رحلة على حافة التاريخ

  رحلة على حافة التاريخ
         

كانت الأوضاع العالمية في القرن الخامس عشر أشبه بسيرك دولي, وفي هذا السيرك قام (تافور) باستعراض طريف على الحبل المشدود فوق البحر الأبيض والممتد من الأندلس إلى القسطنطينية.

          كان القرن الخامس عشر حافة خطيرة في تاريخ البشرية, لقد سار أهل الغرب, وأهل الشرق على حبال مشدودة بين الأندلس والقسطنطينية, استطاع العثمانيون في ضربة سيف أن يقطعوا على الغرب حبلهم الشرقي فأسقطوا القسطنطينية عام 1453م, ولكن الغرب بدوره استطاع في ضربة مقابلة أن يقطع الحبل الغربي, فأخرجوا العرب من إسبانيا عام 1492م, لقد أفاق الغرب وبدأ يتطلع من أعلى البحر الأبيض إلى الجنوب... إلى الشرق, وكان يأمل في أن تمتد ذراعاه, ولكنه فوجئ بالعثمانيين يبترون له ذراعه اليسرى فيكتفي باليمنى, يعوض بإطالتها ودورانها حول إفريقيا فقدان اليسرى مع إبعادها عن التعرض لخطر البتر العثماني بالامتداد المباشر.

          لقد اضطرت ظروف السيرك الدولي آنذاك الغرب لترك الحبال المشدودة على اللهب المشتعل في البحر الأبيض, إلى التسرب خارج خيمة السيرك عن طريق رأس الرجال الصالح, أو الطريق إلى أمريكا حيث الثروة متاحة, ويمكن اختلاسها دون استعراض لبطولة ميئوس منها في حلبة البحر الأبيض.

بين عصرين

          في هذه الأجواء, ظهر شاب في الخامسة والعشرين من عمره اسمه (بروتافور) يعيش في مدينة (إشبيلية) بالأندلس, كانت تراوده أحلام حول أجداده الأوَل, وأجداده - كما عرف من وثائق قديمة - أباطرة يعيشون بالقسطنطينية. اختلف أحدهم ذات يوم مع ابن له لوقوف الابن مع النبلاء ضد رغبة أبيه في فرض ضرائب عليهم مثلهم مثل العامة. ولما كان هذا الأمير ومعه زملاؤه, لا يقبلون هذه المساواة المذلة لشأنهم العظيم فقد قرروا الحرب.

          وفي أثناء القتال يقع الشاب في صراع (هاملتي) بين رابطة الدم وواجب النبالة فيقرر أن يخلّص نفسه بالهرب إلى إسبانيا, ويترك الأمر للنبلاء ليقاتلوا أباه تحت راية أخيه الأصغر الذي انضم إليهم. يموت الملك وتستقر الأمور للنبلاء فينصبون الابن الأصغر امبراطوراً وحامياً لجماعتهم من تسرب دماء العامة (النجسة) إلى دمائهم الشريفة, وبالتالي يتفرغون لقتال جماعة الأتراك المسلمين (الكفرة) الذين يهددون نظامهم الأرضي والسماوي.

          أما الابن الهارب إلى إسبانيا, فينتقل من قشتالة إلى طليطلة ويثبت أنه مازال نبيلاً في مهمته الأرضية والسماوية, فيحتفظ بدمائه نقية ويتزوج من إحدى أخوات ملكها ويقاتل المسلمين لإخراجهم من الأندلس.

          هذه الأحلام تدفع الشاب (تافور) إلى القيام برحلة البحث عن أصله النبيل في القسطنطينية, وأصله الديني في بيت المقدس.

          يخرج الشاب (تافور) عام 1435 موزع المشاعر بين العصور الوسطى, ومشارق عصر النهضة إلى المحيط الأطلسي. يلتقي عند مضيق جبل طارق بجماعة من المسلمين, ويتقاتل معهم أحد النبلاء ويقتل, فينسحب (تافور) بسفينته محاذيا ساحل الأندلس الشرقي ليصل منه إلى سواحل فرنسا على البحر الأبيض. يرسو عند جنوة, ومنها إلى فلورنسا, ثم بولونيا. يلتقي بالبابا ويأخذ منه الإذن لزيارة بيت المقدس مع ورقة غفران تسهل له طريق الجنة إذا استشهد.

          يصل (تافور) إلى البندقية استعداداً للرحيل ولكنه يجد أن الوقت يسمح بزيارة (روما) وكانت مدن إيطاليا آنذاك مفككة, بل متنازعة حول التجارة, والنشاط البحري, روما ليست ذات نشاط بحري فهي إذن مدينة خاملة ليس بها إلا أطلال مجدها الغابر الذي لا يعلم عنه سكانها شيئا, وإن كان لديهم معلومات تفصيلية عن حاناتها, يسكرون فيها ويقدمون كل عام إلى البابا احتجاجاً رسمياً معلنين أنهم على استعداد لإخضاع العالم كما كان الحال قديماً.

          يعود (تافور) إلى البندقية ليبدأ رحلته من شاطئ اليونان, إلى كريت, إلى رودس, وإذا كانت روما تجمع بين مخلفات مسيحية وآثار رومانية, فإن أهل رودس جماعة من الفرسان وهبوا أنفسهم لحماية الوعاء الذي غسل فيه المسيح يديه, وجزء من النقود التي بيع بها, وبعض الشوك الذي توّج به, ومسمار من الصليب الذي رفع عليه, ولحماية هذه المقدسات يقدمون الخدمات للحجاج ويرفعون السيف عند اللزوم.

          ويذكرك (تافور) ابن القرن الخامس عشر بقـــصة (فرنـــشيـــسكا) لـ (دانتي), فدانتي ابن العصور الوسطى والكنيسة لا يقبل أن تخون هذه الفتاة زوجها فيضعها في الجحيم, لكنه يعود متسامحاً وابنا لعصر النهضة فيبرر لها فعلتها لأن أهلها خدعوها وزوّجوها من رجل شرير دون أن تدري.

          وعندما تكتشف الحقيقة تظل على علاقة بحبّها الأول, تسامح (دانتي) يجعله يختار لها المطهر كحل وسط بين الجحيم والجنة, بين الخطيئة والفضيلة.

في فلسطين ومصر

          تافور أيضاً حينما يزور بيت المقدس - الذي كان تحت سلطان المماليك - آنذاك تراه يصف لك الزيارة دون انفعال بالتسامح الإسلامي, بل المشاركة بين المسلمين والمسيحيين في توقير آثار السيد المسيح, هو هنا ابن العصور الوسطى والتعصب الديني, ولكنه في مواقف أخرى تبتعد عن القضايا الدينية نراه موضوعي النظرة والأحكام. في فلسطين يزور (تافور) الأماكن التي ظهر فيها المسيح, والقبر المقدس, وجبل الجلجلة حيث صلب (كما يعتقد المسيحيون), ثم جبل الزيتون حيث صعد, ثم بيت لحم حيث ولد. ثم الموقع الذي أقام فيه رجلاً من الموتى, هناك يتعرض الحجاج لعملية استغلال سياحي من جانب أحد الحراس فيشتبكون في قتال وينتهي الأمر عند الحاكم الذي يتبين الحقيقة فيأمر بقطع رقبة هذا الحارس المستغل (دون تعليق من تافور).

          يتخفى (تافور) ويدخل مسجد الصخرة فتراوده الأحلام في استكمال الرحلة إلى أرض سيناء, ولكن تأتيه النصيحة بأن يتوجه أولاً إلى قبرص, ومنها يأخذ خطاب توصية لسلطان مصر (برسباي) حتى يسهل له مهمة دخول سيناء.

          ينزل (تافور) في مدينة (دمياط) ثم ينتقل منها إلى القاهرة, وعند مدخلها يصف جماعة يحلقون رءوسهم, ولحاهم, وحواجبهم, وأهدابهم كنوع من التطهر والانسحاب من مباهج الدنيا. أو يلبسون القرون, ويلصقون الريش على أجسامهم, أو يحملون المصابيح على أعمدة عالية. ولما سأل عنهم قيل له إنهم على وشك دخول النار مع الكلاب المسيحيين ليروا أي الفريقين أسرع احتراقاً.

          في القاهرة ينزل في منزل كبير مترجمي السلطان, ويحكي له الأخير قصته, فهو أيضا من إشبيلية, كان يهوديا, ولكنه اعتنق الإسلام وغيّر اسمه من (حايم) إلى (صايم). ثم يدبر لتافور لقاء مع السلطان ليسلمه الجزية التي أرسلها معه ملك قبرص. ويحسن السلطان استقباله ويأمر له بالمسكن المريح وما يلزم من المنح والهدايا. وبعد جولة سياحية في القاهرة يحصل على إذن بالدخول إلى سيناء.

          يثير صمت الصحراء ودير سانت كاترين خيال (تافور) فيحلق ثم يحط على أرض الهند, لقد سمع أن بها رجلاً يسمى (بريسترجون) أقام دولة مسيحية كبيرة, وسيطر على خمسة وعشرين ملكا, ويتأكد خياله بواقع يحكيه له رحالة قابله في سيناء يسمى (نيقولا دي كونتي), لقد رحل (نيقولا) إلى الهند وبقي في الغربة أربعين عاماً, ثم قرر العودة إلى أرض الوطن, إيطاليا, يسأله (تافور) عن قصته وقصة (بريسترجون) فيخبره أنه رحل بعد أن فقد أمواله إلى أرض الهند وهناك تعرف على (بريسترجون) حيث تزوج واستقر وأنجب, ولكن بعد أن تفككت المملكة قرر العودة, وفي طريق عودته مر بمكة حيث خيّر بين اعتناق الإسلام هو وأسرته أو الموت, فاعتنق الإسلام, ولكن أمواله نُهبت بعد ذلك, وهاهو عائد إلى البابا يطلب التكفير بعد الهجرة.

          أما (بريسترجون) فهو يسيطر على أتباعه بقدرات خاصة, لقد جاءه ذات مرة سيد جليل بهدية عظيمة, واحتار (جون) كيف يكافئه, ولم يجد في النهاية أجلّ ولا أعظم من قتله قائلا: (إن الموت ليس بقليل على هذا السيد العظيم)!

          وإذا كانت الرحلة إلى الهند شاقة مليئة بالأهوال, فإن ذلك لم يمنع (بريسترجون) من الخروج بقواته لاسترداد بيت المقدس, فيصرف (تافور) النظر عن رحلة الهند مادام (بريسترجون) سيحضر يوما إلى بيت المقدس, يعود تافور للقاهرة, ويحكي له ابن بلدته - كبير مترجمي السلطان - قصة (بطرس الرندي) الذي قاتل المسلمين كقرصان ولكنه حين قبض عليه وخيّر بين الإسلام والسيف اختار السيف, فأعجب به السلطان واستبقاه على دينه وأكرمه وعيّنه في خدمته, لم ينسجم (تافور) من هذه القصة واعتبرها نوعاً من الدعاية السلطانية, في الوقت الذي يعلّمنا فيه أن السلطان حقق في موضوع الاعتداء على صديقه (نيقولا) الذي نهب وفرض عليه الإسلام. فيرد له السلطان حقوقه, بل يكرمه ويعيّنه مترجماً في حاشيته.

          رغم كل هذا يظل (تافور) ابن العصور الوسطى في منطقه الطبقي ومنطقه الديني, فيقرر الرحيل أو العودة إلى قبرص, ومنها يستعجل إتمام الرحلة - بعد أن صدم في هذا القطر المسيحي المنكود - لاستئناف مهمته المقدسة في حرب قشتالة ضد المسلمين.

عند الأتراك

          ولكن كيف يمكن الرجوع إلى أرض الوطن وهو بعد لم يستكمل بحثه عن أصله النقي الممتد إلى عروق أباطرة القسطنطينية?

          يرحل (تافور) إلى القسطنطينية حيث يجد حسن الاستقبال والترحيب فيشجعه ذلك على إثارة موضوع أصله الإمبراطوري, ويقوم رجال البحث عن الأصول بتكليف من الإمبراطور بدراسة الملفات القديمة, وبعد العودة من رحلة صيد يؤكدون صحة رواية (تافور), فينتشي بعد أن اطمأن إلى أن طبقة النبلاء لا تزال بخير, وأنها ما زالت تتمتع بالحرية الواجبة في إخضاع الرعية ببلاد اليونان, ولكنه ينتهي إلى الأسف متذكراً وقائلاً (غير أن خطايا المسيحيين أدت إلى إصابة الرعايا والنبلاء على السواء بالعبودية المؤلمة نظراً لأن سادتهم أصبحوا من الترك أعداء الإيمان).

          ويبدو أن الإمبراطور المهدد من قبل (البرابرة) الأتراك قد أعجب بالفكر (التافوري) فقرر أن يكلف أخته الحسناء بخدمة السيد الفارس أملاً في أن يتزوجها ويستقر به المقام في القسطنطينية, إلا أن تافور يكتفي منها (بما قدمته من أشياء كثيرة)... ويقرر الرحيل إلى دار الأتراك.

          الأتراك آنذاك كانوا قد توسعوا فأحاطوا بالقسطنطينية من أراض آسيوية في آسيا الصغرى, ومن أراض أوربية في بلاد اليونان, وبالتالي أصبحت عيون القسطنطينية في وسط رأسها, أو أصيبت بالحول, فعين تتطلع إلى ما يعده الأتراك في آسيا الصغرى, والأخرى تتطلع إلى ما يستفزون به في أوربا.

          يصل (تافور) إلى مدينة (أدريا) التابعة للأتراك في بلاد اليونان ويلتقي بالسلطان العثماني فيعجبه ما يتمتع به وجماعته من فروسية تجعلهم يقيمون دائماً في ميادين خاصة خارج المدينة, ولما كانت الحاشية كبيرة, والجواري أكثر من ثلاثمائة, فإن الاحتياج للمدينة يكون عادة للاستحمام, فيهل على المدينة موكب ضخم من طبل وزمر وغناء, وينتهي الحفل عند منتصف الليل بعد أن ينتهي السلطان من جميع المهام.

          ويرغب (تافور) في الاتصال بأهل (جنوة) الذين استطاعوا أن يقيموا لهم سوقاً للرقيق بسيطرتهم على مدينة (كيفا) على البحر الأسود, فينتقل إليها, وهناك يرى وكلاء البيع والشراء من مختلف الأجناس, يعملون لحساب المماليك والأتراك, والبابا, والمدن الإيطالية, والدول الأوربية. أما الرقيق فمن بلاد الفرس, والقوقاز, والجراكسة, والبلغار, والتتار. ومنطق شراء العبيد عند الجميع بسيط, فالأتراك والمماليك يحتاجون إلى مقاتلين تربية أيديهم, والدول المسيحية تستعمل العبيد حتى لا يقعوا في أيدي المسلمين ويتحوّلوا إلى مقاتلين ضد عقيدتهم. وبالتالي فإن أفضل العبيد وأغلاهم ثمناً هم التتار لما تميّزوا به من إخلاص وتبعية لمن يقولون له (يا سيدي).

          التتار إذن قوم يستحقون الدراسة فيرحل إليهم (تافور), ولكـــــنه يجــدهم لا يعــــرفون ســــوى الاقتـــتال, فــــيهرب بجلده ويعود إلى القسطنطينية, ويبدأ في التعرف على المدينة, يزور كنيسة (آيا صوفيا) ويرى مخلفات المسيح بها. ولكن هناك مخلــــــفات أخرى من عقـــــائد تنذر بنــــهاية هذه الدولة, هــــناك باب تدخــــل منه المــــرأة المتهمة بالزنا وتخرج من باب آخر. وعند الخـــــروج إذا ارتفع ثوبها إلى خاصـــرتها فــــهذا معناه أنها مذنـبة, وهناك تقـــــليد يحرم عقـــوبة الإعدام, ويســــتبدل به عقوبة قطع الأيدي, وسمـل الأعين, والنتـــيجة انتشار العميان ومقــطوعي الأيدي في بلاد اليــــونان.

          وكان هناك فارس يظهر فوق سور المدينة يقوم على حمايتها ولكنه اختفى الآن, وهناك تمثال للإمبراطور (قسطنطين) يحمل كرة عظيمة هي الكرة الأرضية, ويشير باليد الأخرى إلى جهة بلاد الأتراك, وانتشرت الرواية بين أهل البلد, أن الخراب سيحل يوماً على المدينة من هذه الجهة.

في الغرب

          يعود (تافور) إلى البندقية ليطمئن على حال الغرب فيحكي له أهلها من حال الإمبراطور مع البابا, لقد حاول الإمبراطور (بربروسة) أن يستولي على أموال البابا, فيهرب الآخر ويلجأ إلى البندقية ويختفي في زي طباخ, وعندما عرف أهلها بذلك نصروه, وخرجوا بأسطولهم, وهزموا الإمبراطور, وبعد مفاوضات يقبل الإمبراطور شروط البابا وهو أن ينبطح على الأرض ويمر عليه البابا. وينفذ الشرط, ويمر البابا رافعاً رأسه فوق الإمبراطور مردّداً ما يؤكد سلطانه, ويجيب الإمبراطور تحت قدميه بأن هذا القول كان للقديس بطرس, فيجيب البابا: (ما قيل لبطرس فهو لي, وما قيل لي فهو لبطرس... اخرس) ثم يمنحه البركة والعفو.

          وإذا كان حال أهل الجنوب من عالم الغرب موزعاً بين الفروسية التي توشك أن تزول والإمبراطور الذي يدوسونه بالأقدام, والبابا الذي يعمل طبّاخاً, وبين الأتراك (الكفرة) الذين سينقلب الزمن ويجعلهم يسيطرون, فليذهب (تافور) إلى الشمال.

          يعبر (تافور) جبال الألب من ميلانو ليذهب إلى ألمانيا, وتكون سياحته في ألمانيا مريحة لأعصابه, فالنبيذ جيد, والمنازل عالية نظيفة, والشوارع مرصوفة بالحجارة, والنساء مبتسمات من الثراء والراحة, أما الحمامات... حمامات الاستشفاء, فالجميع من نساء ورجال يسبحون فيها عرايا مع المرح, والأكل, والشرب, والغناء, وغطس الفتيات في القاع وراء العملات الفضية, ولا يخرج (تافور) من جولة الحمامات إلا وهو في صحبة سيدة تدعوه لزيارتها في كولونيا.

          ويزور في طريقه (ستراسبورج) و (ميتز) وحينما يصل إلى كولونيا تحلو له الإقامة عند (مرشدته السياحية). ويبدأ في تأمل المدينة بمزاج رائق. فالمدينة متسعة, نظيفة, ثرية, تقع بين الحقول ونهر (الراين), بها فنادق للإقامة المؤقتة, أو الدائمة, وكنيستها بالغة الروعة, وأسواقها مليئة بالبضائع.

          يرحل تافور إلى (بروكسل) ويسأله دوق المدينة عن أحوال أهل الجنوب, وعن بيت المقدس, وكيف يمكن استرداده. ويتذكر (تافور) ما غسلته سياحة ألمانيا من رأسه فيقرر للدوق أنه ذاهب فوراً إلى قشتالة لقتال المسلمين. ولكن لابأس أولاً من زيارة مدن ما ستسمى بعد ذلك بلجيكا, يـــزور (بربيــج) و(جان) و (أنتورب) و (لوفان), ثم ينتقل إلى (فرانكفورت), ويعود إلى كولونيا و (بازل) ثم (نورمبرج) و (براج). وبعد زيارة ملك بولندا يستأذن كعادته في الانصراف لأنه في عجلة للعودة إلى بلده لمقاتلة المسلمين, ولكنه كعادته أيضاً ينسى.

          يذهب إلى (فيينا) ويهاجمه قطاع طرق يكتشف - بعد ذلك - أنهم نبلاء ولكن فقراء, فيلعن ذلك اليوم الذي ذهب بنخوة النبلاء وحولهم إلى غوغاء. ويتخذ طريق العودة برّاً إلى إيطاليا, ومنها بحراً إلى إسبانيا بعد أن قضى في رحلته أربع سنوات كاملة.


محمد المهدي   



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية   

  







 





 



رحلة على حافة التاريخ

كانت الأوضاع العالمية في القرن الخامس عشر أشبه بسيرك دولي, وفي هذا السيرك قام (تافور) باستعراض طريف على الحبل المشدود فوق البحر الأبيض والممتد من الأندلس إلى القسطنطينية.

كان القرن الخامس عشر حافة خطيرة في تاريخ البشرية, لقد سار أهل الغرب, وأهل الشرق على حبال مشدودة بين الأندلس والقسطنطينية, استطاع العثمانيون في ضربة سيف أن يقطعوا على الغرب حبلهم الشرقي فأسقطوا القسطنطينية عام 1453م, ولكن الغرب بدوره استطاع في ضربة مقابلة أن يقطع الحبل الغربي, فأخرجوا العرب من إسبانيا عام 1492م, لقد أفاق الغرب وبدأ يتطلع من أعلى البحر الأبيض إلى الجنوب... إلى الشرق, وكان يأمل في أن تمتد ذراعاه, ولكنه فوجئ بالعثمانيين يبترون له ذراعه اليسرى فيكتفي باليمنى, يعوض بإطالتها ودورانها حول إفريقيا فقدان اليسرى مع إبعادها عن التعرض لخطر البتر العثماني بالامتداد المباشر.

لقد اضطرت ظروف السيرك الدولي آنذاك الغرب لترك الحبال المشدودة على اللهب المشتعل في البحر الأبيض, إلى التسرب خارج خيمة السيرك عن طريق رأس الرجال الصالح, أو الطريق إلى أمريكا حيث الثروة متاحة, ويمكن اختلاسها دون استعراض لبطولة ميئوس منها في حلبة البحر الأبيض.

بين عصرين

في هذه الأجواء, ظهر شاب في الخامسة والعشرين من عمره اسمه (بروتافور) يعيش في مدينة (إشبيلية) بالأندلس, كانت تراوده أحلام حول أجداده الأوَل, وأجداده - كما عرف من وثائق قديمة - أباطرة يعيشون بالقسطنطينية. اختلف أحدهم ذات يوم مع ابن له لوقوف الابن مع النبلاء ضد رغبة أبيه في فرض ضرائب عليهم مثلهم مثل العامة. ولما كان هذا الأمير ومعه زملاؤه, لا يقبلون هذه المساواة المذلة لشأنهم العظيم فقد قرروا الحرب.

وفي أثناء القتال يقع الشاب في صراع (هاملتي) بين رابطة الدم وواجب النبالة فيقرر أن يخلّص نفسه بالهرب إلى إسبانيا, ويترك الأمر للنبلاء ليقاتلوا أباه تحت راية أخيه الأصغر الذي انضم إليهم. يموت الملك وتستقر الأمور للنبلاء فينصبون الابن الأصغر امبراطوراً وحامياً لجماعتهم من تسرب دماء العامة (النجسة) إلى دمائهم الشريفة, وبالتالي يتفرغون لقتال جماعة الأتراك المسلمين (الكفرة) الذين يهددون نظامهم الأرضي والسماوي.

أما الابن الهارب إلى إسبانيا, فينتقل من قشتالة إلى طليطلة ويثبت أنه مازال نبيلاً في مهمته الأرضية والسماوية, فيحتفظ بدمائه نقية ويتزوج من إحدى أخوات ملكها ويقاتل المسلمين لإخراجهم من الأندلس.

هذه الأحلام تدفع الشاب (تافور) إلى القيام برحلة البحث عن أصله النبيل في القسطنطينية, وأصله الديني في بيت المقدس.

يخرج الشاب (تافور) عام 1435 موزع المشاعر بين العصور الوسطى, ومشارق عصر النهضة إلى المحيط الأطلسي. يلتقي عند مضيق جبل طارق بجماعة من المسلمين, ويتقاتل معهم أحد النبلاء ويقتل, فينسحب (تافور) بسفينته محاذيا ساحل الأندلس الشرقي ليصل منه إلى سواحل فرنسا على البحر الأبيض. يرسو عند جنوة, ومنها إلى فلورنسا, ثم بولونيا. يلتقي بالبابا ويأخذ منه الإذن لزيارة بيت المقدس مع ورقة غفران تسهل له طريق الجنة إذا استشهد.

يصل (تافور) إلى البندقية استعداداً للرحيل ولكنه يجد أن الوقت يسمح بزيارة (روما) وكانت مدن إيطاليا آنذاك مفككة, بل متنازعة حول التجارة, والنشاط البحري, روما ليست ذات نشاط بحري فهي إذن مدينة خاملة ليس بها إلا أطلال مجدها الغابر الذي لا يعلم عنه سكانها شيئا, وإن كان لديهم معلومات تفصيلية عن حاناتها, يسكرون فيها ويقدمون كل عام إلى البابا احتجاجاً رسمياً معلنين أنهم على استعداد لإخضاع العالم كما كان الحال قديماً.

يعود (تافور) إلى البندقية ليبدأ رحلته من شاطئ اليونان, إلى كريت, إلى رودس, وإذا كانت روما تجمع بين مخلفات مسيحية وآثار رومانية, فإن أهل رودس جماعة من الفرسان وهبوا أنفسهم لحماية الوعاء الذي غسل فيه المسيح يديه, وجزء من النقود التي بيع بها, وبعض الشوك الذي توّج به, ومسمار من الصليب الذي رفع عليه, ولحماية هذه المقدسات يقدمون الخدمات للحجاج ويرفعون السيف عند اللزوم.

ويذكرك (تافور) ابن القرن الخامس عشر بقـــصة (فرنـــشيـــسكا) لـ (دانتي), فدانتي ابن العصور الوسطى والكنيسة لا يقبل أن تخون هذه الفتاة زوجها فيضعها في الجحيم, لكنه يعود متسامحاً وابنا لعصر النهضة فيبرر لها فعلتها لأن أهلها خدعوها وزوّجوها من رجل شرير دون أن تدري.

وعندما تكتشف الحقيقة تظل على علاقة بحبّها الأول, تسامح (دانتي) يجعله يختار لها المطهر كحل وسط بين الجحيم والجنة, بين الخطيئة والفضيلة.

في فلسطين ومصر

تافور أيضاً حينما يزور بيت المقدس - الذي كان تحت سلطان المماليك - آنذاك تراه يصف لك الزيارة دون انفعال بالتسامح الإسلامي, بل المشاركة بين المسلمين والمسيحيين في توقير آثار السيد المسيح, هو هنا ابن العصور الوسطى والتعصب الديني, ولكنه في مواقف أخرى تبتعد عن القضايا الدينية نراه موضوعي النظرة والأحكام. في فلسطين يزور (تافور) الأماكن التي ظهر فيها المسيح, والقبر المقدس, وجبل الجلجلة حيث صلب (كما يعتقد المسيحيون), ثم جبل الزيتون حيث صعد, ثم بيت لحم حيث ولد. ثم الموقع الذي أقام فيه رجلاً من الموتى, هناك يتعرض الحجاج لعملية استغلال سياحي من جانب أحد الحراس فيشتبكون في قتال وينتهي الأمر عند الحاكم الذي يتبين الحقيقة فيأمر بقطع رقبة هذا الحارس المستغل (دون تعليق من تافور).

يتخفى (تافور) ويدخل مسجد الصخرة فتراوده الأحلام في استكمال الرحلة إلى أرض سيناء, ولكن تأتيه النصيحة بأن يتوجه أولاً إلى قبرص, ومنها يأخذ خطاب توصية لسلطان مصر (برسباي) حتى يسهل له مهمة دخول سيناء.

ينزل (تافور) في مدينة (دمياط) ثم ينتقل منها إلى القاهرة, وعند مدخلها يصف جماعة يحلقون رءوسهم, ولحاهم, وحواجبهم, وأهدابهم كنوع من التطهر والانسحاب من مباهج الدنيا. أو يلبسون القرون, ويلصقون الريش على أجسامهم, أو يحملون المصابيح على أعمدة عالية. ولما سأل عنهم قيل له إنهم على وشك دخول النار مع الكلاب المسيحيين ليروا أي الفريقين أسرع احتراقاً.

في القاهرة ينزل في منزل كبير مترجمي السلطان, ويحكي له الأخير قصته, فهو أيضا من إشبيلية, كان يهوديا, ولكنه اعتنق الإسلام وغيّر اسمه من (حايم) إلى (صايم). ثم يدبر لتافور لقاء مع السلطان ليسلمه الجزية التي أرسلها معه ملك قبرص. ويحسن السلطان استقباله ويأمر له بالمسكن المريح وما يلزم من المنح والهدايا. وبعد جولة سياحية في القاهرة يحصل على إذن بالدخول إلى سيناء.

يثير صمت الصحراء ودير سانت كاترين خيال (تافور) فيحلق ثم يحط على أرض الهند, لقد سمع أن بها رجلاً يسمى (بريسترجون) أقام دولة مسيحية كبيرة, وسيطر على خمسة وعشرين ملكا, ويتأكد خياله بواقع يحكيه له رحالة قابله في سيناء يسمى (نيقولا دي كونتي), لقد رحل (نيقولا) إلى الهند وبقي في الغربة أربعين عاماً, ثم قرر العودة إلى أرض الوطن, إيطاليا, يسأله (تافور) عن قصته وقصة (بريسترجون) فيخبره أنه رحل بعد أن فقد أمواله إلى أرض الهند وهناك تعرف على (بريسترجون) حيث تزوج واستقر وأنجب, ولكن بعد أن تفككت المملكة قرر العودة, وفي طريق عودته مر بمكة حيث خيّر بين اعتناق الإسلام هو وأسرته أو الموت, فاعتنق الإسلام, ولكن أمواله نُهبت بعد ذلك, وهاهو عائد إلى البابا يطلب التكفير بعد الهجرة.

أما (بريسترجون) فهو يسيطر على أتباعه بقدرات خاصة, لقد جاءه ذات مرة سيد جليل بهدية عظيمة, واحتار (جون) كيف يكافئه, ولم يجد في النهاية أجلّ ولا أعظم من قتله قائلا: (إن الموت ليس بقليل على هذا السيد العظيم)!

وإذا كانت الرحلة إلى الهند شاقة مليئة بالأهوال, فإن ذلك لم يمنع (بريسترجون) من الخروج بقواته لاسترداد بيت المقدس, فيصرف (تافور) النظر عن رحلة الهند مادام (بريسترجون) سيحضر يوما إلى بيت المقدس, يعود تافور للقاهرة, ويحكي له ابن بلدته - كبير مترجمي السلطان - قصة (بطرس الرندي) الذي قاتل المسلمين كقرصان ولكنه حين قبض عليه وخيّر بين الإسلام والسيف اختار السيف, فأعجب به السلطان واستبقاه على دينه وأكرمه وعيّنه في خدمته, لم ينسجم (تافور) من هذه القصة واعتبرها نوعاً من الدعاية السلطانية, في الوقت الذي يعلّمنا فيه أن السلطان حقق في موضوع الاعتداء على صديقه (نيقولا) الذي نهب وفرض عليه الإسلام. فيرد له السلطان حقوقه, بل يكرمه ويعيّنه مترجماً في حاشيته.

رغم كل هذا يظل (تافور) ابن العصور الوسطى في منطقه الطبقي ومنطقه الديني, فيقرر الرحيل أو العودة إلى قبرص, ومنها يستعجل إتمام الرحلة - بعد أن صدم في هذا القطر المسيحي المنكود - لاستئناف مهمته المقدسة في حرب قشتالة ضد المسلمين.

عند الأتراك

ولكن كيف يمكن الرجوع إلى أرض الوطن وهو بعد لم يستكمل بحثه عن أصله النقي الممتد إلى عروق أباطرة القسطنطينية?

يرحل (تافور) إلى القسطنطينية حيث يجد حسن الاستقبال والترحيب فيشجعه ذلك على إثارة موضوع أصله الإمبراطوري, ويقوم رجال البحث عن الأصول بتكليف من الإمبراطور بدراسة الملفات القديمة, وبعد العودة من رحلة صيد يؤكدون صحة رواية (تافور), فينتشي بعد أن اطمأن إلى أن طبقة النبلاء لا تزال بخير, وأنها ما زالت تتمتع بالحرية الواجبة في إخضاع الرعية ببلاد اليونان, ولكنه ينتهي إلى الأسف متذكراً وقائلاً (غير أن خطايا المسيحيين أدت إلى إصابة الرعايا والنبلاء على السواء بالعبودية المؤلمة نظراً لأن سادتهم أصبحوا من الترك أعداء الإيمان).

ويبدو أن الإمبراطور المهدد من قبل (البرابرة) الأتراك قد أعجب بالفكر (التافوري) فقرر أن يكلف أخته الحسناء بخدمة السيد الفارس أملاً في أن يتزوجها ويستقر به المقام في القسطنطينية, إلا أن تافور يكتفي منها (بما قدمته من أشياء كثيرة)... ويقرر الرحيل إلى دار الأتراك.

الأتراك آنذاك كانوا قد توسعوا فأحاطوا بالقسطنطينية من أراض آسيوية في آسيا الصغرى, ومن أراض أوربية في بلاد اليونان, وبالتالي أصبحت عيون القسطنطينية في وسط رأسها, أو أصيبت بالحول, فعين تتطلع إلى ما يعده الأتراك في آسيا الصغرى, والأخرى تتطلع إلى ما يستفزون به في أوربا.

يصل (تافور) إلى مدينة (أدريا) التابعة للأتراك في بلاد اليونان ويلتقي بالسلطان العثماني فيعجبه ما يتمتع به وجماعته من فروسية تجعلهم يقيمون دائماً في ميادين خاصة خارج المدينة, ولما كانت الحاشية كبيرة, والجواري أكثر من ثلاثمائة, فإن الاحتياج للمدينة يكون عادة للاستحمام, فيهل على المدينة موكب ضخم من طبل وزمر وغناء, وينتهي الحفل عند منتصف الليل بعد أن ينتهي السلطان من جميع المهام.

ويرغب (تافور) في الاتصال بأهل (جنوة) الذين استطاعوا أن يقيموا لهم سوقاً للرقيق بسيطرتهم على مدينة (كيفا) على البحر الأسود, فينتقل إليها, وهناك يرى وكلاء البيع والشراء من مختلف الأجناس, يعملون لحساب المماليك والأتراك, والبابا, والمدن الإيطالية, والدول الأوربية. أما الرقيق فمن بلاد الفرس, والقوقاز, والجراكسة, والبلغار, والتتار. ومنطق شراء العبيد عند الجميع بسيط, فالأتراك والمماليك يحتاجون إلى مقاتلين تربية أيديهم, والدول المسيحية تستعمل العبيد حتى لا يقعوا في أيدي المسلمين ويتحوّلوا إلى مقاتلين ضد عقيدتهم. وبالتالي فإن أفضل العبيد وأغلاهم ثمناً هم التتار لما تميّزوا به من إخلاص وتبعية لمن يقولون له (يا سيدي).

التتار إذن قوم يستحقون الدراسة فيرحل إليهم (تافور), ولكـــــنه يجــدهم لا يعــــرفون ســــوى الاقتـــتال, فــــيهرب بجلده ويعود إلى القسطنطينية, ويبدأ في التعرف على المدينة, يزور كنيسة (آيا صوفيا) ويرى مخلفات المسيح بها. ولكن هناك مخلــــــفات أخرى من عقـــــائد تنذر بنــــهاية هذه الدولة, هــــناك باب تدخــــل منه المــــرأة المتهمة بالزنا وتخرج من باب آخر. وعند الخـــــروج إذا ارتفع ثوبها إلى خاصـــرتها فــــهذا معناه أنها مذنـبة, وهناك تقـــــليد يحرم عقـــوبة الإعدام, ويســــتبدل به عقوبة قطع الأيدي, وسمـل الأعين, والنتـــيجة انتشار العميان ومقــطوعي الأيدي في بلاد اليــــونان.

وكان هناك فارس يظهر فوق سور المدينة يقوم على حمايتها ولكنه اختفى الآن, وهناك تمثال للإمبراطور (قسطنطين) يحمل كرة عظيمة هي الكرة الأرضية, ويشير باليد الأخرى إلى جهة بلاد الأتراك, وانتشرت الرواية بين أهل البلد, أن الخراب سيحل يوماً على المدينة من هذه الجهة.

في الغرب

يعود (تافور) إلى البندقية ليطمئن على حال الغرب فيحكي له أهلها من حال الإمبراطور مع البابا, لقد حاول الإمبراطور (بربروسة) أن يستولي على أموال البابا, فيهرب الآخر ويلجأ إلى البندقية ويختفي في زي طباخ, وعندما عرف أهلها بذلك نصروه, وخرجوا بأسطولهم, وهزموا الإمبراطور, وبعد مفاوضات يقبل الإمبراطور شروط البابا وهو أن ينبطح على الأرض ويمر عليه البابا. وينفذ الشرط, ويمر البابا رافعاً رأسه فوق الإمبراطور مردّداً ما يؤكد سلطانه, ويجيب الإمبراطور تحت قدميه بأن هذا القول كان للقديس بطرس, فيجيب البابا: (ما قيل لبطرس فهو لي, وما قيل لي فهو لبطرس... اخرس) ثم يمنحه البركة والعفو.

وإذا كان حال أهل الجنوب من عالم الغرب موزعاً بين الفروسية التي توشك أن تزول والإمبراطور الذي يدوسونه بالأقدام, والبابا الذي يعمل طبّاخاً, وبين الأتراك (الكفرة) الذين سينقلب الزمن ويجعلهم يسيطرون, فليذهب (تافور) إلى الشمال.

يعبر (تافور) جبال الألب من ميلانو ليذهب إلى ألمانيا, وتكون سياحته في ألمانيا مريحة لأعصابه, فالنبيذ جيد, والمنازل عالية نظيفة, والشوارع مرصوفة بالحجارة, والنساء مبتسمات من الثراء والراحة, أما الحمامات... حمامات الاستشفاء, فالجميع من نساء ورجال يسبحون فيها عرايا مع المرح, والأكل, والشرب, والغناء, وغطس الفتيات في القاع وراء العملات الفضية, ولا يخرج (تافور) من جولة الحمامات إلا وهو في صحبة سيدة تدعوه لزيارتها في كولونيا.

ويزور في طريقه (ستراسبورج) و (ميتز) وحينما يصل إلى كولونيا تحلو له الإقامة عند (مرشدته السياحية). ويبدأ في تأمل المدينة بمزاج رائق. فالمدينة متسعة, نظيفة, ثرية, تقع بين الحقول ونهر (الراين), بها فنادق للإقامة المؤقتة, أو الدائمة, وكنيستها بالغة الروعة, وأسواقها مليئة بالبضائع.

يرحل تافور إلى (بروكسل) ويسأله دوق المدينة عن أحوال أهل الجنوب, وعن بيت المقدس, وكيف يمكن استرداده. ويتذكر (تافور) ما غسلته سياحة ألمانيا من رأسه فيقرر للدوق أنه ذاهب فوراً إلى قشتالة لقتال المسلمين. ولكن لابأس أولاً من زيارة مدن ما ستسمى بعد ذلك بلجيكا, يـــزور (بربيــج) و(جان) و (أنتورب) و (لوفان), ثم ينتقل إلى (فرانكفورت), ويعود إلى كولونيا و (بازل) ثم (نورمبرج) و (براج). وبعد زيارة ملك بولندا يستأذن كعادته في الانصراف لأنه في عجلة للعودة إلى بلده لمقاتلة المسلمين, ولكنه كعادته أيضاً ينسى.

يذهب إلى (فيينا) ويهاجمه قطاع طرق يكتشف - بعد ذلك - أنهم نبلاء ولكن فقراء, فيلعن ذلك اليوم الذي ذهب بنخوة النبلاء وحولهم إلى غوغاء. ويتخذ طريق العودة برّاً إلى إيطاليا, ومنها بحراً إلى إسبانيا بعد أن قضى في رحلته أربع سنوات كاملة.

 

محمد المهدي