الفن حاجة يومية لا فلسفة

الفن حاجة يومية لا فلسفة

سيرة الفنان التشكيلي اللبناني أمين الباشا من محترفه

كانت الساعة الثالثة بعد الظهر عندما دخلنا محترف الفنان أمين الباشا, في منطقة رأس بيروت, وفي مبنى أبيض قديم, من ثلاث طبقات, وارته خلفها الأبنية البرجية الجديدة. كان علينا أن نصعد إلى الطبقة الأخيرة من ذلك المبنى القديم, على سلالم خارجية مكشوفة, ومع ذلك بقيت شجرة النخيل أعلى من رءوسنا. وكان علينا أن نطرق بابا خشبيا أخضر قديما وخشنا لنجد أنفسنا داخل المحترف, يستقبلنا أمين الباشا واضعا وزرة بيضاء, تحولت بفعل الألوان التي يمسحها بها إلى لوحة عفوية لو شاهدها فنانون لما تورعوا عن (استلهامها), ويستقبلنا ضوء بهي يدخل من النافذة تلك التي يعتمد عليها الفنان كي يستطيع رؤية الألوان بكل بوحها وفصاحتها, واعتمدنا عليها نحن, لنشاهد أيضاً في ضوء متحرر من الألوان المشاغبة والإضافية, إنها شمس الظهر الأكثر صدقاً.

كنا نسمع ضجيج اللوحات لكثرة ما في المحترف من فوضى, ومن تنوع, ولكثرة ما فيه من أدوات وأشياء وعلب وصنابير وألوان وصناديق خشبية تحولت إلى أعمال ملونة.كانت السقالات والخزائن مزدحمة باللوحات, المائية والزيتية والمشغولة بتقنيات مختلفة.

إذا قلنا إن ما رأيناه يعد بالمئات نكون مقصرين عن بلوغ الرقم الصحيح, ولا شك أن الرقم يتعدى الألف عمل, هي ما تبقى للفنان بعد معارضه, أو قل بعد الآلاف التي توزعت بين المحترفات والمقتنين في لبنان والعالم.

عمر المحترف 18 سنة, لكن بعض الأعمال الفنية الموجودة فيه تعود إلى أكثر من نصف قرن, وفي أي حال لا يمكن للحاضر الناظر في مثل هذا المكان أن يشعر بأي ملل, إذ إن اللوحات الظاهرة, على الأقل, تتسع لقضاء ساعات مع تفاصيلها ومع ناسها وطيورها وطبيعتها وأشكالها التي تأخذك إلى التجريد المركّب الذي تتوه معه العين تارة, وإلى التبسيط العفوي الطفولي تارة أخرى.

هذا المحترف الذي قابلنا فيه أمين الباشا ليس الأول في سيرته التشكيلية, وقد لا يكون الأخير. فأول محترف تفتحت عين أمين الباشا عليه كان محترف خاله خليل مكنيه الذي كان رساماً وموسيقياً. كان محترفه في منزله ببيروت, في مكان اسمه الملجأ, كان عبارة عن غرفة تحت الحديقة, يتذكر الباشا أن الأوراق كانت تختلط باللوحات. لم يكن ذلك المحترف هو المكان الأساسي للعمل, إذ كان مكنيه يرسم, في أكثر الأحيان, في الطبيعة خارج المنزل.

أول محترف أقامه أمين الباشا كان في منزله, وهو عبارة عن غرفة واحدة, اقتطعها له عندما كان طالب فن. لكنه كان, في أكثر الأحيان, يحمل حقيبة الرسم, وينطلق إلى الطبيعة, متنقلاً بين مناطق (الزيتونة) و(السان جورج) و(عين المريسة) و(الأوزاعي), وبين المناطق الجبلية, خصوصا (عاليه) ومنطقة (رأس الجبل) فيها. والطبيعة موجودة في أعمال الفنان, شجراً وطيوراً وألواناً, لكن وجودها ليس مباشراً, وإنما تلميحاً أو تجريداً لونياً.

في باريس

وجد الباشا أن باريس مدرسة كبرى, فبقي فيها عشر سنوات (1958 ـ 1968), ومنذ ذلك الحين راح يتردد عليها بشكل دائم, وهو حتى الآن يوزع إقامته بينها وبين بيروت. وقد اخترق هذه الإقامة, في بداية الحرب الأهلية اللبنانية, فأقام خمس سنوات في إيطاليا في مؤسسة (مايستا) حيث ذكي إليها .

ولم يكن دفتر الرسم يفارق جيبه أو يده. وهو أينما جلس يرسم ويخطط, وهذا معروف عنه, وعنده عدد كبير من الرسوم, بل الدفاتر, التي نفذها في المقاهي التي كان يرتادها في بيروت وباريس وإسبانيا. بعض الكروكيات السريعة كان يحملها إلى محترفه.

وفي هذا المجال, نفذ أمين الباشا مجموعة من الرسوم والأعمال الملونة, على صفحات كتاب, كان (بنك عودة) أصدره وضمّنه بياناته وأرقام ميزانيته وجداول منجزاته. هذا الكتاب حوّله الباشا إلى عمل فني متكامل أعاد المصرف المذكور طباعته العام 1993 كتحفة فنية مميزة.

ورث أمين الباشا من خاله الموسيقي والرسام الرسم, في حين ورث شقيقه توفيق الشق الموسيقي.

عندما كبر الطفل الذي كان يحمل شنطة الألوان ويمشي خلف خاله في المناطق الجبلية, علقت في رأسه الموسيقى والرسم, وقد أضيفت إليهما الكتابة, عندما برز شغفه بكتابة القصة بعد قراءته كتاباً لرياض طه حفزته لكتابة قصة عن موسيقي يحب ابنة أستاذه الروسي في بيروت, نشرها له رياض طه في جريدة (الأحد) البيروتية.

لم يكتف الباشا بالقصة, فقد جنح أيضاً إلى الشعر, يقول: (كنت أذهب إلى البحر, على أنني عبقري, أطيّر شَعري في الفضاء, وأكتب عن البحر. وعندما أضعت دفتر أشعاري في الترامواي كانت مناسبة مقنعة لي كي أنعطف أكثر في اتجاه الرسم).

تعلم الباشا الرسم لمدة ستة شهور عند ستيفان لوكس (وهو رسام وموسيقي), قبل التحاقه بالأكاديمية اللبنانية, وقد استمرت علاقة الرسم بالموسيقى بارزة في لوحاته,التي ضمّنها إيقاعات موسيقية وأنغاماً لونية وتجريدات تقرّب لغة الرسم من لغة الموسيقى. وأكثر من ذلك, فقد مال إلى رسم الأوركسترا والآلات الموسيقية وتداخلها مع العازفين.

بعيداً عن الفلسفة

لم يمل أمين الباشا إلى أي نوع من أنواع الفلسفة في الرسم, فهو يميل أكثر إلى التخطيطات السريعة وإلى التلوين, قال: (أتمنى أن يكلفني واحد تلوين قصر بجدرانه وأثاثه ومداخله. هكذا هو الفن بالنسبة إليّ متعة أكثر منها فلسفة... وعندما كنت أرسم في (ساحة البرج) في مقهى (أبو عفيف), لم أكن أنظر, أثناء الرسم, آلى الورقةالتي أرسم عليها, وإنما كنت أراقب أقدام المارة. في ذلك الوقت, لم أكن أعرف شيئاً عن التأثيرية أو التعبيرية أو سواهما من المدارس الفنية), ويتواضع بالقول: (ولا أزال).

لم يمل الفنان إلى الفلسفة, لينشغل أيضاً بالتقنيات, فهو وإن اقتنع بأن المادة الزيتية أنبل المواد اللونية, إلا أنه اجتهد في تنويع تقنياته, فاستخدم الباستيل والإكريليك وأقلام الحبر, وكسر اللوحة كمسطح تقليدي, ثم راح يرسم ويلون على أشكال متعددة السطوح, بل هو راح, من ثلاثين سنة, ينفذ أعمال تجميع خشبية, ومن ثلاث سنوات بدأ يرسم ويلون على الخشب.

البعض يعتبر أمين الباشا متأثراً بسيزان, وعندما أثرت أمامه هذه (التهمة) رد: (مرة جاءنا وفد من أكاديمية بلغراد, كنت حينها في الأكاديمية, وقد رسمت لوحة, عندما شاهدوها قالوا (عندكم سيزان جديد)... لكنني تعرفت إلى أعمال سيزان في المتاحف, وبالفعل أحسست بعظمته, فهو الباحث عن النور في الطبيعة, وهو من عظماء الفن ومن معلمي القرن العشرين, أرسى نظرة جديدة في الفن. لم يكن انطباعياً وإن كان يأخذ من الطبيعة, وهو يدرس النور كعالِم).

لم يكن أمين الباشا يستمع إلى الموسيقى عندما دخلنا إلى محترفه, لكن (لا يزعجه) أبداً أن تقول عنه إنه فنان موزارتي (نسبة إلى موازر), فهو قد يستمع إلى الموسيقى أو يفضل الاستماع فقط إلى إيقاعاته الداخلية.

قال: (مرة أقفلت عينيّ لأرى الموسيقى, كنت حينها أستمع إلى السيمفونية التاسعة لبتهوفن, فرأيت أعمدة ملونة تصعد وتهبط. بعد فترة شاهدت لوحات لرسام اسمه Kupka, وقد رسم الأعمال نفسهاالتي تهيأت لي في رؤياي تلك, وهو يعبر فيها عن الموسيقى. ليوناردو دافنشي قال: الذين لا يحبون الموسيقى هم عديمو الشرف ودجالون وبؤساء...). وتابع الباشا (أحب سماع أم كلثوم وعبد الوهاب وسيد درويش وبتهوفن وموزارت وباخ وبارتوك, وأحب أيضا أخي توفيق في موسيقاه البحتة وفي موشحاته, وموسيقى ابنه عبد الرحمن, كلها أسمعها أثناء الرسم, أما فن من أتى بعد هؤلاء ففيه شك).

سيزان ودوفي

ومن سيزان وموزارت إلى راؤول دوفي, وقد حلا لنا أن نتذكره على سبيل التشبيه والقربى, لكن أمين الباشا أحب أن يكون حاسما هذه المرة, إذ قال: (منذ كنت أعمل مع خالي محاولاً رسم البحر والطبيعة, لم يتغير أسلوبي. وأكثر من ذلك, أنا أرى أن الفنان لا يتقدم, الفنان يتابع ويكمل تجربته). ويكمل: (بيكاسو وماتيس, مثلاً, كانت عندهما سماكة ألوان في بداية تجربتهما, لأنهما كانا في ذلك الوقت يبحثان عن ألوان.ودي ستايل توصل في آخر حياته إلى أن يبسط المادة في أعماله, ودوفي اكتشف أن العين تستطيع أن تكتشف أن الأحمر والأزرق يعملان البنفسجي من دون أن نضع البنفسجي نفسه).

ورد بشكل مباشر: (صحيح أن هناك قرابة بيني وبين دوفي, لكن دعني أروِ لك هذه الحادثة: قبل سفري إلى باريس كان في الأكاديمية اللبنانية فنان اسمه مانيتي, عندما رأى عملاً لي قال أنت تعمل مثل دوفي. وقتها كنت أسمع باسمه للمرة الأولى... حتى من سنتين أو ثلاث, أخبرني مدير أحد المصارف أن أحد الزبائن سأله, عندما رأى لوحات لي معلقة في أروقة المصرف, عن مصدر (لوحات دوفي) تلك. قد يحدث شبه بيني وبين آخرين لكن تأكذ أنني أكون نفسي دائماً).

هكذا يقضي أمين الباشا يومياً بين ست وسبع ساعات, يشتغل أو يشاهد أعماله, وفي الحالين متعة لا تنتهي.

 

أحمد بزّون