المشهد المقدس

المشهد المقدس

تأليف: ميرون بنفستي

تنبثق أهمية هذا الكتاب ليس من مجرد الحقائق والمعلومات الدقيقة التي احتوتها صفحاته حول التلفيق الإسرائيلي للتاريخ والجغرافيا في فلسطين أو حول معاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال البغيض وما يلاقونه من قتل وطرد واضطهاد فحسب, وإنما من شخصية مؤلفه ميرون بنفستي ذلك الصحفي الإسرائيلي الذي يكتب في جريدة هاآرتس الإسرائيلية, وهو يعتبر ممن يطلق عليهم (المؤرخون الجدد). وبقلم الصحفي والكاتب يفتح العيون على الماضي والحاضر وما فيهما من وقائع شوّهتها الصهيونية.

يبدو أن تأنيب الضمير كان أحد أسباب تأليف هذا الكتاب. فمؤلفه يقول (كنت قد شعرت لأول مرة بالمأساة الفلسطينية تخترق درعي الصهيونية عندما ذهبت بعد خمس سنين من توقف الحرب (1948) لقياس بعض المياه الجوفية في قرية في جنوب فلسطين قرب بيت جبرين, وعندما وصلت إلى القرية وجدت بيوتها خالية خاوية عليها سكون الموت, فجلست هناك وأسندت ظهري إلى حوض ماء قديم وأخذت أفكر بمصير سكان القرية وماذا حلّ بهم).

كما أن أبا المؤلف (ديفيد بنفستي) معروف بمساهمته الكبيرة في تزييف تاريخ فلسطين وجغرافيتها, فهو كان من المشاركين في تهويد الأسماء العربية في فلسطين, كما أنه مؤلف كتاب أساسي (من ثلاثة أجزاء) بعنوان (يديعت هاآرتس) (معرفة الأرض/الوطن). وهو كتاب يدرس في مراحل التعليم الأولى في إسرائيل. ومن أهدافه الرئيسية تأكيد الفكرة الصهيونية لدى التلاميذ وشدهم إلى الأرض وربطهم بها.

وينتقد الابن أباه في أنه لا يذكر الــعرب في كــــتابه الضخم إلا في صفحتين أو ثلاث, وفي ذكره لهم يعـــطي صـــورة سلبـية عنهم, فـــهو عنـــدما يتـــحدث عن فلسطين أثناء الحكم العربي الإسلامي يقول (.... وكانت القــــبائل الرحل من مصر والجــــنوب تجوب الأرض من أجل البحث عن العشب لقطعانها... وقلة من هؤلاء استزرعوا الأرض حيث تكوّنت بعض القرى الفقيرة, ولم ينجح هؤلاء في تطوير الطبيعة والاستفادة منها, إذ هم لم يكونوا يعرفون ثراء الأرض وخصوبتها ووفرة المياه تحتها, إلى أن جاء إخواننا وسيطروا على الأرض وأحيوها وجعلوها أرضاً خصبة. وكانت معرفتهم التي جاءوا بها قد أفادت العرب أيضاً) !!. بهذه العبارات القصيرة المخالفة للواقع يختزل ديفيد بنفستي تاريخ الحكم العربي الإسلامي الطويل ويقدم العرب إلى الطفل الإسرائيلي بهذه الصورة المتخلفة التي تتأصل في وجدانه ووعيه عنهم.

وميرون بنفستي مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده يذكر هذا كمثال على تزييف الصهاينة للتاريخ العربي والإسلامي في فلسطين. ولذلك يعتبر هذا الكتاب مهماً لأنه محاولة للنقد الذاتي ولإظهار بـعض الحقائق عن الحرب العربية اليهودية والفترة التي تلتها وما حدث فيها من خرق لحقوق الإنسان الفلسطيني, الذي تمثّل في الطرد والتطـــهير العرقي, واغتصاب النساء, وكذلك في تهديم القرى والمســــاجد والمقابر. وسنعرض لما يذكره المؤلف عن هذه القضايا بشيء من الاختصار.

وقد اعتمدت في هذه المراجعة على الترجمة الإنجليزية والتي أنجزها ماكس كوفمان لوكوست, وصدرت عام 2000 لعدم تمكني من الحصول على النسخة العبرية الأصلية.

الطرد والتطهير العرقي

يؤكد المؤلف أن عمليات طرد السكان كانت قائمة على قدم وساق حيث بدأت أثناء الحرب واستمرت بعدها لسنين, وعما قام به الجيش أثناء الحرب يقول: (كان الجيش قد أعطي أوامر مشددة في أن يمنع أي شخص يحاول الرجوع إلى قريته أو بيته وكان الأمر على الشكل التالي (إن على قادة الجيش أن يقوموا بأقصى ما يمكن القيام به من أجل تطهير المناطق المحتلة من العناصر المعادية وأن يحثوا السكان على مغادرة المناطق). كما قام الجيش بعد الهدنة الثانية بين منتصف يوليو ومنتصف أكتوبر بتدمير بعض المناطق التي اعتبرها استراتيجية لخططه واعتبر وجود العرب خطراً على الأمن وكان من هذه المناطق أجزيم وجبعه وعين غزال حيث طرد أهل هذه القرى).

(وبعد إنشاء الدولة - كما يذكر المؤلف - قرر الكنيست قرارين مهمين: أحدهما أن العرب الذين يطردون يجب ألا يرجعوا إلى أماكن سكناهم بأي طريقة من الطرق, وثانيهما أن المناطق المتروكة يجب أن تعطى إلى اليهود ليسكنوا فيها وتصبح مستوطنات لهم). كما قال بن غوريون (لا أريد أولئك الذين يغادرون أن يرجعوا. إن رجوعهم يجب أن يمنع من الآن وسيتوقف كل شيء على نتيجة الحرب ولكني أطالب بعدم رجوعهم حتى بعد الحرب). وأكّد موشيه شاريت ذلك بقوله (إن هذه هي سياستنا وإن هؤلاء سوف لا يرجعون). كما طردت إسرائيل بعد الحرب حوالي ثلاثة آلاف شخص من قريتي الفالوجة وعراق المنشية شمال النقب على الرغم من التعهد الذي أعطته بأن هؤلاء سيبقون في قراهم ويحتفظون بممتلكاتهم.

كما طرد في عام 1950 سكان قرية زكريا وسكان خربة جلامه على الرغم من أنهما أصبحتا جزءاً من الدولة الجديدة. كما أن بعض الفلسطينيين قد طردوا من أماكن سكناهم وأسكنوا في أماكن لا تبعد كثيراً عنها ومع حصولهم على الجنسية الإسرائيلية, إلا أنهم اعتبروا غائبين كما أن الحكومة لا تعترف بأماكن سكناهم الجديدة.

ويقول المؤلف أيضاً إن طرد الفلسطينيين ومنعهم من الرجوع والسيطرة على دورهم وأراضيهم وإعطاءها إلى اليهود كانت عملية مستمرة وجزءاً من استراتيجية محكمة ومتعمدة ومخطط لها. (لقد بدأت هذه العملية خلال الحرب واستمرت لسنوات طويلة بعدها. وإن الغالبية العظمى من السكان لم يطردوا أثناء الحرب, بل طردوا بعدها, كما أن إخلاء ثلاثة أرباع الشمال الذي طرد منه 220 ألفا (عدا مائة وخمسة آلاف من سكان المدن) هو لا شيء بالمقارنة مع إخلاء الوسط والجنوب حيث أصبح 330 ألف شخص لاجئاً).

ويذكر المؤلف أنه أثناء الحرب ارتكبت أعمال إجرامية متعددة من قبل جيش اليهود كالإعدام في الحال والاغتصاب, وتفجير البيوت على من فيها, وكذلك النهب والسرقة وترك أصحاب القرى في العراء دون زاد أو ماء. وهو يذكر بعض هذه الحوادث فيقول (ومن الأعمال الفظيعة التي ارتكبت في هذه الفترة تلك التي ارتكبت في بليدة الدوايمة التي كان عدد سكانها بحدود 3500, وكان الجيش اليهودي قد سيطر عليها في 29 أكتوبر عام 48, وبعد أن احتلها قتل من سكانها ما بين ثمانين إلى مائة رجل ثم فجّروا البيوت على سكانها, كما قتلوا بعض النساء والأطفال, وقاموا بعمليات اغتصاب أيضاً. وقد قال أحد شهود العيان إن هذه الأعمال كانت قد ارتكبت ليس في أثناء المعركة وفورة الحماس ولكن طبقاً لأوامر التدمير والطرد, (فوجود عرب أقل أفضل).

ومن هذه الحوادث تلك التي وقعت في (صفصف) وكان عدد سكان هذه القرية ألف شخص وهي تقع في منطقة صفد وبعد أن احتلها الجيش اليهودي جمع السكان وقتل منهم من خمسين إلى سبعين رجلاً ثم أخذ أربعا من نسائها وتم اغتصابهن في بيوت خالية ولم يكن هذا العمل محتملاً لسكان القرية, فرحلوا عنها وتركوها في سواد الليل. ويقول المؤلف كذلك (إن قتل المدنيين والأسرى قد حدث أيضاً في قرى مثل (صعصع) و(عيلبون) و (جش) و (مجد الكروم) وغيرها).

كما يؤكد المؤلف على وقوع حوادث تندرج تحت مفهوم التطهير العرقي, فيقول: (لاشك في أن ما حدث بعد الشهر السادس من عام 1948 بعد إعلان الدولة يمكن أن يطلق عليه تطهيراً عرقياً لأن طرد بعض الفلسطينيين كان من أجل أن يحتل اليهود بيوتهم ويسكنوا فيها ويبنوها مستوطنات ولم يكن طردهم لأسباب عسكرية).

وهو يعتبر مذبحة دير ياسين تطهيراً عرقياً في أبشع صوره وأقبح مظاهره, فيذكر أنه (خلال الهجوم وبعده أطلق المهاجمون اليهود النار بشكل عشوائي ودمّروا بيوتاً كان أصحابها فيها وأعدموا رجالاً وأطفالاً ونساءً وأطلقوا النار عليهم من مسافة قريبة ونهبوا كل ما يمكن نهبه من القرية. وقد قدر عدد القتلى بأكثر من مائتين وخمسين. وقد تبجح المهاجمون فيما بعد بأن مذبحة دير ياسين قد زرعت الرعب والخوف في القرى القريبة), كما تبجح مناحم بيجن بعد ذلك بسنين طويلة مادحاً ومثنياً على ما حدث.

كما يتذكر المؤلف ما يسمّيه المنظر المخجل والمخزي الذي شاهده في القدس عندما كان طفلاً صغيراً حيث (عرض من بقي من سكان دير ياسين في حافلات مكشوفة أمام صفوف من اليهود كانوا يسخرون منهم ويستهزئون بهم). وهو يؤكد على أمر خطير عن موضوع التطهير العرقي حيث يقول: (إنه بعد أن تأكد اليهود من إمكان إقامة الدولة أصبح التطهير العرقي لتحقيق هذه الغاية شيئاً مقبولاً بل مرغوباً فيه, وإن هذه الفظائع التي ارتكبت مازالت تعتبر بعد مرور خمسين سنة عليها من اختراع أعداء إسرائيل وأنها تمثل كتابات (المؤرخين الجدد). ولكن هذه الفظائع كانت في الحقيقة معروفة لوزراء الحكومة الإسرائيلية في حينها ومعروفة كذلك لقيادة الجيش, بل حتى للناس وكان لهذا التطهير العرقي البربري نتائج بعيدة المدى).

تدمير القرى

ثم يتحدث عن تدمير البيوت والقرى, ويقول إن ذلك كان وسيلة للعقاب استعملتها القوات اليهودية في كثير من الأماكن وبعد ذلك استعملتها دولة إسرائيل. ويؤكد المؤلف أن تدمير هذه القرى كان قد بدأ في المراحل الأولى المبكرة من الحرب. وعلى الرغم من أن التهديم كان قد بدأه الجيش, فإن الكثير من التدمير كان هدفه أيضاً النهب والحصول على مواد البناء. وكان الغرض من التهديم في البداية سياسياً وهدفه الرئيس - كما يقول المؤلف - منع رجوع اللاجئين إلى ديارهم وبناء المستوطنات للمهاجرين اليهود. وكان جوزيف ويتز (وهو من أشهر المتحمّسين الصهاينة الذين طالبوا بطرد الفلسطينيين وإزالة قراهم من الوجود) وراء حملة كبيرة لتدمير القرى العربية بدأها تحت شعار (تهديم), ثم تطوير, واستيطان) أي تهديم القرى وبناء مستوطنات وتوطين المهاجرين. وخلال هذه الحملة أزيلت مجموعة كبيرة من القرى العربية عن وجه الأرض بعد أن اقتلع أهلها وطردوا. ويقول المؤلف (إن تهديم البيوت وتدميرها وإخفاء كل أثر لمدنية الفلسطينيين كانت سياسة متعمدة ومدروسة بإحكام وأنه فور أن ترك الفلسطينيون ديارهم بالقوة أو من الخوف أو بأي طريقة أخرى - وإن استقروا قربها - فإنهم أضاعوا كل شيء حتى حق التعويض لأراضيهم وبيوتهم التي يملكونها. وكان التدمير قد ازداد من قبل الجيش بعد انتهاء الهدنة الأولى في 8/7/1948. وفي مايو عام 1949 قررت الحكومة أن تزيل بقايا البيوت التي هدمت في احدى وأربعين قرية, وأثناء التهديم كانت هناك أوامر بالحفاظ على حجر البيوت لاستعماله في بناء بيوت للمهاجرين, كما كانت هناك أوامر في الحفاظ على البيوت الجميلة. وكانت بعض البيوت التي تتميز بجمال بنائها وعمارتها قد سكنها مستوطنون, ولكن هؤلاء لم يريدوا أن يصدقوا أن بإمكان العرب أن يبنوا مثل هذه البيوت فاخترعوا لها تاريخاً صليبياً. ومن القرى التي احتفظ بها لجمال هندسة بنائها قرية (عين هود) وهي الآن مسكن للكتّاب والرسّامين وغيرهم من الفنانين اليهود. ويقول المؤلف (إن أهل هذه القرية العرب يعيشون على مرمى حجر منها ولكنهم يعتبرون من الغائبين الحاضرين والحكومة الإسرائيلية لا تعترف بهم ولا بالقرية التي يعيشون فيها الآن). كما يؤكد المؤلف أن تهديم القرى قد استمر خلال الخمسينيات دون انقطاع كما كانت هناك حملة إسرائيلية عام 1966 تحت شعار (إزالة القرى) وركزت على تدمير القرى الباقية في الجليل, كما ازدادت حدة أعمال التهديم بعد حرب عام 1967 من أجل منع اللاجئين في الضفة الغربية وغزة من أن يأتوا لزيارة موطن سكناهم وما بقي من قراهم.

تدمير المساجد والأماكن المقدسة

لم يكن حظ المساجد والمقابر أحسن حالاً من حظ القرى حيث أصبحت بعض المساجد حظائر للغنم كما حدث لمسجد قرية (البسّة) والتي أصبحت مقبرتها أرضاً زراعية واستعمل مسجد قرية (لجون) محلاً للنجارة. أما مسجد (الخالصة) الذي يوجد اليوم في القسم القديم من مدينة (قريات شمونة) فإنه قد جُعل متحفاً لذكرى اليهود الذين قتلوا في الحرب مع العرب. والمسجد الكبير في بليدة وادي حنين - والذي له قبة رائعة - أصبح كنيساً وقد هدمت منارته ووضع على محرابه صخرة كتبت عليها أسماء القتلى اليهود الذين قتلوا في مكان قريب. ومسجد (قيسارية) الذي بُني في ثمانينيات القرن التاسع عشر والذي فيه مقبرة علي بك حاكم المدينة أصبح مطعماً ويريد أصحاب المطعم الآن أن يحولوه إلى قاعة رياضية, كما حوّل مسجد قرية (عين هود) إلى مطعم وحانة خمور.

ويقول المؤلف إن هناك الكثير من المساجد التي هُدمت, وأما التي لم تهدم فإما لأنها كانت كبيرة الحجم أو أنها كانت تحفة فنية أو أن تهديمها كان يحتاج إلى جهد كبير.

أما عن المقابر, فإن المؤلف يقول (إن أكثرها كان قد دُمّر واستعمل للطرق العامة وللزراعة أو لبناء مؤسسات أو بيوت أو حدائق عامة, كما أن البعض منها أصبح مكاناً لوضع القمامة. ويقول: ليس هناك وصف لوضعها سوى القول إنه وضع مخجل ولو كان هذا الوضع في أماكن أخرى لأثار الكثير من النقد والضجيح).

ويقول المؤلف إن مصير الأماكن التي لها قدسية عند المسلمين يمكن أن تكون مثالاً ممتازاً على كيفية سماح المنتصر لنفسه بانتهاك الأماكن المقدسة عند العدو المقهور حيث يستغلها لحاجاته وإذا لم يجد فائدة فيها, فإنه يتركها مهملة ومتداعية ولا يسمح لأي شخص من الناس المقهورين أن يقوم بإصلاحها بادّعاء أن ذلك سيكون بادرة لرجوع هؤلاء إلى أرضهم.

فبعد طرد العرب في عامي 1948 و 1949 أصبحت قبور الأولياء المسلمين ملكاً للدولة وأحيطت بالحراسة ثم بعد ذلك بدأت عملية التهويد لقبور هؤلاء الأولياء فتحوّلت قبورهم قبوراً لأنبياء اليهود والقدّيسين عندهم وأصبحت مزارات لأعداد ضخمة منهم.

وبعد حرب 1967 قام الجيش بالتعاون مع رئاسة الحاخامية فيه والموظفين في هذه الرئاسة بالسيطرة على الأماكن المقدسة لدى المسلمين في الأراضي المحتلة على ادّعاء أنها كانت أماكن مقدسة لليهود. ومن هذه الأماكن مقبرة النبي يوسف في نابلس (حيث أصبحت مزاراً لليهود في هذه المدينة), وكذلك قبر النبي صموئيل قرب القدس. ومن هذه القبور قبر في قرية زكريا كان يزوره المسلمون منذ مئات السنين ويعتقدون أنه قبر زكريا أبي يحيى عليهما السلام, ولكن عندما احتل اليهود القرية ادّعوا أن القبر هو قبر النبي زكريا من أنبياء العهد القديم (والذي له سفر في التوراة باسمه), وهكذا يظهر التعريف بالقبر في كتاب (دليل إسرائيل). كما أن قبر الست سكينة التي هي من نسل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهو قبر معروف في طبرية عند العرب - الذين كانوا يأتون لزيارته للتبرك - أصبح قبراً لراحيل زوجة الحاخام عقيب (وهو حاخام مشهور ومقدس عند اليهود عاش في القرن الثاني الميلادي). ويقول المؤلف إنه على الرغم من أن هذا الادّعاء هو تزوير, فإن المكان أصبح مكاناً لليهود الزائرين والقاصدين له يتجمهرون حوله ويتبركون به. كما دمرت مقبرة المسلمين التي حوله من أجل توسعة القبر وإصلاحه. ومن هذا التزوير تزوير قبر الشيخ بدر الذي يعرفه العرب بكراماته. وتاريخ صاحب القبر معروف منذ قدومه من العراق أيام الصليبيين, كما أن قبر ابنته بدرية أيضاً معروف في (شرافة) قرب القدس والتي تعتبر أيضاً ولية عند المسلمين. وقد جعل قبر الشيخ بدر مكاناً مقدساً لليهود يزورونه ويتبرّكون به, ويقول المؤلف إن اليهود الذين يتقاطرون على هذا القبر لا يعرفون أن الذي يزورونه هو ولي من أولياء المسلمين.

وهناك عدد كبير من القبور المقدسة عند المسلمين انتحلها اليهود لأنفسهم حتى أن المؤلف يقول (إن الكثير من الأماكن الـ 500 المقدسة لدى اليهود والتي نشرت في كتاب لوزارة الدفاع هي أماكن مقدسة للمسلمين, فهم الذين بنوها واعتنوا بها وزاروها مئات السنين. وعلى الرغم من وجود العرب قرب هذه الأماكن, فإنه لا يسمح لهم بزيارتها بينما كان العرب يعاملون اليهود معاملة احترام ولم يزعجوهم في صلاتهم عندما كانوا يأتون لزيارة أماكن مقدسة عند الجماعتين).

تزييف الآثار والجغرافيا

وعن تزييف الآثار يعترف المؤلف نفسه - بأنه قد شارك في هذا التزييف وهو يقول في اعترافه (إن مؤلف هذا الكتاب تأثر بالجو العام السائد آنذاك عندما كان يؤرخ لبعض الأماكن من القرن الثامن عشر وعزا القلاع العربية إلى الصليبيين. ومازال كتاب (دليل إسرائيل) يعتمد على نتائجه الخاطئة). ويقول إن نسبة الآثار العربية خاصة المهمة منها إلى الصليبيين دون أدنى اكتراث, يصل إلى حد اللامعقول.

وليس هناك مثال أوضح على تزييف الآثار العربية من تلك التي في (كوكب الهوى) و(قيسارية). ففي هذين الموقعين تحوّلت الآثار العربية إلى آثار صليبية, والمثال الآخر هو قلعة جدين الضخمة التي بناها ضاهر العمر (الحاكم الفلسطيني الذي حكم فلسطين مستقلاً عن الدولة العثمانية) في القرن الثامن عشر مع قلاع أخرى كثيرة. ومازالت هذه القلعة قائمة إلى الآن. ويذكر (دليل إسرائيل) هذه القلعة على أنها من الآثار الصليبية وأصلحت جزئياً من قبل ضاهر العمر.

وينتقد المؤلف الإسرائيليين على هذا ويقول إنهم يفضلون نسبة الآثار إلى أولئك الذين قتلوهم في أوربا وقتلوهم في القدس عام 1099 على نسبتها إلى أصحابها الأصليين الذين يفترض فيهم أنهم يعيشون معهم اليوم. وهو يحث إسرائيل على القيام بإعادة كتابة التاريخ لسكان البلد الأصليين كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

أما عن تزوير الجغرافيا فيقول (إن الحركة الصهيونية عمدت إلى ذلك عن طريق تهويد الأسماء العربية للأماكن والمواقع في فلسطين). وينتقد المؤلف أباه لأنه كان من المتعصبين لتحقيق هذا الهدف والمطالبين به والعاملين عليه. وكان بن جوريون قد عيّن لجنة من أجل هذا الغرض وكان من بين أعضائها جوزف ويتز الذي مرّ ذكره.

وقد كتب بن جوريون رسالة إلى رئيس اللجنة قال فيها (إننا يجب أن نزيل الأسماء العربية لأسباب ترجع إلى إقامة الدولة, فكما أننا لا نعترف بملكية العرب السياسية للأرض, فإننا كذلك لا نعترف بملكيتهم الروحية للأسماء التي يستعلمونها). وقال رئيس اللجنة (إن عبرنة الأسماء هو هدف سياسي... وإن المهمة التي أعطيت لنا هي أساساً مهمة سياسية...).

وقد استمر تهويد الأسماء كما استمر البحث عن الأسماء العبرية في كتب اليهود وأدبياتهم لاستعمالها مكان الأسماء العربية, وعندما لم يكونوا يرون اسماً مناسبا في هذه المصادر فإنهم كانوا يقومون بتحوير الاسم العربي مع وقع عبري ولو لم يكن الاسم ذا معنى.

وقامت المؤسسات الأهلية والرسمية باستعمال الأسماء العبرية في وسائل الإعلام وكتب الجغرافيا وكذلك في الخرائط وغيرها حتى أصبحت هي المعروفة دون غيرها ونــسيت أسماؤها العربية الأصلية.

في خاتمة الكتاب, يطالب المؤلف إسرائيل بأن تعترف على الأقل بالقرى التي لم تعترف بها إلى الآن والتي أكثر سكانها من الفلسطيـــنيين الذين تطلق عليهم (الغائبــــين الحاضـــرين) ويطــــالب كذلك بتزويد هذه القرى بالمياه والكـــهرباء والعناية الصحية وأن تســـمح لهم ببـــناء بيــــوت مناسبة. وهو يقول: (إن هذا العمل ربما يكـــــون مساهمة في حل الصـــراع الاسـرائيلي - الفلسطيني وتعويضا عن بعض الظلم الذي لحق بالفلسطيــــنيين), وهو يطالب كذلك بإزالة كل أنواع التفرقة التي يعانيها عرب إسرائيل .

 

جعفر هادي حسن







ما زالت عمليات تدمير القرى والمدن مستمرة في محاولة لتزييف التاريخ





غلاف الكتاب