خيري شلبي ومحمود الورداني

خيري شلبي ومحمود الورداني

عــمـلـت خـيـاطـاً ونـجـاراً وكـواءً وأسـتـطـيـع حـتـى هــذه الـلـحـظـة أن أحـيـك قـمـصـانـي إذا لـزم الأمــر

معظم رواياتي وقصصي كتبتها في مقهى شعبي بين الناس وفي مدينة الموتى التي يشرف عليها جامع قايتباي

بعد أربعين عاماً على المقهى قررت أن ألتزم بيتي ولا أخرج
إلا نادراً وأعمل طوال الليل

لجأت للتلفزيون مضطراً لأن معالجات كتاب السيناريو المحترفين
لأعمالي أزعجتني

الصحافة لا تأكل الأديب ولا تسطحه وقد أعانني اشتغالي بها على إنجاز 70 كتاباً وأنا الآن في الرابعة والستين

اشتغل الكاتب خيري شلبي عامل ترحيلة مع الفلاحين في الحقول، ينتقل وراء لقمة العيش بين القرى والكفور، كما اكتسبها من حياة عريضة مفتوحة في المدن المصرية عمل خلالها خياطاً وقومسيونجياً وبائعاً سريحاً، حتى استقر به المقام في القاهرة وصار من مشاهيرها. انجز. حتى الآن. ما يقرب من سبعين كتاباً في القصة القصيرة والرواية والتاريخ والنقد والتحقيق، وهو ليس غزير الإنتاج فحسب، بل هو صاحب مشروع الككاتب الاستنثنائي الذي صنع نفسه بجسارة وصبر، صارت حياته رواية لا تقل عما يكتبه من روايات. تثير الدهشة وتغري أهل التيفزيون والسينما باستلهامها. وهو موضوع هذه المواجهة التي يحاوره خلالها الروائي والصحفي المصري محمود الورداني.

أود أن نتوقف في البداية عند السنوات الأولى التي قادتك للكتابة, خصوصاً أن نشأتك والعثرات التي اصطدمت بها واصطدمت بك, لم تكن على الإطلاق مناسبة لانطلاقك ككاتب.

ـ كان أبي شاعراً فحلاً وسياسياً فاشلاً, وهو أحد مؤسسي حزب الوفد. كان موظفا في هيئة فنارات الإسكندرية, وهو الابن الأخير لأحد (نظار الخاصة الخديوية) (الخاصة الخديوية كانت تضم مئات الآلاف من الأفدنة التي يمتلكها الخديو وأسرته). في بيتنا كانت هناك مكتبة كبيرة خاصة بأبي, وبها كتب قانونية وتراثية, وفي جانب آخر من هذا البيت كانت هناك مكتبة تملأ حجرة كاملة خاصة بابن عمي الشيخ علي عكاشة الذي كان شيخاً في الأزهر, وقد ورثتُ أنا هذه المكتبة. رأيت فيها أعمال ابن إياس وابن تغربردي وابن خلدون قبل أن أعرف قيمتها. وفي جانب ثالث من بيتنا كانت هناك مكتبة أخرى في حجرة مغلقة منذ أكثر من ثلاثين سنة لأحد أعمامي الذي كان صييتاً (منشداً دينياً), في بطانة الشيخ علي محمود.. وهي مكتبة دينية تضم طبعات متفردة لصحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما.

أما مندرتنا (ما يشبه حجرة الاستقبال) فكانت تسهر طوال الليل في مناقشات لا تهدأ في السياسة والأدب والدين, بين أبي وبعض أقاربه وأصدقائه.

كان أبي في ذلك الوقت في السبعين من عمره وأنا في السابعة. وكان يكتب مذكرات قانونية نظراً لخبرته بالقانون في قضايا يعرضها عليه المحامون قبل أن يقرروا قبولها, ويقرأ بصوت عال. عندما كنت أسمعه كانت اللغة العربية (تُصب) في أذني بجرس عظيم.. من هنا نشأ حبي للغة العربية, كما أنني كنت قد تعلمت القراءة والكتابة في (كُتاب) القرية قبل دخولي المدرسة.
وفي السنة السادسة الابتدائية قررت أن أكتب قصة حياة أبي لأنه كان المارد الذي سيطر على جميع اهتماماتي. كان على مشارف الثمانين بصحة عفيّة, استأنف حياته من جديد كأنه شاب صغير. اخترع لنفسه عملاً, فكتب لافتة علّقها على باب المندرة تقول كلماتها:

(أحمد علي شلبي... أشغال قضائية وإدارية).

شغلني هذا الأب لسنوات طويلة وكنت مفتوناً بقوته وقدرته على الاحتمال وصبره في مواجهة الأزمات.. قررت أن أكتب قصته, وبدأت بالفعل في كتابة مذكرات ساذجة في كراسة من كراسات المدرسة.

تلك هي المرة الأولى التي أمسكت فيها بالقلم لأعبر عن نفسي.

أعرف أنك كنت عامل تراحيل.. وأظن أنها كانت إحدى أهم تجاربك, وأنت في سن مبكرة?

ـ بعد الابتدائية واختصاراً للمصاريف, تقرر إلحاقنا بمعهد المعلمين في مدينة (دمنهور), وكنا نعيش ظروفاً مادية بالغة الصعوبة, بل إن أبي كان يكمل (مصاريف الطحين) بطلوع الروح, ولم يكن أمامنا إلا أن ننضم, أختي الكبيرة خيرية وأنا, لعمال التراحيل ونسرح معاً في حقول الوسية كنفرين في نقاوة القطن. وكل ما استطاع أبي أن يقدمه لي هو أن يتنازل عن أجري اليومي لأدخره وأنفق منه على الدراسة حين تبدأ.

حينئذ بدأت أهم تجربة في حياتي, وهي الالتحاق بعمال التراحيل حيث نسافر إلى بلاد بعيدة لنعمل في حقول تابعة لوسايا محمد علي باشا, وكنت (النفر) الوحيد الذي في زوادته كتب وأقلام وكراريس, وهو ما صوّرته في روايتي (السنيورة) و(الأوباش).

ما إن التحقت بعمال التراحيل حتى بدأت بطولة أبي تتراجع أمام بطولات خارقة لرجال أشد منه بأساً ونساء يتركن عيالهن في القرية ويسرحن في الحقول.. وهكذا سيطرت عليّ شخصيات عمال التراحيل. وعن طريقهم تشربت الفولكلور المصري عبر الأغاني والمواويل والحكايات والأمثال والألعاب التي تشبه المسرح. تعلمت الصبر والحكمة, وعرفتُ أن القيمة الأخلاقية هي سيدة الموقف في التراث المصري, وأيقنت أن القيمة هي الفن والفن هو القيمة على وجه التحديد.

لكنك عملت في سلسلة أخرى من الأعمال الحرفية.. كيف أفادتك وأسهمت في تشكيلك ككاتب?

ـ عندما انتقلت للدراسة في معهد المعلمين أصبحت طالباً مرموقاً في القرية, وبالتالي أصبح من العار أن أعمل مع عمال التراحيل, لذلك اتجهت لتعلم حرفة شأن أقراني في القرية. تعلمتُ الخياطة والنجارة وسمكرة بوابير الغاز, كما عملت كواء. أستطيع حتى هذه اللحظة أن أحيك قمصاني إذا لزم الأمر. ومنذ بضع سنوات, عند دخول شهر رمضان وبعد أن صرت كاتباً مشهوراً واجهت أزمة مالية, فلم أتورع عن التجول في الأحياء الشعبية للبحث عن ترزي عربي أقـــدم له نفسي كـ (صنايعي) وأعمل طوال شهر رمضان بالقطعة. وحتى هذه اللحظة لدي بعض الآلات الخاصة بالنجارة والحدادة, فأنا أقدس العمل اليدوي وأرى أنه سر تقدم البشر.

تعلمتُ من عمال التراحيل كيف أواجه المجتمع عارياً, وأن الصراحة هي طوق النجاة الحقيقي, لأن كل (نفر) من عمال التراحيل كانت العلاقة بينه وبين الآخرين تقوم على الحكي: ما إن تحكي لي ظروفك بصدق حتى تصبح صديقي في الحياة.. هذه إحدى طبائع المصريين.. تحكي لي وأحكي لك, وعبر (الحكي) نتبادل العلاقة والمعرفة.

وفي مدينة (دمنهور), كان لا بد أن أنفق على نفسي, لذلك, مارست الحرف المختلفة بعد انتهاء اليوم الدراسي: الخياطة في مواسم الأعياد, والنجارة والحدادة والبيع في المحلات. وكما ورد في رواية (وكالة عطية) تركت معهد المعلمين في السنة الرابعة, وانتقلت للإسكندرية بهدف الحصول على الثانوية العامة والالتحاق بالجامعة, إلا أنني ضعت تماماً.. أصبح كل همّي مركزاً في كيفية أن أبقى حياً.

عملت ـ مثلاً ـ بائعاً سرّيحاً أحمل حقيبة ملأى بنحو 50 كيلو جراماً من المنظفات أدور بها على المحلات لكي أكسب خمسة قروش في اليوم, ثم تمردت على هذا العمل لأبيع الأمشاط والفلايات وعلب الكبريت وإبر الخياطة في الترامات.

تعاملت مع نفسك في فترة مبكرة باعتبارك شاعراً.. متى كففت عن الشعر وبدأت في التركيز على القصة?

ـ بعد أن عشت في الإسكندرية بعض الوقت انتقلت للقاهرة, وكنت لا أزال أعتقد أنني شاعر حتى تصادف أن قابلت عبدالرحمن الأبنودي واستمعت إلى أشعاره فكففت عن الكتابة.

لعلك تذكر أنني عانيت معاناة رهيبة لكي أخلّص أسلوبي من الميزان الشعري, وكنت تقول لي إن الكلام موزون, واضطررت لإعادة كتابتها عشرات المرات.

تستحق محطة القاهرة في حياتك ـ أو على الأقل بداية اصطدامك بها, للتوقف قليلاً.. ماذا حدث عندما انتقلت من الإسكندرية للقاهرة?

ـ دخلت القاهرة من باب الخدم, بمعنى أنني لم أكن أجرؤ على اقتحام الأماكن البراقة. كنت أجد الأنس والمودة في الحواري والمقاهي الشعبية حيث أجد أناساً يشبهونني ولا يملكون نقوداً مثلي.. أتعاطف معهم ويتعاطفون معي, وكلما أتوغل في الحواري أكتشف نفسي وأهلي, أما إذا انتقلت للأماكن التي يرتادها الأفندية وذوو الياقات المنشاه فأشعر بالغربة.

ومن جانب آخر, ولأنني كنت بلا عمل ولا نقود, أغلقت في وجهي شقق الأصدقاء وأصبحت شريداً في شوارع القاهرة. أقضي الليلة في أحد الفنادق الفقيرة لو ملكت عشرة قروش ثمن السرير. اعتدت أن ألتقي عددا من الأصدقاء من بينهم أمل دنقل ومحمد جاد. ولأن القروش العشرة لا تتوافر بسهولة, فقد قضيت ما يقرب من عشر سنوات سائراً على قدميّ في شوارع القاهرة ليل نهار حتى أصبحت لغزاً في نظر الجميع!.

حــاولوا معــــرفـــة كيف أعيش وأين أبيت وسارت الأقاويل والألغاز لسنوات طويلة, حتى كشف حقيقتي أمل دنقل الذي كان يقابلني في جميع المقاهي التي تسهر حتى الصباح, وأشاع بين المثقفين أنني رفيقه في رحلة البحث عن مكان للمبيت, وتغيّرت النظرة لي, حتى أصبحت أجد من يتعاطف معي ويدعوني للمبيت ليلة أو ليلتين.

(مقاهي القاهرة, في العطوف وخان الخليلي والحمزاوي والدرب الأحمر والباطنية والأزهر وبولاق ومصر القديمة والقلعة انتهاء بصحراء المماليك حيث مدينة الموتى التي يشرف عليها بجلال واحد من أجمل جوامع الدنيا: جامع قايتباي.. شهدت كل هذه المقاهي ساعات وساعات على مدى سنوات كنا نلتقي خلالها ـ خيري شلبي وأنا ـ كل يوم تقريباً.

كنت وما زلت مذهولاً من هذه القدرة الأسطورية التي تمكّنه من البقاء على مقعده في المقهى منذ النصف الثاني من اليوم وحتى الساعات الأولى من الصباح يقرأ ويكتب ويدخن الشيشة.

في الصيف والشتاء, مثل الأشجار, كان خيري شلبي لا يكف عن العمل لحظة واحدة. كان مصراً على الاستمرار في مشروعه ككاتب رغم التجاهل والصمت المريب المفروضين عليه, لكنه شأن الأشجار كان واقفاً بصلابة الفلاحين, ما إن ينتهي من عمل حتى يشرع في العمل التالي دون أن يؤثر فيه هذا التجاهل أو الصمت.

كان خيري يستيقظ ظهراً, وينتهي سريعاً من المرورعلى مجلة الإذاعة والتلفزيون حيث يعمل, وربما عرج على مبنى التلفزيون المجاور لمجلته, وقرب الساعة الرابعة عصراً نلتقي ونتجول بين المقاهي, حتى اكتشف خيري وحده مدينة الموتى في صحراء المماليك.

في هذه المدينة أحبه الناس, قبل أن يصبح كاتباً مشهوراً, كانت له منضدة خصوصية في قهوة إبراهيم الغول أمام جامع قايتباي يسميها الناس (مكتب الأستاذ) ويمنعون الرواد من الجلوس بجوارها حتى لو كان خيري غائباً. وعندما يعمل خيري, ودون أن يطلب هو, تفاجأ بصوت الراديو والتلفزيون وقد أصبح خافتاً حتى لا يزعجه.

ويظل خيري يعمل: يكتب ويقرأ ساعات تلو ساعات دون أن يؤثر فيه الضجيج وتحيات الناس وبرد الشتاء وحر الصيف.

وبدلاً من أن ينزل خيري لوسط المدينة, ذهب وسط المدينة له! وبدأ عشرات الكتّاب والفنانين يعرفون طريقهم إلى قهوة إبراهيم الغول, وكان هذا فيما يبدو إيذاناً بتوقفه عن عمله في مكتبه, (مكتب الأستاذ), فقد تم اقتحام مكانه, وبدأ خيري رحلة أخرى من رحلاته في البحث عن مكان آخر على الرغم من المحبة والإعزاز والاحترام الذي تلقاه من عشرات البسطاء.

معظم أعمال خيري شلبي: قصصه ورواياته ومقالاته كتبت في المقهى بين الناس, وهو مقهى في حي شعبي أي لا يكف عن الضجيج لحظة واحدة.. لكن خيري كان قادراً على أن يفرض عزلة حديدية في دائرة ضيقة جداً لا تتجاوز مقعده ليظل يكدح طوال الليل وحتى الساعات الأولى من الصباح).

إذا نظرنا إلى حجم روايات مثل (موال البيات والنوم) و(وكالة عطية) و(ثلاثية الآمالي), وقارنا بين هذه الأعمال وآخر رواياتك (صالح هيصة) للاحظنا مدى التكثيف في الأخيرة.. هل يعكس هذا تحولاً لديك?

ـ أنا كفلاح طبيعتي البوح, وهو ما يميزني عن كاتب المدينة, ابن المدينة حويط وممسك, يخشى دائما من الإفضاء حتى لا يتعرى أمام المجتمع.

أما أنا فعلى العكس تستهلك رغبتي في البوح صفحات وصفحات, ولا أستطيع الاقتراب منها بالتشذيب أو الاختصار في حدود ضيقة جداً على الرغم من أنني أعدت كتابة رواية (الاوباش), وكذلك (السنيورة), و(الشطار). كنت برغم تبييضها أعيد صياغتها, والتبييض لا يكون عادة إلا بالزيادة, حيث تتضح أمور كثيرة كانت غامضة من قبل وتتوارد, وخواطر جديدة لم تكن واردة من قبل.

وحين أكتب الآن وأنا فوق الستين روايتي مثل (صالح هيصة) فإن حكمة الشيوخ تتملكني. لدي تجربة فنية حافلة بالتقنيات الأسلوبية والتكنيكية والرؤيوية, كما أصبحت قادراً على تحديد زاوية الرؤية للوهلة الأولى.

ولقد كنت مهتماً في رواية (صالح هيصة) في المحل الأول بزاوية الرؤية, وهي ما يشكل ثلاثة أرباع نجاح الرواية.

وزاوية الرؤية مهمة جداً في العمل الفني, وقد اكتسبت هذه القدرة منذ ما يزيد على عشرين عاماً وجرّبتها في عدد من أعمالي. (صالح هيصة) بالذات أعتز بها ككاتب لأنها وضعتني أمام تحد فني قوي: كيف تكون أنت ـ الكاتب ـ جزءاً لا تتجزأ من الصورة الفنية التي تريد إبرازها, ولا تطغى ذاتك الحاكية على مجريات الأمور في هذه الصورة. كيف تقمع ذاتك المشتاقة للمواقف البطولية وتتحرك نوازعها نحو التأريخ لنفسها بشكلها أو بآخر?

كيف تقمع هذه الذات من أجل الموضوع? بل كيف تقهرها على أن تقدم أناساً منك موضوعياً وترى أنهم الأجدر بالتشخيص والتكثيف.

وفي ظني أن الروايات المقبلة ستستفيد من هذه القدرة الجديدة, وإن كان ذلك لا يعد بروايات قصيرة. فمثلاً الرواية التي أخطط لها الآن أتوقع ـ رغم تربصي بالإيجاز ـ أن تكون في جزأين أو ثلاثة, اخترت (حقل الجماجم) عنواناً مؤقتا لها, أحكي فيها عن تجربتي في مدينة المقابر حيث الأموات الذين عشت معهم واكتشفت أنهم أكثر حيوية ممن ألتقيهم في الحياة اليومية.

(يكتب خيري أعماله الروائية والقصصية في (أجندات) مسطرة وبخط نسخ بحروف كبيرة, ويعيد الكتابة ـ في الغالب ـ عدة مرات قبل أن يصل للصورة النهائية.

اعتاد أصدقاء خيري ـ وأغلبهم تعرّف عليهم في المقهى ـ على إهداء عشرات (الأجندات) له فهو لا يكف عن استهلاكها, كما اعتادوا على أن ينأى بنفسه عنهم, وهو جالس بينهم, وينخرط في الكتابة وهم يتبادلون الحديث, غير أن الحاجز الحديدي الذي يفصله عن الآخرين يمنحه القدرة على الكتابة).

داخل المشهد الروائي العربي الذي يُبدي ازدهاراً ملحوظاً الآن, كيف ترى مكانك فيه?

ـ من خلال ما أقرأه للنقاد سواء عني أو عن غيري من الكتّاب, تبين لي أن لي موقفاً متميزاً على خريطة الرواية العربية, وأستطيع أن أوجز لك ما أشعر أنني أنجزته. على المستوى الفني أحييت فن السيرة الشعبي بشكل حداثي مستفيداً من منجزات فن الرواية في العالم, تمثل هذا في رواياتي: الشطار, العراوي, ثلاثية الأمالي, وكالة عطية, وغيرها. ومن الناحية الموضوعية قدمت إسهاماً عن القرية المصرية يعد إضافة لما أنجزه يوسف إدريس والشرقاوي, ولعلي انفردت بتقديم قاع القرية المصرية الذي نشأت فيه وكنت جزءاً منه.

أما بالنسبة للمدينة فقد كشفت عن حياة كانت شبه مجهولة تماماً بالنسبة للمجتمع, وهي حياة المهمشين: سكان المقابر, السمكرية, القهوجية, الجزمجية, النجارون, الحدادون, البلطجية.. كل هذه النماذج لم تكن معروفة كأبطال قصص من قبل, وقد تبوأت عندي منصة الحكي, وتحكي عن نفسها بنفسها.

والآخرون من الروائيين العرب.. ماذا قدموا في رأيك?

ـ بالطبع, أحب نجيب محفوظ كله, وأذوب في هوى يحيى حقي وأقبِّل عتبات يوسف إدريس, والطيب صالح تعلمت منه الكثير وبعض أعمال حنا مينا, و(صيادون في شارع ضيق) لجبرا إبراهيم جبرا.أما أعمال عبدالرحمن منيف فلا أحبها لأن الشخصيات عنده خشب مسندة وإبراهيم الكوني كاتب لديه تجربة لكنه يعبر عنها بغرائبية مفتعلة. وربما كان الكتاب الشباب في الوطن العربي مبشرين أكثر من الأجيال السابقة وتجد في أعمالهم نبضاً وحيوية.

(في السنوات الأخيرة توقف خيري شلبي عن مقهاه المفضل في مدينة الموتى, ليس فقط بسبب اقتحام مثقفي القاهرة وكتابها لعزلته, أو بسبب تعاملهم مع مكانه على نحو فولكلوري كأنهم سائحون يشاهدون عجائب التاريخ, بل لأن الدنيا تغيرت, وخيمت الكآبة بل وتغير الناس والزمن ورائحة الجو.

وفجأة اتخذ خيري شلبي قراره خصوصاً بعد إحالته على التقاعد, ترك المقهى ولزم بيته في إحدى الضواحي البعيدة.

يستيقظ في الثالثة تقريباً وينام بين الثامنة والتاسعة صباحاً.. أما الليل بكامله فهو للعمل فقط.

يقضي أحياناً عدة أسابيع متواصلة لا يخرج مطلقاً, وعندما فوجئ بأنه قد أصبح بديناً بشكل غير محتمل, ولم تعد ملابسه صالحة للاستعمال, اتخذ قراراً آخر بفرض (ريجيم) قاس مكّنه من استعادة وزنه العادي خلال عدة أسابيع.

ومن بين القرارات الأخرى التي اتخذها في الفترة الأخيرة, رفضه ركوب سيارته وتركها أمام منزله واستخدام سيارات الأجرة لو فكر في الخروج, لكنه لا يخرج عادة.

بالطبع كان غريباً أن يقضي خيري قرابة أربعين عاماً من عمره على المقهى, وفجأة يقرر أن يلزم بيته تماماً.

وأخيراً أيضاً اقتحم خيري التلفزيون وقام بإعداد واحدة من أعذب رواياته وأكثرها اكتمالاً وهي (الوتد), وعندما عرضت تلقاها الناس بحب وإعجاب, وتابعوا حلقاتها بشغف, فكرر التجربة وانتهى من إعداد (ثلاثية الأمالي) وعرض جزء منها (الكومي)).

ننتقل إلى جانب آخر من عملك وهو كتابة المسلسل التلفزيوني. وقد حظي (الوتد) بنجاح منقطع النظير عند عرضه, كما انتهيت أخيراً من المسلسل الثاني (الكومي) الذي عرض على الشاشات العربية في شهر رمضان الماضي وكلاهما مأخوذ من أعمال روائية لك.. لماذا اتجهت للتلفزيون.. هل باعتباره وسيطاً أكثر انتشاراً أم أنه يتيح لك حلولاً فنية مختلفة?

ـ لجأت للتلفزيون مضطراً لأن التجارب التي عرضت عليّ كمعالجات لكل من الوتد وثلاثية الأمالي (الكومي) كانت كلها مزعجة جداً وربما تافهة. جربت أكثر من سيناريست واتضح لي أن جميعهم من المحترفين الذين لا ينتظر من ورائهم قيمة فكرية يعتد بها. هم مدربون على العمل التجاري الصرف, فرأيت أن المغامرة بكتابة سيناريو لأعمالي هي الحل الوحيد لإنقاذ العملين من الضياع, وكنت مرعوباً من التعامل مع هذا الجهاز المخيف, لكن نجاح تجربة (الوتد) شجعني على تكرار التجربة في (الكومي).

أتفق معك في القول إن التلفزيون الآن هو الوسيلة الأكثر انتشاراً والتي تتيح للكاتب فرصة ذهبية لمخاطبة ملايين البشر في لحظة واحدة, إلا أنه في المقابل جهاز يخيفني كما يخيف جميع الروائيين, ويجب أن نظل نخاف منه إلى ما لا نهاية حتى لا نحترفه, لأن الروائي منوط به إنقاذ العقلية الفردية من الضياع بسبب التلفزيون. أنا شخصياً أقدر العمل الروائي, بل وأرى أن التلفزيون يقود الكاتب إلى التسطيح والمشاركة في التضليل لأن مخاطبة العقلية الجماعية تفرض على الكاتب روح التعامل مع القطيع, فأنت لا تستطيع إلا أن تقدم موضوعات بعينها توافق عليها الرقابة, ولا تستطيع أن تطلق العنان لنفسك بالتعبير الفني الصادق لأن هناك محاذير رقابية. وأخطر مأزق يواجه الكاتب هو أن يخاطب العقلية الجماعية لأنه في هذه الحالة لن يكون صاحب خطاب محترم أو موضوعي على الإطلاق, إذ هو في هذه الحالة يخاطب الاهتمامات العامة التي تجعل الناس أشباهاً أو نسخاً مكررة. وفي تقديري أننا اليوم أحوج ما نكون إلى الرواية المطبوعة في كتاب: أي مخاطبة للعقل المفرد عن طريق الرواية التي تفتح جدلاً مع العقلية الفردية وتبث في الفرد الثقة. وعندما تخاطب العقلية الفردية, فإن خطابك يكون عادة شجياً وحافلاً بالأسرار بينك وبين القارئ. إن الطريقة المثلى لتطوير المجتمعات هي أن نربي كل فرد على حدة من خلال الفن القصصي والروائي والشعر, أو بمعنى أدق من خلال الثقافة المنشورة في كتاب, ولهذا فإني على يقين أن الكتاب لن يضمحل أبداً وسيظل سيد الموقف إلى ما لا نهاية.

ألا ترى أن هناك تناقضاً بين رأيك في الرواية المكتوبة التي تنتصر لها والمعالجة التلفزيونية التي تمارسها بالفعل?

ـ هذا التناقض موجود بالفعل, فأنا أعتبر نفسي ضيفاً على العمل التلفزيوني. بمعنى آخر لن أكون محترفاً في يوم من الأيام حتى لو كرّرت التجربة مرة ثالثة أو رابعة فسأظل كاتباً روائياً إلى ما لا نهاية. لك أن تتخيل كاتباً مثل (زوسكندر) صاحب رواية (العطر) إنه في الأصل سيناريست ويكتب مسلسلات تلفزيونية, لكن (العطر) ـ هذه الرواية الفذة التي تعتبر من أهم روايات القرن العشرين ـ لا تصلح كمسلسل تلفزيوني.

عملت بالصحافة قرابة أربعين عاماً وكتبت برامج ومسلسلات للإذاعة, كما أصدرت أعمالاً تنتمي للنقد والتاريخ والتصوف, فضلاً عن هذا الكم الضخم من المجموعات القصصية والروائية.. كيف استطعت أن توفق بين الأجناس المختلفة, وهل هناك تعارض بين هذا الجنس وذاك? وكيف تمكنت أصلاً من كتابة كل هذا?

ـ لا يوجد أي تعارض إلا عندنا في مجتمعاتنا العربية التي تؤمن بمقولة غريبة جداً, وهي أن الشاعر يكتب القصيدة فحسب وكذلك الروائي والمسرحي. هذا غير موجود في أي مكان في العالم.في أوربا مثلاً تجد الكاتب له عدة دواوين من الشعر وعدة روايات وكتب في الرحلات, وأقربهم نايبول الفائز بجائزة نوبل.

الكاتب كاتب.. والكاتب المتكامل الأدوات يستطيع أن يمارس كتابة كل الأجناس الأدبية. وبالنسبة لي فإن الطريقة التي نشأت عليها أتاحت لي ذلك.

أما كيف استطعت إنجاز ما يقرب من 70 كتاباً وأنا الآن في الرابعة والستين من عمري, فإن اشتغالي بالصحافة أعانني على ذلك, على عكس ما يهدف به الكثيرون. إنهم يقولون إن الصحافة تأكل الأديب وتضيّع وقته وتسطحه.. وأنا أقول إن هذا لن يحدث إلا إذا كان قابلا للتسطيح أو التآكل, وقد سمعت عبارة من د. لويس عوض في أول احتكاكي بالوسط الثقافي في القاهرة وكنت في العشرين من عمري. العبارة كان يوجهها للناقد السينــمائي صبحي شفيق إبان تعيينه في صحيفة (الأهرام) قال له: لكي تنجو من خطر الصحافة لا تنشر فيها إلا ما يصلح أن يكون فصلاً في كتاب حتى لا تضيّع عمرك هباء,وهذا معناه أن يتجنب الكتابة في موضوعات وقتية سريعة تأكل الوقت ولا تمثل رصيداً.

شعرت كأن لويس عوض يوجه لي أنا هذه النصيحة ولم أنسها أبداً طوال اشتغالي بالصحافة, فلم أنشر مقالاً واحداً, يمكن أن أستغني عنه, ولهذا لو جمعت ما كتبته في الصحافة سيؤلف مكتبة كاملة.

ولا تنس أنني فلاح وعامل ترحيلة وبائع سرّيح وحرفي تمرست بالشغل اليدوي واعتدت الجلوس على مقعد واطئ والعمل لساعات طويلة. تعودت أن أرمي البذرة في الأرض وأسقيها وأرعاها.

إنها قوة إرادة, أما مقــــولة ضـــيق الوقت فهـــــي محض ادعاء. الوقت طــــويل جداً ولكننا نتفنن في هدره, وقد انتبهت إلى هذا جيداً ومنذ وقت مبكر, ولا أضيع دقيقـــــة واحدة إلا فــي الكتـــــــابة أو القراءة.

 

خيري شلبي ومحمود الورداني