ملف: شوقي بزيع.. صراخ الأشجار

ملف: شوقي بزيع.. صراخ الأشجار

صياغة المعنى وجمالية العنونة
في ديوان صراخ الأشجار..

تشكّل الذات لدى كثير من الشعراء المعاصرين محورًا أساسيًا، والتعبير عنها يرتبط بعلاقات إنسانية عميقة بعيدة عن أنا التضخم «برونيا»، فصياغتها كتجربة تتطلب نباهة وحسًا مرهفًا وذكاء لغويًا حيًا بما يمتلكه من أدوات وأفكار، ولذلك فإن الشاعر الذي يبحث عن الآخر من خلال ذاته يدرك من الحقائق ما لا يدركه بغيرها، يكتشف ذوات الآخرين عن قرب ويستلهم منها مادة إبداعية مهمة، تتصل بعمقه النفسي والاجتماعي والتاريخي, بعيدًا عن التكلف والابتذال وقلّما ينجح الشعراء في رسم هذه الخطة، وإعداد شعرية جديدة ذات ميزة، وإضافة تشهد له بالتفرّد وتجعل تجربته الشعورية تجربة شعرية حقيقية تستحق قراءة جادة واكتشافًا مفصلاً كنموذج حداثي مثل تجربة الشاعر اللبناني شوقي بزيع الذي يرى أن كتابة الشعر هي تقمص للحالات بعمق وصدق «لذلك بالنسبة لشعري لا يمكن أن أكتب قصيدة ما لم أتقمص حالتها بما فيها، وأتقمص الشخص أو الشيء أو الموضوع الذي تدور حوله القصيدة»، بهذه النظرة نقف على إيمان الشاعر الراسخ في مجموع دواوينه المتلاحقة، خاصة ديوانه «صراخ الأشجار» على أن الحديث عن الذات والتجربة الذاتية لا يعني بالضرورة أن يكون دومًا إنسانًا بقدر ما يكون شيئًا أو نباتًا، تغلب على عناوينه أسماء نباتات، كما لو أنّ الشاعر شوقي بزيع قد اكتشف ضالته في اختيار الطبيعة والأشجار على وجه التحديد منذ بداية الديوان (الزنزلخت، السنديان، الصبّار، الرمان..)، ولذلك تحوّلت هذه النباتات إلى كائنات شأنها شأن المرأة لقربها من نفسه وللحميمية التي تربطه بها، والأشجار التي تناولها في مجموعته هي الأشجار فقط التي عرفها عن كثب والتي أصغى إليها وأدمت أنامله، تبادل معها أحاديث وأسرارًا وخلجات والتي حينما غادرها شعر بأنّها تطارده أينما ذهب:

لذا لن يتم القصيدة عني،
إذا متّ،
غير الشجر.

يؤمن شوقي بما يسمى بعبقرية المكان باعتبار الجنوب اللبناني أكثر مواضيعه التي اهتم بها بجنون وفجّرت رغبته وأحالته إلى رسم جنوب لبنان بعمق لما يرى فيه من تقاطع بين «صلابة الانتماء على الأرض وبين رغبة الانعتاق من ربقة أو أسر أو قيود الواقع باتجاه نداءات المستقبل أو نداءات المجهول» فاشتغاله على هذا النموذج، يتفرد بقائمة لأسماء النباتات التي وردت في الديوان بصفتها عناوين قصائد مختلفة ومشتركة، كثير منها من بيئته في جنوب لبنان، أحسن الإصغاء إليها أكثر من غيرها والمخطط الآتي يوضحها:

وظّفها بلغة عذبة تعتمد التصوير الحسّي للأشياء والأشخاص، حتى تلك التي لم تلد وافترضها بمخيلة قوية تجعل المتلقي يستنطق هو الآخر العوالم المختلفة ضمن معجم نباتي حافل بالأسماء والأشياء التي يقاربها المكان ويربط ثنائياتها الزمن الحقيقي والفيزيائي، ويشركه في صنع حدود تبحث في الحقيقة، كالميلاد والحياة والموت والأنس والبقاء والذكريات وغيرها من عناصر الحياة، واختياره لعناوين القصائد من الطبيعة وما تشكله كل نبتة أو شجرة من أبعاد ومعان لذاتها كخلفية دينية أو أسطورية أو ظاهرة نفسية يعتقدها الشاعر تحمل إحالات يستعين بها المتلقي عند الحاجة وتمكّنه من ولوج عالمه وتحليل معطيات كثيرة تبدو غامضة على طريقة الشعر العربي الجديد الذي يفلسف الطرح بلغة اشتقاقية عذبة ومثيرة ومستفزة، تتوازى مع معطيات التجريب الحداثي في ضوء التصور المتشابك للأشياء والبيئة والمحيط، متأثرًا في ذلك بتجارب شعرية حقيقية، عربية وأجنبية، محاولاً تشكيل خطوط مختلفة على مستوى التوقيع اللغوي والتصوير الحسي الرومانسي فـ«شوقي بزيع، شعرية موجودة، أسهمت في عودة الجذب إلى الفعل الشعري.. صانع دلالة، ومحترف معنى، للغته انسياب لا يعاق بالضغط المعياري. ازداد اتجاه لغته للتعبير عن هذا الخيار. اتخذ قراره النهائي بشجاعة فظهرت اللغة تلقائية، سهلة، منشدة..» تعتمد رمزية الطبيعة والاشتغال على نماذجها، تحبّب القارئ بالشعر، وتعيده إليه، والديوان يحمل مادة تستحق أكثر من وقفة وقراءة، يمكن تناولها أسلوبيًا وسيميائيًا، لأن العملية فرضتها طبيعة المادة الشعرية في هذا الديوان، شكلاً ومضمونًا.

بنية العنوان «صراخ الأشجار»:

إن تفكيك هذه العتبة التي تتركب من شقين صراخ/الأشجار من باب المضاف والمضاف إليه، وهو إسناد مستحدث غير مألوف عند المتلقي، يفضي إلى جملة من الدلالات التي تحقق معاني كثيرة، تجمع بين الصوت والذات واللون، اختيار مقصود منذ البدء بما أن الشاعر يبحث عن قرائن تساعد بقدر ما تثير فضول المتلقي وتجعله يشتدّ في فصوله والتركيز على خطاب العتبة وفيما تؤول إليه من معان وتصورات يتحسسها المتلقي في البحث عن كثير من مغامض الأشياء وما يمكن أن يتوقعه في تفاصيل المتن، ومجازية العتبة، لفظة (صراخ) تحمل دلالة صوتية، وهذا شيء طبيعي، وهي مصدر ثلاثي قياسي:

(فُعال/فعلة) = (صُراخ/صرخة)
وفعله (صَرَخَ) = (فَعَلَ)

يحمل دلالة على كائن حي، والأصل صراخ الإنسان، صراخ الحيوان..، وصوت الصراخ يحمل دلالة على المعاناة، الاستنجاد، وحتى البكاء. وأما لفظة (الأشجار) تحمل دلالة نباتية أو جزءًا من الطبيعة، وهذا طبيعي أيضًا، وعند صياغتهما/انزياحهما أي إسنادهما يصبح التركيب/العنوان غير مألوف:

رسم

فالعلاقة التي أوجدها الناص بين كلمة «صراخ» وبين «الأشجار» علاقة جدلية من حيث وجود مدخل ومحيط، والرابط الذي يجمع بينهما انتباه الشاعر لوجود علاقة بينه وبين الشجرة كسلوك مستحدث، ساعدته في ذلك التجربة التي مرّ بها عبر مختلف مراحل العمر بدءًا بالنشأة الأولى، وهو الأمر الذي نلاحظه في فاتحة أول قصيدة من الديوان:

لو لم يكن في البدء
إلا عشبة مجهولة الأبوين
تسبح في مياه ضحلة
لحسبتها أمي

وهذا استهلال يرتبط بشخصية الشاعر وعمق ملاحظته للأشياء، تفسّره نظرته للطبيعة واختلاقه سيرة ذاتية مشابهة بين ما ينشأ عليه الإنسان وبين عالم الأشجار التي تحولت إلى كائنات حية مثلها مثل الإنسان وارتباط ذلك بتجاربه، فأصبح كلّ ذلك مصدر إلهام وارتقاء شعري متميّز، وهنا «تكمن شعرية الإبداع في هذا التلاحم السرّي بين الكائن والأرض. الكائن الغريب، الوحيد، الجنوبي، الذي حين يباغته القصف يتعرّض لتعديل طفيف. بمعنى أنه يبقى حاضرًا في الريح والأشجار، في الغيم وما تصبّ الشمس.لا يموت. يبقى في المسمّى قبل الاسم، في الخامة الأولى» وللشاعر نظرة خاصة لكل نوع من هذه الأنواع واحدة واحدة، لم يذكرها بصدفة، لأن لكل منها خصوصيتها في نفسه، لارتباطها بماضيه وعالم ذكرياته وما تحمله من بعد تاريخي ورمز ديني وحتى في جانبها الأسطوري فعتبة السنديان:

ذكرها مرتين في الديوان، في قصيدة «صراخ الأشجار»:

مهدٌ من جذوع السنديان
مبقّع بالدمع
ثم تكلّفتني بابتسامتها البتول
شجيرة الدرّاق،
والحبقُ الذي عرّته فيما بعد
جائحة السنين المستبدّة

وخصّ لها قصيدة كاملة في الديوان نفسه باعتبار تفرّد هذه الشجرة بما ليس في الأشجار الأخرى من حالات معبّرة واستثناءات طبيعية قريبة من طبيعة الشاعر بحكم علاقته القديمة بها:

«هو أكثر الأشجار تعويلاً
على ما فات،
عكّاز الطفولة
والثغاء الأوليُّ لماعز الماضي،
ولا تحتاج غصَّتُهُ
إلى برهانْ
لنراه تلزَمنا مناديلٌ
تلوِّح من بعيدٍ للسواقي البيض»

فبهذه الإستراتيجية يحاول الشاعر أن يؤسس نظرة مختلفة لتجربته الشعرية، في صياغة المعاني والأدوات الشعرية باختياره لعناوين مغرية ذات دلالات نفسية واجتماعية وتاريخية جادة، بأسلوب بعيد عن التكلّف، فيه من جمالية الصورة وعذوبة الإيقاع ما يستحق أكثر من قراءة ودراسة في ديوان «صراخ الأشجار».
-------------------------------
* ناقد من الجزائر.

 

 

السعيد موفقي*