تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلية تركيب كاميرات لرصد أي
شيء متحرك في ساحة الأقصى, وتزعم تلك السلطات أنها تفعل ذلك لإحباط اعتداءات متوقعة
من متطرفين يهود, وبوضع الكاميرات الخبيثة, تكون إسرائيل قد بدأت مرحلة أخرى في
عملية تهويد المسجد الأقصى, فوجود الكاميرات في اتجاه المسجد هو إجراء
سيادي.
(العربي) تجولت في القدس العتيقة, وزارت المسجد الأقصى أولى القبلتين
وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين:
للقدس المدينة الفلسطينية العريقة نكهة خاصة وسحر دائم, تظل فيها في
حالة اكتشاف وشوق ومحبة لهذا المكان, فور دخولنا القدس وسيرنا على أرضها ومشاهدة
سورها وقبابها خصوصاً قبة الصخرة المذهبة, ينزاح همّ الطريق إليها, وصعوبة الدخول
في ظل إجراءات الاحتلال.
في الطريق الصعب نحو القدس, في ظل إجراءات الاحتلال, لا يستطيع الذي
يصلها إلا أن يتحدث عن مشاق الطريق.
على باب عناتا, قريباً من الشارع الرئيس, رابطت دورية إسرائيلية طبعاً
بحجة الأمن, فنزلنا وانتظرنا السائق في مكان آخر, وهم يدركون ذلك, لكنهم لا يدرون
ما يصنعون مع مواطنين هدفهم الوصول إلى المدينة للصلاة ولقضاء المصالح.
مع فيروز
تشق فيروز عن القدس طريقها الصعب, وسط ضجيج الأغاني الحديثة سريعة
الإيقاع. حسنًا أن نسمع مطلعًا من الأغنية, تلك التي تتحدث عن شوارع القدس العتيقة,
أصغي قليلاً, أشرب عصير اللوز مع الحليب في أول السوق, يقف جنود حرس الحدود يدققون
في هويات الشباب -وهذا مظهر دائم من مظاهر القدس تحت الاحتلال? ترتفع درجة حرارتي,
سأحتاج في هذا اليوم إلى النسمات الباردة اليوم كثيرا.
لم أعد أعير جنود حرس الحدود والشرطة أي اهتمام, بسبب تداعي الذكريات
في هذا المكان الفريد الممتلئ تاريخاً وقدسية وجمالاً, كما أن كثرة الجنود تجعلهم
يعتمدون على بعضهم بعضًا فلا يعودون يصنعون غير التسكع والعبث مع قليل من الخوف
والملل.
رائحة الفلافل والمخللات نافذة تصل أقصى عصب الشم, هذا يذكرنا
بطفولتنا في رمضان, كان لمخلل القدس طعم آخر غير طعم المخلل في البيت, وكان يغرينا
بالإفطار, وما زلت حتى الآن أقف أراوغ الإغراء. رائحة تسلمني إلى رائحة أخرى,
الكشك, الزعتر, العطور, التوابل, اللحم, الرطوبة, التاريخ, وما بين كل رائحة والتي
تليها تسرح العين فيما ترى.
توارث المقدسيون والذين أقاموا فيها مهن آبائهم وأجدادهم, كل صاحب محل
وضع صورة أو اثنتين, هذه لوالده وتلك لجده, دلالة العراقة في المهنة, لذلك لست
بحاجة إلى التساؤل عن صاحب الصورة, وباستطاعتك النظر إلى سحنة البائع وسحنة صاحب
الصورة, أو صاحبي الصورتين, كما تلحظ النظرة الوقورة والملابس الرزينة لأصحاب
الصور, وأزيائهم الخاصة بالفترات الزمنية, وخلفية المنشأ أكان قادماً من المدينة أم
القرية.
هادئة المدينة, وزاد من هدوئها حرارة هذا اليوم الصيفي, وبالرغم من
نسمات السوق الباردة المنعشة التي صاحبتنا بكرم في هذا الجزء من النهار, فإن منظر
الإسرائيليين القادمين من القدس الغربية بصحبة حراسهم المسلحين يجعل الفلسطيني
والزوار بحاجة إلى نسمات باردة مضاعفة, لقد تعودنا خلال السنوات السابقة في
الانتفاضة الثانية ألا نراهم, لكن من جديد, عادوا, يستعرضون في مشيتهم, مسرعين,
خائفين, ولا يشترون إلا قليلاً.
سنشرب كثيراً من الماء والعصائر المقدسية, حتى نطفئ حرارة الجسد,
والروح, في هذا اليوم الحار, فهل هذه هي القدس, التي يود الإسرائيليون حرماننا
منها? وهل زياراتنا الأخيرة لها هي زيارات توديع? هل سيصعب علينا التسلل إليها بعد
إقامة أسوار كأسوار المدن القديمة مثل سور القدس, في ظل تكنولوجيا السلاح
الحديث?
لم يعد صوت فيروز يصلني وأنا في أقصى السوق ما بين العرب واليهود, فقط
تدخل عيناي المكان المضاء جعلت المكان يحمر, ويصيبني منه شيء, فلماذا لا نغضب حين
نرى السلب والنهب للمكان والزمان?
أدلف إلى صيدلية مرتبة نظيفة, غزال جميل يطل يطفئ بعض الحرارة وبعض
الصداع, وبالطبع لا تدري الصيدلانية الحسناء عن اسم (السبيل). سبيل الماء الذي يقف
من دهور أمامها, السبيل فارغ من الماء, مغبر, مسود, حين تقف لتقرأ يصعب عليك
القراءة, أشارت إلى من يستطيع الجواب, فقيل إن اسمه: سبيل سليمان الأعظم (ربما
يقصدون السلطان العثماني سليمان القانوني), وقد رمم آل الناظر السبيل قبل سنوات,
لكنه ما زال بحاجة إلى ترميم وتنظيف. كان رجال الدولة يحرصون على تخليد أنفسهم
بتقديم هدايا لسكان وزوار المكان, إقامة سبيل ماء خير هدية للناس في ذلك الزمن.
فعلاً إنها خير هدية! خصوصاً في أيام الحرارة المرتفعة, لكن زائر المكان اليوم
بحاجة إلى الكثير من الأسبلة الحديثة حتى يطفئ من مائها حرارة القلب والفكر ويرطب
جفاف الحلق!
نترك الصيدلية ونمضي, ويمضي من حولنا اليهود إلى منطقة البراق التي
حرمنا منها, والتي سرقها الاحتلال, نسير إلى أعلى مع شارع الواد, نسير بطيئين,
ويسيرون مسرعين. بطء خطواتنا, مع سرعة خطواتهم, أما نحن فنتأمل جمال مكاننا ونرثي
حاله, وهم يمرون كاللصوص. ولا يمر الإنسان مسرعاً إلا لسبب, فما أسبابهم التي
تجعلهم يركضون? هل الخوف واحد منها?
هبطت إلى باب السلسلة, هناك أشتري من الحاج أبو كامل الصالح (كسبة)
ولمن لا يعرفها فهي مطحون السمسم الذي يخلطه المشتري مع السكر ويعجنهما معاً. لم
يشأ الحاج أبو كامل في المرة السابقة أن يحدثني عنها: المهنة, الأدوات, المواد
الخام, قائلاً إنها أسرار المهنة, حاولت ولم أنجح.
هذه المرة لم أطلب منه ذلك, بل تحدثنا عن بائع آخر اسمه إبراهيم
الجبريني كان يبيع (الكسبة) في حارة السعدية, وكان أبي رحمه الله زبونه, وقد رحل هو
الآخر وورث أبناؤه مهنته, ثم تحدثنا عن فلسطين قبل عام 1948 حين كان أبوه له محل
لبيع الكسبة في اللد.
صار أبو كامل أكثر بشاشة, واستعاد بعض الشباب وهو يتحدث عن أيام زمان,
ونشط في الحديث عن أنواع السمسم, هذا محمص أغلى, وهذا عادي, ويستورد السمسم من
إثيوبيا كما هو مكتوب على الأكياس, خلال ذلك يدخل المشترون عرباً ويهوداً لشراء
الطحينية, أمني النفس بطعم (الكسبة) حتى أصل إلى البيت.
أذواق وروائح وألوان الحياة
وجه جميل سمراوي السحنة يطل في السوق, يبحث عن شيء ما, يود أن يتحدث,
اقتربت, كانت الآنسة مع أمها, (دمها كدم العرب) كناية عن علاقة مشابهة للسحنة,
بادرتْ أمها بإنجليزية وبطلاقة بالسؤال عن كنيسة القيامة, إنهما امرأتان من الهند
في زيارة للقدس, ربما للحج, الابنة متعلمة خريجة جامعة وباحثة, يطل من عينيها جمال
أخاذ وهدوء مقيم, اقتربت بعد أن أريتهما الطريق إلى القيامة.
توجهت إلى سوق العطارين, الشابان الصغيران اسحق ويعقوب المؤقت جميلا
الوجهين, حسنا التعامل مع الزبائن وبابتسامة عذبة يلقيان الناس, وبترحاب تحسب أنك
أصبحت من أقربائهما أو أصحابهما. في سوق العطارين, تنتشر الروائح الزكية الحلوة
للتوابل والعطور ومشتقاتهما فتشعر بجمال داخلي يصل دمك فتعيد الاستنشاق مرة أخرى,
تتمنى لو قضيت هناك ساعة تشم الروائح, وكشيء مثل السحر يجذبك المكان من أنفك وعيونك
وجميع حواسك.
للشراب - كشراب الخروب واللوز والتمر هندي - مذاق جميل, حلو منعش,
للحلويات ولبعض أصناف الطعام, ولا يمكن أن يكون كل هذا المذاق وهذي الروائح قد ظهرت
في سنوات فقط, إنها عراقة المكان وثقافته وهي أقوى على الصمود أمام الغزاة, نعم
بمذاق العرقسوس وشراب اللوز تقاوم القدس (أسرلتها) وتغريبها.
كنا نود لو حضر لنا اسحق المؤقت وصفة عطار لحل مشاكل آلام الجسد
والروح, منحنا وصفة ومواد عشبية لمعالجة مغص الأطفال, أما حل مشاكل البلد فهي تحتاج
إلى (عطار) كبير.
دلفنا إلى سوق الخواجات, الذي أصبح سوق قماش كبيرًا, والقماش في
الثقافة الشعبية له دلالات الرفاه والغنى والهدايا والأعراس والأثواب, ولكن خفت تلك
الدلالات في ظل الملابس الجاهزة المفصلة والضيقة على الروح والجسد.
أن تملك قماشاً معناه ثوب جديد, يزدهي بالألوان, العديد من أنواع
الأقمشة المتعددة الأصول من بلاد عدة, كلها تصطف معاً في لفاتها, تسر عيون الناظرين
وتمتعهم, ثمة قرويات يشترين القماش لأجل منحه هدايا, قماش ثوب لكل قريبة للعريس,
ووحيد الإمام صاحب محل أقمشة مشهور في سوق الصاغة القديم, رجل أربعيني حسن التعامل
وصبور, متعب لكثرة حمله للفات القماش, ورث وحيد مهنة بيع القماش عن أبيه وجده,
أسلوب بيعه ومفاوضة الزبائن حول الأسعار يدل على الطيبة, الألوان بأشكالها ورسماتها
الزخرفية والنباتية تنقل البصر إلى عالم آخر كله جمال وبهجة.
شهوة امتلاك وتملك المدينة بكل ما فيها تستبد باليهود, إنهم على
استعداد لدفع مبالغ خيالية للشراء. قال لي وحيد الإمام, إن وراء المحل معبدًا
يهوديًا - كما يزعمون-, وأن يهودياً من نيويورك عرض مبلغاً كبيراً, للسماح لهم بفتح
باب على سوق الصاغة من أجل المرور إلى طريق السطح من خلال سوق الخواجات.
التاريخ بمستوياته يطل عليك, ليدل على مراحل عاشتها المدينة, فشكل
البناء في السوق من أسوار وجدران وبيوت وقناطر وأسبلة جمع (سبيل الماء) وقباب
ومقرنصات يستحضر ويأتي بالقادة وعصورهم, ولكل عصر ذوق خاص به, وكلها جميلة تتكامل
معاً في ظل الحضارة العربية كحضارة إسلامية الطابع وعالمية المستوى.
كان على د. يوسف النتشة المدرس بجامعة القدس والذي يصطحب مجموعة من
الشخصيات الوافدة إلى المدينة كل أسبوع أن يذكر لهؤلاء الأجانب أن سلطات الاحتلال
تمنع الفلسطينيين من القدوم إلى القدس, وقد فسر لهم كثافة وجود المواطنين يوم السبت
أن مرد ذلك يعود إلى زيارة فلسطينيي العام 1948 إلى القدس من أجل العبادة والسياحة
والتسوق.كانت رحلة د. النتشة مع عدد من محبي اكتشاف القدس من وجهة نظر فلسطينية حول
أسواق القدس, وأراهم تطور الأسواق الاقتصادية في المدينة القديمة وتعدديتها
وعلاقتها مع المراحل الحضارية التي مرت على المدينة.
يشرف على هذه النشاطات التعريفية مركز دراسات القدس والذي يقع في خان
تنكز داخل سوق القطانين الذي أسسه المملوك تنكز في القرن الثالث عشر للميلاد.
تنقلنا مع د. النتشة من سوق القطانين إلى خان الزيت إلى سوق اللحامين
والخواجات وسوق الخضار الذي لم يعد قائماً, حيث اشترته عائلة جويلس وجعلته سوقاً
للسياح يبيعون فيه الانتيكات والمصنوعات التراثية.
إلى المسجد
ندلف إلى ساحة المسجد الأقصى, كم هي الحرارة مرتفعة هذا النهار, أسير
في الأروقة, أتأمل المقرنصات المملوكية والأيوبية, وأتأمل البائكات القديمات حول
مسجد قبة الصخرة, يبدو المكان قديماً وحزيناً وبحاجة إلى ترميم كثير. ثم أهرب إلى
سبيل ماء الوضوء, أتوضأ, وأطيل اللعب بالماء, ثمة ماء كثير هنا, وقليل من الناس, ما
أجمل الماء في حرارة الصيف.
نسير في ساحة الأقصى, الحرارة تزداد, كأنها هراوات الرصاص, نهرب منها,
وتلحقنا, نلوذ بالماء, ونسمات السوق والأروقة الباردة. على باب المجلس (أو الناظر)
أو باب حبس العبيد - الذي خفف لغوياً احتراماً وأدباً إلى باب الجالية الإفريقية -
يتعبني صداع شديد, حرارة وصداع, صعب أن نحتمل الاثنين... والاحتلال!
لا يمكن لزائر القدس في أية مناسبة ألا يتذكر القائد العسكري صلاح
الدين الأيوبي, محرر القدس, ويسمى هذا القائد صلاح الدين والدنيا, وأحياناً تقدم
الدنيا على الدين: صلاح الدنيا والدين. وقرأت هذا الوصف على المنبر الحجري أمام قبة
الصخرة إلى الجهة القبلية.
أعود لأتأمل جمال باب القطانين, الذي جدده محمد بن قلاوون سنة 737 هـ,
هو من أجمل أبواب المسجد الأقصى وغاية في التزيين, بضع خطوات أراني أحلق لتأمل
مئذنة باب السلسلة, وهي التي يرفع الأذان منها, وهذا ما يميزها عن سائر مآذن
المسجد, وقد بناها الأمير سيف الدين تنكز الناصري عام 730 هـ, المئذنة قوية, مزخرفة
الجوانب ذات جوانب مستطيلة أربعة وقبة صغيرة.
إلى الأمام قليلاً, باب المغاربة, لا يسمح لنا بالمرور, وهناك حائط
البراق, الذي هو قسم من السور الغربي للمسجد, هو مرتفع قليلاً, وقد سمي كذلك نسبة
إلى البراق الذي ربطه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم إسرائه إلى المسجد
الأقصى, ويدعي اليهود أن الحائط هو جزء من الحائط الغربي للهيكل, ولم يثبت حتى الآن
أي من هذه الادعاءات, ولا يزال اليهود يصلون عنده, ويبكون, ولنا نحن أن نبكي على
حارة المغاربة التي دمرها الاحتلال فور احتلال القدس عام 1967. نسير والرواقات
الجميلة الباردة إلى يميننا.. ندخل إليها طلبا لبرودة الهواء.
مئذنة باب المغاربة, أطول من مئذنة باب السلسلة وأرفع منها, سبيل
الماء (سبيل قايتباي) بجانب مصطبة تحمل الاسم نفسه, أنشأه الملك الأشرف قايتباي,
عليه شريط كتابي منقوش, تمتاز قبته بزخارف نباتية جدده العثمانيون سنة 1300 هـ. في
سبيل قايتباي فنون معمارية وزخارف جصية, زادته جمالاً الحجارة الملونة في بنائه,
شربنا منه, وبللنا أنفسنا, تماماً كما فعلنا عند الميضأة (مكان الوضوء) المشهورة
شمال المسجد الأقصى المسماة بالكأس لأنها تشبه الكأس.
نقترب من المسجد الأقصى, مع العلم أن كل الساحات هي مسجد أقصى,
فالمسجد يضم القباب والمآذن والأسبلة والمصاطب, والمساجد الصغيرة والكبيرة, وأماكن
الوضوء, والمحاريب, والشجر والمرافق والخلوات والبوائك والآبار والمدارس والمكتبات
والساحات والمشارب. لكن اتفق على تسمية المسجد المبني في جنوب الأقصى بالمسجد
الأقصى, الذي بني في العهد الأموي, وقد تعرض المسجد لعدد من الزلازل جعلت المسلمين
يهتمون ببنائه وترميمه على طول الزمان.
ورغم أعمال الترميم المستمرة في ساحات المسجد, الذي يعد أحد ثلاثة
مساجد مهمة مقدسة عند المسلمين, فإن المسجد يبدو شاحباً حزيناً تماماً, مثل رجل
أسير.
قبة المسجد الأقصى من الداخل روعة في التكوين, وهي موجودة منذ
(الأمويين) أحاول أن أقرأ النص الذي عليها من الداخل: (وهي مستويات من الزخرفة
والفسيفساء المستخدم فيها ماء الذهب, لهذا نجدها تضيء المكان والروح والقلب, وهي
عالية, مكتوب عليها من الداخل اسم معمرها ومجددها: جددت هذه القبة المباركة في أيام
مولانا السلطان الملك الناصر العادل المجاهد المرابط المثاغر المؤيد المنصور قاهر
الخوارج والمتمردين محيي العدل في العالمين سلطان الإسلام والمسلمين ناصر الدنيا
والدين محمد بن السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون الصالحي تغمده الله برحمته في
سنة ثمان وعشرين وسبعمائة).
نظرت إلى دكة المؤذنين, هنا يجلس المؤذنون لتسميع جموع المصلين
التكبيرات وقت الصلاة, لقد كان ذلك بالطبع ضرورياً في الماضي قبل آلات تكبير
الصوت.
في إحدى الزوايا, تجد خزانة زجاجية فيها آثار قنابل مسيلة للدموع, حيث
جمع سدنة المسجد الأسطوانات تلك ووضعوها في إشارة إلى الأيام الدموية التي شهدتها
ساحات المسجد أكثر من مرة, والمسجد اليوم ممتلئ بالزائرين, إنه ارتباط يصعب
(تخفيفه) بين الناس ومسجدهم.
في الركن الجنوبي الشرقي, ثمة غرفة كبيرة, هي ما يسمى مسجد عمر (وهو
غير مسجد عمر الموجود مقابل كنيسة القيامة), وقيل إن سيدنا عمر بن الخطاب أقام فيه
يوم أن فتح القدس, تفحصت المكان, أبحث عن المكان الأصلي للمنبر القديم الذي تم
حرقه.
حدثني رجل أربعيني عن مكان المنبر القديم الذي أحضره صلاح الدين هدية
للمسجد ليلة تحريره, ويوجد مكانه الآن منبر صغير متواضع مكون من الحديد, بعد أن حرق
إسرائيلي المسجد الاقصى العام 1969.
أسير إلى المحراب, وإلى شبابيك المسجد القبلية, يجلس فيها مسلمون
يقرأون القرآن, المشهد يطل على السواحرة وسلوان ومحيط القدس الجنوبي والشرقي.
تسحرني الأضواء الملونة التي تطل من الزجاج المعشق الذي يزداد جمالاً مع ملامسته
لأشعة الشمس.
جمال المسجد وزخرفته يحتاجان إلى أيام لتأملهما, ولا وقت كافياً هنا..
أعد الأبواب, 6 أبواب وواحد رئيس كبير يتوسط إخوته.
وفي المسجد, الذي يتسع لبضعة آلاف فقط, تتسع ساحاته لاستيعاب بضع مئات
الآلاف, تحت الأشجار العتيقة, كالسرو والصنوبر, وفوق المصاطب والساحات حول السور
طويل العمر, من زمن سليمان القانوني, وقبل ذلك, تحت المسجد هناك مسجد صغير ندخل
اليه عبر درج حجري في جنوبه وغربه ترى السقف الذي تقوم عليه أرضية المسجد الأقصى
المبارك واسعاً تحمله أعمدة حجرية ضخمة.
يقع المسجد المرواني في الجهة الشرقية تحت ساحة المسجد الأقصى
المبارك, لا بد أن يكون تأسيس المسجد يعود إلى الأمويين بسبب ارتباط بنائه بما
حوله, حيث يعتقد أنه في عهد مروان بن عبد الملك اتخذه المسلمون مصلى حتى إتمام
الأبنية فوق سطح الأرض. مع إعادة ترميمه أصبح يستوعب بضعة آلاف من المسلمين خصوصاً
أيام البرد وأيام الصيف الحارة.
إلى مسجد القبة
نصعد إلى البائكة الجنوبية لقبة الصخرة, ونتعرف على الوقت من المزولة
الشمسية (ساعة شمسية) تحدد الوقت في النهار بواسطة ظل عود يثبت على لوحة مرقمة, وهي
لتعيين وقتي الظهر والعصر فقط. بعد انتشار الساعات العادية لم يعد يتذكرها غير
القليل, لكن الأطفال يحبونها ويجدونها ساعة عجيبة, عملت الساعة عام 1907.
نتأمل البوائك بركباتها وأعمدتها وأقواسها, يوجد في ساحة القبة على
الأدراج (جمع دَرََج) 6 بوائك جميلة الشكل تشكل مدخلاً يطل على جوانب ساحة مسجد قبة
الصخرة المرتفعة قليلاً ظاهراً عن باقي المكان. أصعد درجات مسجد القبة حافياً, أجد
من يصلي, فأصلي وراءه, أكمل الصلاة, ألمس الصخرة من فتحة, تخرج معطرة, تقليد قديم
اعتدته من الطفولة حتى الآن, وعلى باب المغارة رجل صوفي يعرف بالمكان بمبالغات
واضحة يصدقها الرجل المغترب القادم من أمريكا هو وأسرته الذين يتحدثون بعربية
مكسرة, وبإنجليزية سالمة, يعجبني الحديث والوصف, أستمع ولا أتحدث, أنظر إلى أعلى
القبة من الداخل, وأسمو مع الجمال, مع هذا الفن الإسلامي التجريدي الذي إن استسلمت
له تدخل في عوالم سحرية, ربما كتلك العوالم التي راح يتحدث عنها الرجل الصوفي عن
رحلة الإسراء والمعراج.
قبة العشاق حديثة, بنيت في العصر العثماني 1223هـ, من الاسم توقعت أن
تكون مكاناً للزهاد والعباد, حيث كانوا يلتقون هنا, عرفهم أهل زمانهم بأنهم عشاق
النبي صلى الله عليه وسلم.
في الجانب الشرقي لمسجد قبة الصخرة توجد قبة صغيرة مفتوحة الجوانب, هل
هي نموذج مصغر لقبة مسجد الصخرة? بناها عبد الملك بن مروان عام 66 هـ, قبل بناء
القبة المعروفة, لتكون نموذجا مصغرا يحاكيه البناءون, وهي تشبه فعلاً القبة الكبرى,
بالرغم من بعض الفوارق.
جمال قبة الصخرة من الداخل ينافس جمالها من الخارج, بالرغم من أنها
مذهبة من الخارج, ولنتأمل ما قاله خالد بن عيس البلوي في وصف القبة من الداخل:
تقع الصخرة الشهيرة في وسط المسجد, وهي بارتفاع متفاوت يصل إلى مترين,
وأقصى طول لها 18 متراً, وأقصى عرض 13.5 متر. ولا بد أن تكون قديمة جداً, ولا أدري
لم أبقاها المسلمون وبنوا المسجد عليها, هل لأنها متصلة بالمغارة من أسفلها, التي
تنزل إليها بواسطة درج, والتي حيطانها من الصخرة ذاتها.
لجوء
المغارة صغيرة, وهي تجويف غير منتظم ترتفع في أماكن وتهبط في أخرى,
تصلي فيها النساء خاصة. في أعلى المغارة فتحة تهوية, اجتهدنا ونحن صغار أن نفسر
وجود الفتحة بأنها المكان الذي عرج منه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء حين
حاصره اليهود لإيذائه.
هنا أصلي, أقرأ سورة الإسراء, تسكن روحي, أتذكر من مروا من هنا, أصلي
على الرسول الكريم وأسلم عليه, وأنادي على عمر وخالد وبلال وأبي عبيدة, وأنادي
عليكم يا أحبابي في كل مكان. هل من إغفاءة ولو لدقائق في هذا اليوم الحار!! لربما
مرت نسمات عذبة داعبتنا, كما داعبنا جمال وجه الصيدلانية التي أذهب (اكامولها) صداع
الرأس, لكن لم يذهب حرارة النفس والجسد, والروح. سلاماً يا قدس.. لا وداعاً يا بقية
الروح الباقية في تاريخنا, وحضارتنا.