس الراحل على عزت بيغوفيتش دورًا مهمًا في إخراج البوسنة و الهرسك من مستنقع التقسيم العرقي والديني, ولعل ابتعاد الدكتور حارث الطوعي عن العمل الرسمي وتحرره من أي قيد رسمي, هو ما دفعنا أكثر للالتقاء به وهو المعروف بصراحته الشديدة حتى وهو يرأس حكومة بلاده.

على هامش مؤتمر عقد في فندق (الهوليداي إن) لمناقشة جريمة الإبادة الجماعية التي وقعت في سريبينتشا اختلسنا والدكتور سيلادزيتش قليلا من الوقت وأجرينا هذا اللقاء الصحفي معه.

كانت الاسئلة الاولى متمحورة حول اتفاقية دايتون ومستقبل البوسنة والهرسك بعد مرور عشر سنوات على نهاية الحرب.. ويجيب د.سيلادزيتش: (إن التركيبة السياسية والإدارية التي شيدت على أساس اتفاقية دايتون لابد أن تستبدل ومطلوب من الاتحاد الأوربي العمل على تحقيق ذلك, لقد خدمت تلك الاتفاقية البوسنة والهرسك في مرحلة معينة من تاريخها, والآن وبعد عشر سنوات أصبحت غير نافعة لأنها تعرقل تقدمنا السياسي والاقتصادي لوجود ثلاث دول في دولة واحدة. لقد حصل الصرب على جائزة إدارية من وراء اتفاق دايتون فقد نالوا نصف البوسنة والهرسك أما الكروات فقد نالوا ثلاثة أضعاف حجمهم الحقيقي فهل يمكن أن نقبل بذلك? وأن يستمر هذا الوضع?.

  • ومن يملك القوة على تغيير الاتفاقية? أليس من وضعها?

- د.سيلادزيتش: (المشكلة التي نواجهها الآن أن القوى الفاعلة تبحث عن الحلول الأسهل, خصوصا أن حجم المصالح في البوسنة والهرسك صغير, لكن لا بد من تغيير اتفاق دايتون, لأن دخولنا بالشكل القائم يتعارض مع الميثاق الأوربي إذ كيف ستقبل عضويتنا ونحن كيان مقسم ولكل قسم وزارة داخلية. ولو حدث وقبلنا بهيئتها الحالية فستظهر أوربا وكأنها تؤيد منطق القوة الذي استعمله الصرب وتبارك الإبادة الجماعية التي مورست ضد المسلمين. وهي التي أقرت بأن ما حصل في البوسنة والهرسك هو إبادة جماعية.

ومادمنا نريد الدخول في عضوية الاتحاد الأوربي فلا بد من التنسيق بين الميثاق وبين قوانيننا بحيث يعامل الفرد البوسني كوحدة أساسية في الانتخابات وله صوت كامل).

  • لقد سبقتنا في طرح السؤال المتعلق بعضوية الاتحاد الأوربي وخصوصا موضوع حساسية بعض الأعضاء من دخول دولة غالبيتها من المسلمين?

- د.سيلادزيتش : ( لماذا التخوف من وجود دولة موحدة الأغلبية فيها للمسلمين ? لقد أثبتنا ليس خلال الحرب الأخيرة فقط, وإنما طوال تاريخنا, أننا الأكثر تسامحا وتحضرا من الآخرين. إن المسلمين في البوسنة لم يفجروا أو يعبثوا بأي كنيسة في المناطق التي يشكلون الأغلبية فيها, وفي المقابل دمر الصرب والكروات أكثر من 1240 مسجدًا في مناطقهم ومناطق المسلمين. وبالنسبة لنا فنحن لا نرفض أن يكون رئيس الجمهورية صربيا أو كرواتيا بشرط أن يعمل من أجل البوسنة والهرسك بكاملها وليس لطائفة أو منطقة معينة.

مشكلتنا معهم هي التخوف المزيف منا, والمسألة كلها أنهم يريدون التحكم بنا مائة في المائة, وأذكر أن اول من اعترض على الاستثمارات التي أتتنا من دولة خليجية هو ممثل الرئيس الأمريكي (كلينتون) في البوسنة روبرت غيلبرت, وقال: نحن نعترض على المال الاسلامي الذي يأتيكم, وقلت له: هذا المال موجود في بلادك ولا تعترض عليه, وهل هناك مال إسلامي ومال مسيحي هذه كلها أموال, وسألته: هل جاءني شيء من أمريكا ورفضته!!, هذه المسألة خاصة بنا نحن فقط فالغرب عموما لا يمانعون دخول الاموال الى الصرب والكروات).

  • إذا ما وضعنا العائق السياسي الذي يعرقل تقدم البلاد اقتصاديا فهل توجد هناك عوائق تقف في وجه الاستثمارات الأجنبية في البوسنة?

- د.سيلادزيتش: لقد ورثنا من يوغسلافيا السابقة الكثير من القوانين والرواسب السلبية كالبيروقراطية وتقديس الأوراق والأختام والتواقيع, والموظف الذي يعاني تلك الرواسب يرى نفسه أهم من المستثمر المحلي أو الأجنبي الذي هو في الواقع أهم من ذلك الموظف, وهذا الأمر ازداد سوءا بعد تقسيم البوسنة إلى كيانات, إذ يسهل على أي موظف حكومي وقعت عليه عقوبة ما, الادعاء بأنه مستهدف كونه ينتمي لذلك العرق أو الدين).

  • كرئيس سابق للحكومة البوسنية أيام الحرب تبقى في ذاكرتك بعض الأسرار والتحركات ونحن هنا نطمح في معرفة أحد أهم الطرق الدبلوماسية التي اتبعتها لانقاذ بلدك من خطر التقسيم والإبادة?

- د. سيلادزيتش: ( بالتأكيد هناك أشياء لا يمكن الكشف عنها, وأيضا هناك أشياء يمكن الكشف عنها بعد مرور الوقت, وأتذكر في أيام الحرب الأولى لم تكن هناك قنوات إخبارية كثيرة مثل هذه الأيام وكنا نحاول جاهدين تعريف المجتمع الدولي بقضيتنا وحقنا في الدفاع عن وطننا موحدا ومن أجل هذا الهدف قمت بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية والتقيت مع الكثير وسائل الإعلام فيها وهو ما يعني الالتقاء بالكثير من اليهود الأمريكيين.

وهذا ما حصل التقيت مع أعضاء مجالس إدارة صحيفتي النيويورك تايمز والواشنطن بوست وقناة السي إن إن وغيرهم. قالوا لي بصريح العبارة ما الشئ الذي يدفعنا للوقوف بجانبكم.

قلت لهم هناك سببان, الأول: أخلاقي, والثاني: سياسي, وسأبدأ به لأنه يهمكم أكثر!!!, إن نجاح الفاشية المتمثلة في الصرب داخل أوربا تعني أن الضحية التالية بعد المسلمين هم اليهود مادمنا سكتنا عن عمليات الإبادة الجماعية التي يقومون بها الآن, أما السبب الثاني فهو موقفنا نحن البوسنيين تجاه اليهود الذين طردوا مع المسلمين من إسبانيا, حيث احتضناهم وعاملناهم كمواطنين وعاشوا معنا قرون عدة إلى أن جاء هتلر وطردهم من يوغسلافيا وليس نحن.

ومنذ ذلك اليوم تحولت مواقف الكثير من الصحف والقنوات الأمريكية المملوكة لليهود تجاه قضيتنا وهو ما ساعدنا في إنهاء الحرب بسرعة).

وفي ختام لقائنا مع الدكتور حارث سيلادزيتش عرفنا منه إنه يرأس حاليا حزب (من أجل البوسنة), وقد ابتعد عن العمل الرسمي لأنه تعب من الكلام.

 

إبراهيم المليفي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





 





 





جسر موستار التاريخي بعد أن أعيد بناؤه من جديد. وفي الصورة (يمين) جسر موستار وهو مدمّر بالكامل, وصخرة تذكّر الناس بأيام الحرب المرّة





شارع فرهاديا أو شريان مدينة سراييفو النابض بالحياة, ويمكن التعرّف على الكثير من معالم المدينة المهمة عبر السير فيه





لم يبق من المكتبة الوطنية سوى هذا المبنى المحروق المرصّع بطلقات الرصاص. لقد أحرقت مدفعية الصرب آلاف الكتب والمخطوطات النادرة, التي تضمها تلك المكتبة, وهي إلى اليوم تنتظر مد يد المساعدة لها لتقوم من جديد





أفراد شرطة صرب البوسنة يحرسون احتفالية سريبينتشا السنوية, وفي نهايتها قاموا بقطع طريق العودة على الآلاف من أقارب الضحايا حتى منتصف الليل





مسجد الغازي خسروبك في سراييفو وهو يعد من أجمل وأكبر مساجد البوسنة والهرسك





خريطة توضح موقع جمهورية البوسنة والهرسك المحشور بين الصرب والكروات, وأيضًا خط سير بعثة مجلة (العربي)





الدكتور أنس كاريتش يعرض أمام عدسة (العربي) ترجمته للقرآن الكريم من العربية إلى اللغة البوسنية





بكل هدوء وسكينة, ودّعت هذه الفتاة المسلمة البوسنية قريبها الشهيد بقراءة آيات من الذكر الحكيم في يوم الدفن بكرامة





صور معبّرة للاحتفال السنوي بدفن ضحايا مجزرة سريبينتشا والصلاة عليهم. وفي الأسفل التقطت عدسة المصور البوسني طارق السمرة بقايا يد أحد ضايا المجزرة لاتزال حبال القيد تخنق عروقها الذابلة





رئيس العلماء د. مصطفى تسيريتش





مخطوطة نادرة للقرآن الكريم كتبت بماء الذهب مزوّدة بشروحات باللغة البوسنية وهي موجودة في مكتبة الغازي خسرو بك





نائب رئيس الحكومة البوسنية الفيدرالية ووزير التعليم والثقافة غابرييل غراهوفاتس





فتاة بوسنية مسلمة ترفع يدها للدعاء على أرواح ضحايا مذبحة سريبينتشا الثمانية آلاف





رئيس الحكومة البوسنية السابق د. حارث سيلادزيتش





مقابر عشوائية وجدت أيام حصار سراييفو أصبحت اليوم مزارًا مفتوحًا للجميع (يمين ويسار). وفي الصورة الوسطى قبور لاتزال مفتوحة بانتظار التعرّف على رفات الضحايا





مقابر عشوائية وجدت أيام حصار سراييفو أصبحت اليوم مزارًا مفتوحًا للجميع (يمين ويسار). وفي الصورة الوسطى قبور لاتزال مفتوحة بانتظار التعرّف على رفات الضحايا





مقابر عشوائية وجدت أيام حصار سراييفو أصبحت اليوم مزارًا مفتوحًا للجميع (يمين ويسار). وفي الصورة الوسطى قبور لاتزال مفتوحة بانتظار التعرّف على رفات الضحايا





منظر مألوف لكنيسة أرثوذكسية في العاصمة سراييفو وبالقرب منها توجد مساجد وكنائس كاثوليكية





لاحظوا الصليب المزروع في أعلى الجبل. لقد وضعه المتعصبون الكروات بعد هزيمتهم في موستار أمام المسلمين ليعلنوا نيتهم العودة في المستقبل , وقد ترك المسلمون هذا الصليب كحجة لهم لا عليهم





مؤيدو الدولة البوسنية الموحّدة يحملون علمهم الاتحادي ويصرخون بعلوْ صوتهم (دولة واحدة للجميع)





المقبرة اليهودية في سراييفو...بقيت معلمًا وشاهدًا تاريخيًا على تسامح البوسنيين مع الأديان والثقافات الأخرى ودفن فيها أوائل الناجين من محاكم التفتيش الإسبانية بعد سقوط غرناطة 1942م وطردهم والمسلمين منها