آفامية... من يوقظ الأميرة النائمة?

آفامية... من يوقظ الأميرة النائمة?

عدسة: هيثم إسماعيل

هب أن أقداراً مباركة رمتك في تلك النقطة التي تقع على بعد (60) كيلومتراً شمال غرب حماة, و (90) كيلومتراً جنوبي أنطاكية, و (190) كيلومتراً جنوب غرب حلب, ستدهشك أشلاء مدينة كبيرة وقلعة اختارت سهلاً صغيراً على تل مرتفع لتشرق منه على سهل فسيح هو (سهل الغاب) تلك هي آفامية... فكيف الوصول?

بدأت الرحلة من دمشق عاصمة الشام البهية, في كل الأحوال والفصول, وكان الوصول إلى حماة, مركز المحافظة التي تتبع إليها آفامية, سهلاً وممتعاً, فقد تكفلت (البولمانات) الحديثة لعشرات من شركات النقل الخاصة بحل أزمة المواصلات (القديمة) وإيصالنا.

من حماة انطلقت بنا السيارة (التوزيتو) التي تعود سنة صناعتها إلى خمسينيات القرن الماضي, ولا تزال (تجاهد) في تحمل العباد وطرق البلاد. وقبل سائقها, بعد جهد جهيد ومال غير زهيد, أن يقلنا إلى (قلعة المضيق) لأنه فتح فمه وقوّس أذنيه تعجباً, عندما أبلغناه أن مقصدنا آفامية. وبعد تشاور مع بعض زملائه, عاد إلينا ليقول:

(تقصدون قلعة المضيق... لماذا لم تقولوا ذلك من الأول?!)

على (أتوستراد) حماة - حلب العريض راحت (التوزيتو) تتهادى باقتدار, وسائقها يحدّثنا عن صمودها لأكثر من خمسين عاماً, وضعف هذا العدد من المالكين والسائقين, حتى آل أمرها إليه. والتعديلات العصرية التي طعّمها بها, مع المحافظة على الأصل طبعاً! ثم كان الانعطاف نحو اليسار, نحو قلعة المضيق, حيث تعرج الطريق, وتبددت سهولته, وارتفعت عربدة أجزاء (التوزيتو) المحدثة وهي تجر بعضها, وتجرنا معها.

بين حجارة ضخمة وأعمدة مسترخية منذ أمد يبدو طويلاً, وبعد وقوف طويل في وجه الآماد وصروفها.. قال السائق بزهو:

(تفضلوا... انزلوا... هذه هي آفامية) وبانت أسنانه وهو يبتسم ويلوّح لنا عائداً...

بحيرات وأفيال وخيول

فتشنا عن (طوابير) السياح الذين افترضنا وجودهم بين الركام يستقرئون تاريخ المدينة, فكانت رحلتنا في آفامية تاريخية صرفاً.

المدينة ذكرها الفارس العربي الشهير أسامة بن منقذ (1095م-1188م) في كتابه (الاعتبار) فيقول: (... .فوقفنا على ذلك الحصن (حصن آفامية) فما راعنا إلا رويجل (تصغير رجل) قد طلع علينا من ذلك السند الصعب معه قوس ونشاب. فرمانا. ولا سبيل لنا إليه فهزمنا. والله ما صدقنا نتخلص منه وخيلنا سالمة. ورجعنا, دخلنا مرج آفامية فسقنا منه غنيمة كبيرة من الجواميس والبقر والغنم وانصرفنا, وفي قلبي من ذلك الراجل الذي هزمنا حسرة الذي ما كان لنا إليه سبيل. وكيف هزمنا راجل واحد وقد هزمنا ثمانية فرسان من الإفرنج...) وهو يشير هنا إلى أنه ورفيقه كانا قبل قليل قد هزما ثمانية فرسان من الصليبيين الذين كانوا يحتلون آفامية حينذاك.

في إطلالة من علو رأينا تحت أعيننا مرجاً زاخراً بالجواميس والبقر والغنم التي ترعى, وما كان هذا المرج إلا قاعاً لبحيرات آفامية الثلاث المندثرة والتي أشار إليها (الجغرافي اليوناني سترابون في نصوصه العائدة إلى أواخر القرن الأول قبل الميلاد) كما يقول الدكتور مأمون عبدالكريم المسئول العلمي في المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية, والذي يضيف: (... من خلال قراءة الصور الفضائية لهذه المنطقة درسنا جميع المعلومات الجغرافية لهذا الجغرافي (سترابون) وتوصلنا, بالاستناد إلى معطيات أثرية وتاريخية أخرى, إلى أنه في أواخر القرن الأول قبل الميلاد كانت هناك بحيرات ثلاث على محيط آفامية. ذكرها المؤرخون والجغرافيون العرب مثل أبي الفداء (كتاب الجغرافية) والتي تحولت إلى مستنقعات مائية أقل بكثير من مساحات البحيرات. واستمرت كذلك إلى أن جففت في خمسينيات القرن العشرين... نعتقد أن بناء سد بحيرة قطينة, كان سبباً في قلة مياه العاصي الواردة إلى بحيرات آفامية. وبالتالي تحولها إلى مستنقعات الغاب المعروفة. والتي تقلصت مساحتها في ثلاثينيات القرن الماضي عندما تمت زيادة الطاقة التخزينية لسد بحيرة قطينة...).

سرحنا البصر من المرج الوادع إلى الأفق البعيد فراح صفاء الصورة يستدعي من ثنايا التاريخ وقفات عبر الزمن.

لقد دلت الحفريات الحديثة أن منطقة آفامية كانت مسكونة منذ حوالي (50) ألف سنة. وذكرتها النصوص الحثية والأكادية ورسائل (تل العمارنة), باسم (نيجا) أو (نيئي). وكانت جزءاً من آرام حماة في بداية الألف الأول قبل الميلاد, وخلال المد الفارسي إلى شرق المتوسط (القرن الخامس قبل الميلاد) كان اسمها (فرنكة) نسبة إلى ابن مرزبان فارسي, والمرزبان لغة هو الرئيس من الفرس, ووصلها الإسكندر المقدوني, وهو أحد أشهر الفاتحين والمحاربين عبر التاريخ, في العام (333 ق.م) بعد انتصاره على الفرس في معركة (أيسوس) وأطلق عليها (بيلا) اسم مسقط رأسه وعاصمة ملك أبيه الملك فيليب. وعندما توفي الإسكندر المقدوني في العام (323 ق.م) دون أن يترك ولداً أو وريثاً للإمبراطورية الشاسعة التي أسسها, تقاسمها ثلاثة من كبار قادته, وكانت (المملكة السورية) التي تشمل آسيا الوسطى كاملة, من سواحل بحر إيجة حتى حدود الهند, من نصيب القائد سلوقس نيكاتور, الذي وسع المدينة وزاد في تحصينها في العامين (300-299) ق.م وأطلق عليها اسم (أباما) وهو اسم زوجته الفارسية ابنة مرزبان وعاصمتها باكتر (بلخ), وهي مقاطعة تقع شمالي أفغانستان الحالية, ولذلك قصة تروى:

بعد اغتيال القائد المقدوني (داريوس) من قبل الفرس, نصح (أرسطو) الإسكندر, وكان أستاذه, بأن مصاهرة العدو تنهي الخلاف والحرب وتقيم نوعاً من التآخي بين الشعبين الفارسي واليوناني, وفعلاً تزوج الإسكندر من الأميرة الفارسية (روكسانا) وكذلك فعل قواده الكبار في مواسم أعراس (سوزا) في العام (325) ق.م وكانت (أباما) من نصيب سلوقوس نيكاتور الذي أطلق اسمها على المدينة, وتحول الاسم فيما بعد إلى (آفامية) الذي تقرر الباحثة (فاطمة جود الله) في كتابها الضخم (سوريا نبع الحضارات) أنه (اسم عربي قديم/ يعني السنية, البهية, المتلألئة...).

وفي زمن سلوقوس نيكاتور أصبحت المدينة الثانية في المملكة السورية بعد أنطاكية, التي كانت العاصمة السياسية للمملكة, في حين كانت أباما (آفامية) العاصمة العسكرية.

ويذكر المؤرخ اليوناني (سترابون) أن آفامية كانت تحوي (5000) من الفيلة الهندية الضخمة ذات القدرة القتالية العالية (المصفحات القديمة), أما الخيول فيصل عددها إلى (30) ألف فرس و (300) حصان فحل بالإضافة إلى حيوانات أخرى.

لقد نجح القائد الروماني (بومبيوس) في الاستيلاء على المدينة بعد أن غلب السلوقيين العام (64) ق.م وأمر بهدم القلعة. ولكن الرومان أدركوا الأهمية الاستراتيجية للمدينة لكونها تشكل مع أخواتها (الرستن - حماة - شيزر - جسر الشغور...) خط الدفاع عن وادي العاصي عصب الحياة في سوريا قديماً وحديثاً. فأعادوا ترميم القلعة, وأنشأوا بالقرب منها, في القرن الثاني الميلادي, طريقاً يصل أنطاكية بدمشق (وأصبح عدد سكانها حوالي نصف المليون نسمة).

وفي القرنين الخامس والسادس الميلاديين عانت آفامية كغيرها من الحواضر السورية من الصراع الذي كان محتدماً بين الفرس والروم ثم البيزنطيين. وفي العام (501م) مالت الكفة لصالح الفرس وحلفائهم وعجز البيزنطيون عن الدفاع عن سوريا الشمالية. فأضحت مدنها عرضة للهدم والتخريب, مما حول, تدريجياً, طرق القوافل التجارية بين الشرق والغرب, وقلل أهمية المدن الواقعة على العاصي ومنها آفامية.. وفي العام (573)م نهبها الفرس وأحرقوها وقتلوا قسماً كبيراً من سكانها, ولم يبق منها إلا القلعة.

وكانت خاتمة تلك الحقبة في العام (612)م عندما حقق كسرى الثاني انتصارات كبيرة على البيزنطيين فاحتل عاصمتهم في الشرق أنطاكية ثم مال إلى آفامية ليقلبها رأساً على عقب.

وفي أغسطس العام (636)م كانت معركة اليرموك الشهيرة, التي انتصر فيها العرب المسلمون على البيزنطيين, ثم تتالت الفتوحات (من غير مقاومة) كما يقول (جانين وجان شال بالتي) الباحثان البلجيكيان اللذان قاما بالتنقيب في آفامية وكتبا أوثق المصادر عنها. ويعزوان (عدم المقاومة) ذاك إلى أن آفامية التي صارت اعتباراً من القرن الخامس مركزاً لمذهب اليعاقبة الذي يؤمن بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح - عليه السلام - إما أنه إله وإما أنه بشر وليس إلها وبشرا في الوقت نفسه, كما يؤمن البيزنطيون. ومنها انتشر المذهب في بلاد الشام كلها. ورأى اليعاقبة في الفتح العربي الإسلامي فرصة سانحة للتخلص من البيزنطيين فرحبوا بالفاتحين, بل ساعدوهم في بعض المواقع, كما في فتح دمشق عاصمة بلاد الشام نفسها.

وهكذا, بعد حماة, دخلها أبو عبيدة بن الجراح صلحاً في العام (638م-17هـ) فوجدها خراباً. فأخذ القلعة فقط على أن يدفع بقية أهل آفامية الخراج والجزية. ولكن البيزنطيين أعادوا احتلالها العام (422هـ) ليستولي عليها الأتراك السلاجقة العام (475هـ).

بعد ذلك, تمكن البيزنطيون الجدد (الصليبيون) بقيادة أمير أنطاكية (تانكريد) من أن يضعها تحت قبضته العام (1106م- 499هـ) ويجعلها منطلقاً للهجوم على جارتيها حماة وشيزر, ولكن ليسترجعها نور الدين الزنكي (1149م - 543هـ). ثم تسلمها ورثته الأيوبيون, ويتخذها ملك حلب الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي مركزاً لجيوشه لمحاربة الصليبيين في أنطاكية (1261م-666هـ).

حضارة على حجارة

ثمة رهبة أشعرتنا بها أطلال آفامية الحجرية ونحن نجوس خلالها, وهي رهبة من قدرات يد الزمن وتقلبات الطبيعة, فقد عانت المدينة عبر تاريخها الطويل موجات متلاحقة من الهزات والزلازل التي عمّقت جراحها وزادت شقاءها فتهدم ما أنفت الحروب عن تخريبه. حدث ذلك في الأعوام (526-528-587-1157-1170)م وكان الزلزال الأخير قاسياً زعزع أركان المدينة ودكّها دكاً لترتمي القصور والشوارع والمعابد. وترقد الحضارة على الحجارة والأعمدة المنبطحة أرضاً. كما فقدت القلعة أهميتها نهائياً بل غابت المدينة نفسها, فموضع المدينة على وجه التحديد ظل مجهولاً, وكان يجب الانتظار حتى بداية القرن التاسع عشر لتحديد هذا الموضع.

وبدءاً من العام (1930م) نجحت سبع حملات تنقيب بلجيكية بإدارة (مايانس) و (لاكوست) في إنشاء مخطط طبوغرافي دقيق للمدينة, لتتوقف عمليات التنقيب بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية, وكانت النكبة الثانية. التي أصابت عمليات الكشف عن مخبوءات هذه المدينة هي حريق الردهات الجامعية في مدينة/لوفان/البلجيكية (1944)م وحريق جناح العصور القديمة في المتاحف الملكية للفن والتاريخ في بروكسل العام (1946)م مما أدى إلى تلف وتشوّه الوثائق والمدونات وضياع ما فيها من معلومات عن آفامية.

وبطلب من المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية تم إنشاء (مركز بلجيكي للبحوث الآثارية في آفامية) العام (1965م) ولايزال يمارس أنشطته البحثية والتنقيبية حتى الآن.

إن أول ما يجهر بأهمية آفامية هو سورها البالغ طوله سبعة كيلومترات. وارتفاعه يختلف حسب تضاريس الأرض من منطقة إلى أخرى, من مترين إلى سبعة أمتار. وهو مدعم بنحو (100) برج.

وتعطي مراحل بنائه بيانات مفيدة عن المراحل التي مرت بها المدينة, فقسمه الأسفل بحجارته الملساء الناعمة هو يوناني سلوقي, يليه القسم الروماني في الوسط وأعلاه نطالع الإضافات البيزنطية, في حين تنتصب على مسافات مختلفة الأبراج المائة المختلفة التكوين والارتفاعات. ويحيط هذا السور بمساحة حوالي (250) هكتاراً هي جسم المدينة.

تآكل السور لكن الكثير من الأعمدة جرى إنهاضها في أماكنها القديمة لتكون شارعاً هو (الشارع المستقيم) الذي رحنا نعبره الهوينا فتعبر خواطرنا أطياف مدينة غابرة كانت زاهرة, وهذا الشارع كان يخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب. ويحدد (جان هيرو) طول الشارع بـ (185) متراً وعرضه, مع الأروقة التي تحف به, بحوالي (5ر37) متر. ويخلص إلى أن الشارع (جدير بكثير من العواصم الحديثة. وكانت الأروقة المرتكزة على الأعمدة تحيط به من كل جانب. واستبعاداً للرتابة, كانت الأعمدة موزعة إلى مجموعات, تختلف الواحدة عن الأخرى بتفاصيلها: أعمدة ملساء, أعمدة مجدولة الزخرفة في قاعدتها, وأعمدة بأخاديد مستقيمة أو لولبية, أما تيجان الأعمدة فتتميز بأناقة الترتيب الكورنثي).

يبلغ عدد أعمدة الشارع المستقيم (1200) عمود (600 في كل جانب), بعضها تم رفعه وانتصب من جديد, فيما ظل قسم كبير بانتظار أياد حانية ترفع عن هامته التراب.

وللشارع المستقيم في آفامية مدخلان, لكل منهما باب يعلوه قوس جميل, يدعى الباب الشمالي (باب أنطاكية) وأمامه من الداخل توجد ساحة واسعة تصطف المخازن على جانبها الشرقي, وتعلو هذه المخازن كتابات يونانية تبين اسم صاحب المخزن وأنواع بضائعه وأسعارها. وخلف هذه المخازن تستقر الحمّامات الرومانية.

أما الباب الجنوبي فيسمى (بوابة حمص) وبالقرب منه تتركز معظم الأبنية الكنسية.

توقفنا أمام ركام هائل مكون من حجارة ضخمة فأنبأنا أحد خبراء الآثار الذين التقيناهم في المكان بأن هذا الركام هو ما تبقى من مسرح عملاق كان يرصع جبين آفامية القديمة. لقد بُني المسرح الذي تشهد أطلاله على فرادته على جزء من السور اليوناني للمدينة من الخارج. وهو روماني النمط, ولكنه يستفيد من انثناء الأرض التي يستند إليها على طريقة المسارح اليونانية, ويعيده الآثاريون إلى القرن الثاني الميلادي, وكانت البلاد تحت حكم الرومان.

يبلغ قطره (139) متراً. وطول واجهته (130) متراً, على أن ما صمد منه, في وجه صروف الدهر وأمزجة الهزات والزلازل, وهو جزء من منصته وبعض المدرجات الأولى بحجارتها المزخرفة, يفسح للخيال مكاناً لتشييد ذلك الصرح الرائع الذي يفتح ذراعيه ليقابل قلعة آفامية, ويمهّد لحكاية حب قديمة ترويها الأطلال, الغائرة في الأرض هذه المرّة:

وكما يحدث دائماً, أحب الأمير ابنة الملك, فتمنعت, ثم وافقت بشروط صعبة, لتختبر حب الأمير, وجدارته بها, ولتدلل على أهميتها الفائقة, وأخيراً لتؤكد سطوتها الحاسمة عليه!

في القرن الأول الميلادي, وكانت آفامية كسائر بلاد الشام خاضعة للاحتلال الروماني, أحب أمير السلمية, وكانت تابعة لآفامية وبينهما طريق سالك, ابنة ملك آفامية, فخطبها من أبيها الملك, ولكنها رفضت, أول الأمر, لتقبل بعد أن اشترطت مهراً استثنائياً! هو أن يجلب الماء إلى مدينتها من السلمية, وبشكل دائم عبر قناة تحفر لهذه الغاية.

والاستثناء, وربما التعجيز, يتأتى من أن آفامية لاتبعد سوى أمتار قليلة عن نهر العاصي, وعن بحيرات شاسعة كانت تمتد على مدى سهل الغاب الفسيح الحالي قبل أن يجفف في خمسينيات القرن العشرين!

قبل الأمير العاشق الشرط, وحفرت القناة, وسميت (قناة العاشق).

وإذا كانت المسافة بين السلمية وآفامية (85) كيلومتراً فإن العشق كاد يضاعفها, ليبلغ طول القناة, بتعاريجها والتفافها حسب الضرورات الهندسية, حوالي (150) كيلومتراً. والمعروف أن ارتفاع السلمية عن سطح البحر (475) متراً بينما ترتفع آفامية (308) أمتار, وهذا يجعل انتقال المياه عبر القناة ممكناً. بنيت جدران القناة بالحجارة, وطليت من الداخل بمزيج من الكلس والقصرمل لتمنع تسرب المياه إلى باطن الأرض, وغطيت بأحجار مستطيلة تركت فيها فتحات للتنظيف والتهوية وأخذ الماء منها. ولتصريف الزائد منه عند امتلائها. وقد أقيمت على القناة جسور للعبور, وفي النهاية تصب مياه القناة في خزانات أعدت لهذا الغرض في الجانب الشرقي من مدينة آفامية. ولاتزال آثار هذه الخزانات باقية حتى الآن.

وجاء زلزال العام (552م) ليدمّر القناة, وبعد أن جددت تتهدم ثانية بزلزال العام (1157م) فحول الملوك الأيوبيون مياهها إلى مدينة حماة, حيث (عثر في حماة على بقايا حلاقيمها, كما أنها ذكرت في بعض الوقفيات التي كان لأصحابها بساتين تروى من مياهها. ومنها وقفية عفيف الدين الكيلاني المؤرخة في ربيع الآخر سنة 976 هـ) كما أورد الباحث عارف تامر.

حكماء وحوريات وأمازونات أيضاً!

ثمة بناء أبقاه الترميم على حاله, ليتحول من خان قديم يستريح فيه المسافرون إلى متحف حديث هو متحف آفامية للفسيفساء الذي دخلناه لتتلقفنا ظلاله الرءوم, ويلتقينا مديره الأستاذ نديم خوري ويحكي: (كان المتحف خاناً للحجاج والمسافرين, بناه محمد آغا قزلار في زمن السلطان العثماني سليمان خان الأول (سليمان القانوني) في أوائل القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). ويحتل مساحة واسعة تقارب الـ (7000) متر مربع, تتوسطه باحة واسعة مرصوفة بالبلاط الحجري...).

في باحة الخان بئر ماء لها درج حجري, عمق البئر سبعة أمتار, وكانت تأتيها المياه عبر أقنية فخارية من إحدى بحيرات آفامية, وعلى جميع جوانب الخان تتركز مواقد تصطف حولها مصاطب عريضة لنوم النزلاء, بحيث تنفرد كل مجموعة منهم بموقد خاص.

أما (الأجمل, والأكثر تعبيراً عن براعة بناة هذا الخان, فهو تلك الكوى المقابلة لهذه المصاطب, والتي تشبه فتحات السهام على جدران الحصون, إلا أن لهذه الكوى وظيفة أخرى هنا, حيث إنها مصممة بشكل يسمح لضوء النهار بالدخول إلى قاعات الخان طوال النهار!

وانتفاء الحاجة إليه, والإهمال, ومرور الزمن, عوامل أدت إلى تهدّم (الجناح الجنوبي من الخان وأعيد بناء سبع غرف مكانه. وهو ما اصطلح على تسميته بالجناح الجنوبي الغربي).

وقد استخدمه البعض للسكن, أو لصنع الجرار, كما حول آخرون أجزاء منه إلى اسطبلات للأبقار والأغنام, فاتسخت الجدران الباقية, وامتلأت البئـر بالأوساخ, إلى أن تنبهت المديرية العامة للآثار والمتاحف لأهميته - كما يقول الدكتور عبدالرزاق معاذ مديرها العام -: (... فقامت بإخلائه من شاغليه, وعملت على ترميمه الذي استمر حوالي خمس سنوات. وذلك مع مراعاة المحافظة على شكله القديم واستخدام مواد مماثلة لتلك التي بُني منها, فأعيد بناء السقوف بالكلس المنقب وأعيدت الحلقات الحديدية إلى أماكنها داخل فناء الخان وقاعاته...) وكأن خيولاً قادمة تنهب الأرض سترابط فيها من جديد, لتواصل صهيلها عبر الزمن الآتي الذي ربما يشهد قيامة آفامية من رقادها الدهري, ولتستيقظ تلك الحضارة الهاجعة متوسدة حجارتها العتيقة!

وفي (24) نوفمبر العام (1982م) تم تحويل الخان إلى متحف إقليمي لمدينة آفامية. وقد خصص الجناح الشرقي للمدينة, والجناح الغربي لما حولها.. وتركز الاهتمام على عرض روائع الفسيفساء فيه, وأصبح المتحف الوحيد الخاص بالفسيفساء في سوريا).

وقد زيّن الرواق بلوحات فسيفساء تحتوي على الأزهار والنباتات والطيور والأسماك, ومصدرها كنيسة صوران شمالي مدينة حماة, وأمام باب المتحف في جناحه الشرقي تطالع الزائر فسيفساء سقراط والحكماء الستة.

وقد عُثر على هذه اللوحة تحت بناء الكاتدرائية الكبرى في آفامية وتعود إلى (362)م أو (363)م. ويعتقد أنها أرضية لبيت ذي أهمية علمية.

ومن روائع الفسيفساء التي عُثر عليها في آفامية لوحة (الحوريات) وهن في مسابقة لاختيار الأجمل منهن, وتعود هذه اللوحة إلى نفس فترة لوحة سقراط.

أما اللوحات الاستثناء في هذا الزخم الملوّن فهي لـ(الأمازونات) اللائي تصنفهن الأساطير اليونانية على أنهن أمة من النساء المقاتلات لهن عدة مدن مزدهرة في منطقة القوقاز في آسيا الصغرى, ملكتهن هيبوليتا قتلها هرقل وأخذ زنارها ليعطيه إلى أدمينا ابنة بورستوس.

و(الأمازون) تعني (بلا ثدي), لأن هؤلاء النساء المحاربات كن يكوين أثداءهن اليمنى لسهولة شد القوس وإطلاق السهام, وكن يحافظن على استمرارهن بأن يعاشرن الرجال مرة واحدة في العام, فإذا كان الناتج أنثى أبقي عليها ورُبيت وأعدت لتكون أمازونة محاربة, وإذا كان ذكراً قُتل, أو أرسل إلى أمم مجاورة.

وفسيفساء الأمازونات التي يحويها متحف آفامية - كما يقول مديره الأستاذ نديم خوري -: (تمثل في الوسط فارستين تمتطيان جواديهما وهما تصطادان بعض الوحوش, وقد عُثر عليها في قصر الحاكم. وتعود إلى النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي, على أن القسم الأكبر من إحدى الفارستين أصابه تخريب شديد بينما تظهر الفارسة الأخرى بكامل أبهتها وعنفوانها).

تتكاثر الأوابد على عيني الزائر لمتحف آفامية, وكل منها تحكي سيرة زاهية في الزمان والمكان عن المدينة وما حولها, فنخرج في دوار الجمال والأساطير, ثم ننفض رءوسنا إذ نصعد باتجاه (قلعة المضيق).

القلعة...عربية

والقلعة هي ما تبقى من حصن آفامية, وسميت (قلعة المضيق) لأنها تطل على مضيق يقع بين التل الذي بنيت عليه وجبل شحشبو الذي يقابله. والأرجح أن الأطلال التي تحوّلت إلى قرية قلعة المضيق هي ما تبقى من إعادة البناء للقلعة, والتي تمت في بداية القرن الثالث عشر الميلادي, وكان ذلك في عهد الأيوبيين. ومعروف أن القلعة كانت قد دمّرت نهائياً في زلزال العام (1170)م. ومن أبراجها المربعة الشكل, ورصف منحدر التل الوعر بالحجارة الملساء المنحوتة بشكل يشابه منحدر قلعة حلب, استنتج (جان هيرو) أن (قلعة المضيق عربية).

وبالاستناد إلى الأبراج المتينة, وعلى الباحات الواسعة, وباستعمال حجارة القلعة الكبيرة وأعمدتها الجميلة, شكل أبناء المنطقة قرية (قلعة المضيق) ابتداء من بداية القرن السابع عشر الميلادي.

... وأخيراً

كان وادي العاصي, ولايزال, عصب الحياة الاقتصادية لسوريا الداخلية الحالية, وعلى مسافة (400) كيلومتر هي طول مجرى العاصي من منابعه بين بعلبك والهرمل في الأراضي اللبنانية إلى مصبه في مدينة السويدية, انتشرت الحواضر والتجمعات البشرية, وتوافرت أسباب الحياة التي لابد من تأمين الحماية الكافية لها.

وقد لعبت آفامية, خلال فترات مجدها هذا الدور. صحيح أن عاديات الزمن وزلازل الأرض دمّرتها مرات ومرات, إلا أن ما بقي منها يظل أمثولة غافية تستيقظ عند مجيء من يستجليها لتحكي عن جذور حضارات تكتنزها الأحجار, وبهاء تشع به لوحات الفسيفساء, ولعل هذه الأمثولة هي أميرة آفامية النائمة في ثنايا الذكرى والتاريخ, وما ذهابنا - ودعوتكم للذهاب إليها - إلا هزّة حانية توقظ الأميرة الجميلة (آباما) من غفوتها التي طالت.

 

محمد شعبان







حقاً ما من حجر على الأرض السورية تحركه إلا وتجد تحته قطعة من تاريخ الحضارة الإنسانية، وها هي واحة أحجار لا تكتفي باكتناز الكثير من تارخ الحضارة، بل تزدهي بلوحات نادرة تحكي ما يقارب الأسطاير.





نديم خوري مدير متحف آفامية للفسيفساء





ساحة المتحف الحجرية وبداخلها المسلات الجنائزية وقطع الأعمدة وخلفها تبدو مئذنة الجامع العثماني المجاور





فسيفساء نباتية وهندسية تزيّن بهو المتحف





د. عبدالرزاق معاذ - المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا





الجزء السليم من فسيفساء (الأمازونات) ويبدو الجزء الأيمن من الصدر غير مغطى لأن الثدي الأيمن غير موجود





قطع من أعمدة ومسلات جنائزية وعليها كتابات باللغات اليونانية والرومانية والسامية





قسم من فسيفساء (سقراط)... اسمه حول رأسه باليونانية تحت إطار نباتي جميل. ويده مرفوعة كمعلم وحكيمان إلى جانبيه





د. مأمون عبدالكريم - المسئول العلمي في مديرية الآثار - أستاذ في جامعة دمشق





أعمدة مزيّنة بأخاديد حلزونية





أحد أبواب المتحف (إلى يمين البهو الرئيسي)





تيجان الأعمدة... زخارف نباتية رائعة





بهو المتحف الرئيسي وتبدو الأبواب إلى جانبيه





قرية (قلعة المضيق) تجثم على ما تبقى من قلعة آفامية





أشلاء مدينة