الأرض يا سلمى

الأرض يا سلمى

يرى الدارسون لفنون السرد الإبداعي, أن فن القصة القصيرة شأن فن الرواية أيضاً, لا يحققان وجودهما في واقع جامد وغير مستقر, فهما بحاجة إلى مناخ أكثر استقراراً وتحضّراً من الشعر الذي يرافق الإنسانية في كل أطوارها, لذلك, فقد تأخر ظهور القصة القصيرة في اليمن إلى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين, مع إرهاصات بالغة الندرة, ظهرت في أواخر الأربعينيات من القرن نفسه.

ويمكن لدارس هذا الفن في اليمن أن يرجع الظهور الحقيقي للقصة القصيرة إلى ما بعد قيام الثورة اليمنية في سبتمبر 1962م, ويربط بين ميلادهما صدور (الأرض يا سلمى) عن دار الآداب في بيروت عام 1965م كأول مجموعة قصصية مكتملة الأداء.

محمد عبد الولي, هو رائد القصة الحديثة في اليمن. ولم تكن صفة الرائد التي تلحق باسمه دائماً اعتباطية, أو من باب إضفاء الألقاب على مَن لا يستحقها, وإنما كانت تقريراً عن حقيقة يعترف بها الجميع, فقد كان محمد عبد الولي القاص الأول ورائد هذا الفن دون منازع, فهو الذي وضع الأسس الحديثة في هذه البلاد لكتابة قصة ذات أفق جديد في أسلوب القص, وفي التقاط معطيات الواقع من خلال رؤية فنية ولغوية توحي أكثر مما تخبر, وتتعامل مع الرمز في أرقى مستوياته.

صحيح أن ثلاثة أو أربعة من الرواد الأوائل كانوا قد سبقوا محمد عبد الولي إلى كتابة القصة القصيرة, لكنهم لم يخرجوا عن طريقة السرد التقليدي الذي اشتهرت به القصة العربية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين المنصرم, ولم يبلغوا ما بلغه من اتقانه لشروط هذا الفن, وتمثل لمقوماته الحديثة, فضلاً عن امتلاكه لتقنيته الخاصة, في استخدام الرموز, وإعطاء القصة التي يكتبها معادلاً موضوعياً للحياة المباشرة وآخر رمزياً يجعل القارئ يشعر بالانتشاء حين الاهتداء إليه. ويلاحظ أن محمد عبد الولي يحاول أن يقترب برموزه كثيراً من القارئ الذي يشعر أنه يكتشف عالماً باهراً, حين يهتدي إلى حقيقة الرمز, وما يخفي وراءه من دلالات فنية, تجعل القصة ذات بعدين أحدهما: واقعي مباشر, والآخر رمزي أبعد ما يكون عن المباشرة, وهو ما لا يجيده سوى كبار المبدعين في هذا الفن السردي.

وتجدر الإشارة إلى أن محمد عبد الولي كان, ولايزال يحتل مكان الصدارة في مجال الإبداع القصصي بالرغم من ظهور عشرات المواهب الجديدة التي تقدمت بفن كتابة القصة خطوات, مستفيدة من التحولات التي طرأت على المشهد السردي وعلى التجربة القصصية وتكويناتها الموضوعية والفنية.

لمحمد عبد الولي روايتان هما (يموتون غرباء), و(صنعاء مدينة مفتوحة) وله أربع مجموعات قصصية هي (الأرض يا سلمى), و(شيء اسمه الحنين), و(العم صالح), و(ريحانه). والمجموعة الأخيرة صدرت أخيراً عن (اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين), وتضم مجموعة من القصص التي لم تنشر أو التي تم نشرها في الصحافة ثم لم تضم إلى أي من مجموعاته الثلاث, وفي هذه المجموعة ما يمكن اعتباره وثائق إبداعية ذات مدلول خاص لفهم تطوره الإبداعي, وتراكم خبراته في مجال هذا الفن السردي البديع. وهناك من يقول إن له رواية لم تتم, وأعمالاً قصصية أخرى كان يعدها للنشر وربما احترقت في الحقيبة التي رافقته في رحلته الفاجعة على الطائرة المشئومة.

الذين عرفوا المبدع محمد عبد الولي مثلما عرفته يدركون أنه كان إنساناً مسكوناً بهذا الفن السردي, ومغموراً بأضوائه, وكأنما ولد ليكون قاصاً وروائياً, فقد كانت له قدرة فائقة على القص حتى في أحاديثه العادية, التي تأتي عفوية ومعبرةً عن تجارب حية نابضة, وقادرة على أن تسرقك من نفسك, ومن مشاغلك بسهولة نادرة, ودون أن تشعر بأقل قدر من الملل. وهنا في صنعاء, وهناك في القاهرة, وبرلين كانت لنا لقاءات يتحول فيها المبدع الراحل إلى سارد ماهر يشدك بصوته العذب, وبما تحتشد به أحاديثه من حكايات, وذكريات, وأفكار ذات صلة بالواقع, والتاريخ والفن والأدب.

بدأ محمد عبد الولي رحلته مع القصة القصيرة في منتصف الخمسينيات, وهو طالب في مدرسة (المعادي) الثانوية وهي إحدى ضواحي القاهرة. وكانت مدرسته الأولى, بالإضافة إلى ما يقرأ مما تنشره المجلات والصحف من قصص, مكتبة صغيرة في طرف الحديقة اليابانية الشهيرة في (حلوان) حيث كان يمضي الساعات الطويلة منكباً على قراءة كل ما تضمه المكتبة, وفي عالم القصة بخاصة, وقد رافقته مرة مع عدد من الأصدقاء لنشاركه ذكرياته في ثانوية المعادي, ثم إلى تلك المكتبة الصغيرة في (حلوان) حيث كان يقطع المسافة بين الضاحيتين (المعادي وحلوان) مشياً على الأقدام, وهو يتخيل نفسه وقد أصبح قاصاً كبيراً يتحدث عنه كبار النقاد كما يتحدثون - يومئذ - عن تشيخوف ويوسف إدريس.

الإشارة السابقة إلى أنطوان تشيخوف تجعلني أتوقف للحديث عن العلاقة العميقة التي ربطت بين محمد عبدالولي وكتابات ذلك الفنان الروسي العظيم, فقد زادت صلته به أكثر عندما ذهب للدراسة في موسكو, وأجاد اللغة الروسية لدرجة جعلت الرئيس الروسي الأسبق خرتشوف يفضل روسيته على روسية المترجم الروسي الأصل, عندما تولى الاثنان الترجمة بينه وبين المشير عبدالله السلال في زيارته الوحيدة إلى الاتحاد السوفيتي السابق. وقد سمعت هذه الشهادة من أكثر من عضو في الوفد الذي رافق الرئيس السلال, ومن الرئيس السلال نفسه. ومن النافل القول بأن معرفة محمد عبد الولي باللغة الروسية قد مكنته من قراءة الأعمال القصصية والروائية لعمالقة هذا الفن في تلك البلاد أمثال, تولستوي وديستيوفسكي, وتورجنيف, وجوجول, وتشيخوف بالطبع, وآخرين. يضاف إلى ذلك متابعته الدائمة لكل ما ينتجه المبدعون العرب في هذا المجال. وحين زرته في مكتبه في القنصلية اليمنية في برلين - كان ذلك في منتصف الستينيات - أدركت كم هو حريص على الاشتراك في المجلات الأدبية, والصحف العربية ذات الملاحق الأدبية.

المجموعة التي بين يدي القارئ الآن (الأرض يا سلمى), هي أول الأعمال المنشورة للرائد محمد عبد الولي, وتضم قصتين من محاولاته الأولى كتبها, وهو طالب في القاهرة. وإذا كان لكل كاتب فنان تيمته أو موضوعته التي تدور عليها أغلب أعماله, فقد كانت الثورة هي تلك التيمة أو الموضوعة التي يتوسل الوصول إليها عن طريق الحديث في قصصه ورواياته كثيراً عن الهجرة والمهاجرين, وعن الأرض التي تركوها لنسائهم حيث يواصلن الحرث, والسقي, والبذار, والحصاد. وفي قصة (الأرض يا سلمى), التي صارت عنواناً للمجموعة, يغوض قلب الإنسان في الأرض كما تغوض المياه, ويسقيها بالدموع والدم كما تسقيها الأمطار.. وفي هذا الصدد يمكننا القول بأن القصص التي كتبها محمد عبد الولي عن المغتربين, وهي كثيرة, لا توحي بأي قدر من التعاطف مع هؤلاء البؤساء النازحين الذين أبعدتهم الظروف القاسية عن الوطن مضطرين حتى غدت هجرة اليمنيين ظاهرة اجتماعية شائعة في العهد السابق, علماً بأنه ابن واحد من هؤلاء المهاجرين, وأنه ولد في المهجر, وربما كانت معاناته تلك سبباً في إدانته للغربة والمغتربين وكراهيته للهجرة, وإلى ضرورة تمسك الإنسان بأرضه تحت كل الظروف, إذ لا قيمة لإنسان لا أرض له, ولا مكان ينتمي إليه, إنه يظل غريباً في مهجره بلا جذور كالمعلق في الفضاء.

وصاحب هذه المجموعة القصصية لا يبخل على المهاجرين بتعاطفه وحسب, وإنما يتهمهم بالجبن والتخاذل, كما في قصة (الأرض يا سلمى). وقصة (على طريق أسمرا).

ذلك هو محمد عبدالولي الفنان الإنسان, الذي رحل عن أربعة وثلاثين عاماً, أي في قمة العطاء, وفي حادث طائرة لا يزال ملف سقوطها الغامض مفتوحاً ولم يقفل بعد.

لونُ المَطَر

- هل أنت خائف ?

- لا, إنني أرتجف.. ربما ذلك من البرد.. أو...

وصمت قليلاً وراح يحملق في الفضاء أمامه, وعادت عيناه بعد أن اصطدمتا بقمم الجبال السوداء, التي تحتضن الوادي العميق, النائم في صمت خرافي, صمت خاله أبدياً, حتى وهو يردد صدى طلقات نارية بعيدة.

أنت جائع..?

- ربما, إنني لم أذق طعم أكل حقيقي منذ أيام بعيدة.

- والخبز...?

- لقد مللت منه...

- إيه... إنك مغفل, أتعرف.. إنني أتذوق له طعماً رائعاً? لقد مللت ما تسمونه أكلاً حقيقياً. عشرون عاماً, ذقت فيها كل شيء, من الثعابين الصينية حتى شربة الضفادع الافرنسية و...

- هل ستبدأ في قصة ذلك من جديد..?

- ولم.. لا, قد يمضي الليل سريعاً, فلا نشعر بالسأم.. أو الخوف..

- أو الجوع.. أليس كذلك..?

- ربما..

ودوت طلقة من بعيد رددها الأخدود, فارتجف.

ألم أقل لك إنك خائف...

أرجوك, إنني أشعر بالبرد فقط.

انظر: ألا تشعر بشيء جديد في هذه الليلة?

ما هو? قالها بصوت خائف...

لقد أمطرت السماء في النهار.

إذن?

ألا تشعر بلون المطر الذي غسل كل شيء.. حتى لون القمر...

وأشار بيده إلى القمر.

الأفضل أن تترك يدك على زناد بندقيتك...

أوه... ألا تنظر, ما أروع كل شيء..? هل تخيلت عمرك منظراً ساحراً كهذا.. القمر يرسل ضوءه كشلال المطر الذي تساقط نهاراً, حتى النجوم تشبه انطلاقة القطرات من السحب. إن للمطر لوناً لا تشعر به, إلا عندما توده, وتود تلك الأحياء التي يتساقط فيها, لم أكن أتأثر بالقمر أو بالمطر وأنا في الباخرة, كان ذلك يذكرني بالقرية, أنت لا تعرف معنى البحر أن تقضي فيه أعواماً, تشويك الشمس, ويلتهمك المساء بصمته, كنت مستعداً لدفع حياتي ثمناً لمنظر كهذا, ألا تلاحظ قمم الجبال المقابلة? إنها واضحة كل الوضوح, بكل تفاصيلها. أنظر هنالك, سأدفع حياتي ثمناً لهذا, يا إلهي, كنت أظنها مجرد مغامرة, أن أحمل السلاح وأمضي وأنشد أناشيد الثورة, كتلك التي أسمعها من عمال الموانئ في فرنسا, عن الثورة, ونابليون والمارسيلييز, ولكن هل رأوا شيئاً رائعاً كهذا? إن القمر يكشف لك كل شيء, نعم, كل شيء...

و.. ضغط على زناد بندقيته, وردد الجبل الصدى, وارتجف الجسد الممدد بجانبه.

- مالك.. هل جننت?

- لا.. لا شيء, القمر رائع, لقد هوى, ألم تلاحظ شيئاً? لذلك أنا أعشق القمر, الضوء الخافت, إنه لا يعطيك كل الصورة, الظلال تكفي, لا ترتجف هكذا يا عزيزي, أنت لم تتعود البرد في - عدن -, هناك الشمس مضيئة دائماً, ولكنها تثير الضيق أحياناً, أنت لم تر جبال الثلج عشرين عاماً عملت فيها ملاحاً, رأيت كل البحار, وسمعت كل الحكايات, إلا أن أكون جندياً في صفوف الثورة, تلك آخر أسطورة كنت أتصور حدوثها, ولكنها حدثت.

- إسمع يا عزيزي, لقد سمعت ذلك للمرة العشرين, ولكنك لأول مرة تثبت لي بأنك رامٍ جيد, لعله يتألم هناك, أو - لعله قد مات. لم ألاحظ أي شيء, لم أره إلا بعد أن هوى.

وصمت قليلاً, ثم قال:

ولكنك كنت تعيد علي كل ذلك من جديد, والقمر هو القمر, الذي يوجد في كل ليلة والنجم والأمطار.. لا شيء إلا أنني غرقت في الأوحال وأنا أطارد ذلك الأرنب اللعين ظهر اليوم, لقد كنت أرسم في مخيلتي مائدة لذيذة لأرنب مشوي, ولكني لم أجد سوى الخبز اليابس!

وهبت رياح باردة كان لها صرير وهي تعبر شقوق الأخدود, وردد الجبل صدى إنسان يصرخ.. لم يجب عليه أحد, فمات الصدى, وهوى إنسان في القاع, وارتطم حجر في الوادي العميق.

اسمع, اسمع.. هل تحس بشيء?

كان صوته خائفاً, وشد بقوة على البندقية.

لا تخف, إنه صوت هدير المياه, إنه السيل القادم من الشمال, كانت الغيوم تغطي كل المنطقة منذ الصباح, هذه المياه القادمة بصخب هي حصيلة الأمطار التي هطلت, ألا تشعر بصوتها العذب? يخيل إلي كأنه هدير جنود يزحفون إلى الهدف, دونما خوف, يمزقون الصمت والجبن, لقد تناسوا كل شيء, حتى وجودهم, إنه يندفعون, كل واحد يتشجع لأن آخرين بجانبه, لو كان وحيداً.. لفر.. ولكنهم جموع. أتدري, إنهم أكثر من شخص واحد, أتسمع ارتطامهم بالجبال? وحتى تساقط الأشجار لا يهمهم, إنهم يندفعون, كل واحد يشجع الآخرين, دونما خوف, دونما خوف.

وكان السيل قد بلغ الوادي, كانوا ممتدين على قمة الجبل وكان الماء يندفع بشدة وقد حمل أمامه أشياء كثيرة لم يلاحظوا منها شيئاً, والماء يرتفع وينخفض بعنف, وصوت ارتطامه يرتفع ويرتفع, حتى ظنوا بأنه سيلتهمهم. وضمهم صمت عميق والماء يمضي من تحتهم بعيداً, كثعبان أسطوري خرج فجأة من أعماق الجبال بعد سجن دام قروناً, وراح يحطم كل شيء..

ونحن أيضاً مثله, لا ندري ما يلتهم أمامنا, ولكننا نمضي بعنف, ولكوننا مجموعة فنحن لا نشعر بالخوف, لا يهمنا. ثم نرتطم, إنها البداية, والبداية عنيفة دونما حدود, كل شيء مباح وقانوني.. ما دمنا في النهاية سنسقي حقولاً, وما دمنا نعطي الصحراء لون اخضرار رائع, بساطاً من السعادة, إن اندفاعنا لن يستمر طويلاً, سنهدأ بعد قليل, ولكنا سنعطي الأرض لوناً آخر! حياة أخرى. وساد صمت. وكان القمر حنوناً. والسيل قد مضى بعيداً.

وماذا عنها? هل كتبت لها شيئاً?

مزقت كل شيء.. مع من سأرسل رسائلي? عدن.. إنها بعيدة الآن.. ما كان أغباني! قلت لها إنني سأكتب لها دائماً, لعلها تعتبرني الآن بطلاً, وتنتظر مني أن أحكي لها أساطير عن بطولاتي, إنها لن تصدق بأنني أرتجف عند سماع طلق ناري, وكأن الرصاص ينغرس في أعماقي, أنت أكبر مني, لقد رأيت عوالم فسيحة, ولعلك تسخر مني الآن.. أما أنا..

وضحك بحزن.

أنا مجرد طفل.. لا يجيد سوى الحساب والكتابة و.. التحدث عن الوطنية بحماس أجوف.. الشيء الكبير في حياتي هو أنني هنا. كنت مستعجلاً في قراري هذا, لو فكرت قليلاً, قليلاً فقط, لما كنت هنا - إنه الحماس, أنا الذي تحدث في الوطنية حتى مل الناس منه, وها هي ذي الثورة, كيف أقف بعيداً عنها? كثيرون قالوا لي تطوع, تطوع, وتطوعت, لم يمض على زواجي سوى أشهر, لم أفكر فيها, قال لي والدها, لا تخف,.. أنا هنا,.. وقال الأصدقاء, نحن هنا.. وها أنذا, ستخجل مني لو قلت لها ما هي الحرب, وما هو الخوف.. أقول لنفسي, إنني أخاف من أجلها. ولكني كاذب, إن طعم الحياة أشعر به هنا على لساني.. عند كل طلقة رصاص.

ودوى طلق ناري, وارتجف, وجفّ ريقه..

لقد هوى, إنهم ملاعين, يعرفون أن القمر يكشف القمم فيتسلقون الصخور, ويبحثون عن فجوات, ولكنه هوى, هل تشعر بشيء?

لا, لا.. إنني خائف حتى الموت..

لا, لا تقل ذلك, استمر في حديثك, كأن شيئاً لم يحدث...

أنت شخص آخر, قاتلت اليوم, وقاتلت من قبل, وربما أكثر من مرة.

ضحك البحار قائلاً: ومع أكثر من جهة, وبدون مبرر. أما اليوم, فأنا أحارب من أجل شيء. ربما كان ذلك هو لون المطر, في بلادنا. من قبل حاربت مع الإيطاليين, ثم عدت فحاربت مع الانجليز, ثم عملت مهرباً للأسلحة, ولكني لم أشعر بأي لذة, لم تكن الجبال, ولا القمر أو النجوم حتى ولا لون المطر في بلاد الناس تثيرني, كنت أحلم بهذا, هذا الهواء البارد, هذه القمم العارية, هؤلاء السخفاء المتسللين, صائدي الذهب والسلاح, والغباء, والحالمين بعيد الثورة, حلمت بكل هؤلاء, ولم أعرف بأنني, وتحت هذه الأمطار, أمطار بلادي, سأكون أنا صائداً, إيه يا بني.. عرفت أرصفة موانئ الدنيا كلها, نمت على حصاها, تشردت في أزقة مارسيليا, وكنت جائعاً, عملت أياماً وليالي, في مخازن الفحم, وعند لهيب الأفران, وتحت سماء مثلجة, عرفت معنى أن تحارب حرباً ليست هي حربك, صعب أن ترى وجوهاً جائعة, و.. الآن.. ألا تريدني أن أصرخ فرحاً هنا: (لكم أنا سعيد. لكم أنا سعيد?!) آه.. سأقص كل هذا, لكل الناس وفي كل مكان, آه لكم كنت أخجل أن أقول لهم من أين أنا, أما الآن, فلن أخجل مطلقاً, بل سأقص عليهم قصتك, ابن - عدن - النائم شبه عار وجائع, فوق قمم الجبال, في برد لم يعرف طعمه, يتغذى بالخبز وحده, ويحلم بأرنب مشوي, ويكتب رسائل خياليه لامرأة أكثر خيالاً.

إنني لا أكذب..

لم أقل لك ذلك, كل شيء هنا واقعي حتى أصبحت الواقعية لا تصدق!

عيناهما تبحث عن شيء أمامهما, شيء غير الصمت, أو لون المطر, شيء كانا يحسان بدبيب أقدامه يتقدم كنصل حاد يزرع الموت. وكان الوادي من تحتهما يمضي بعيداً وقد فقد قوته الأسطورية, كان هادئاً, يمضي إلى الجنوب, لا أحد فيهم يعرف من أين يبتدئ ولا أين ينتهي, وإن كانوا يعرفون تماماً ما يريد أن يعطيه, ويعرفون الأرض التي تحتضنه وتقبله...

كان الدبيب يقترب, ويقترب, وكان لون القمر يصفر..

كان ذلك في ميناء, كنت أيامها شاباً, في يدي وريقات خضراء وحمراء, وفي أعماقي تنفجر رجولة, لم أكن قد بعت ذراعي لأحد, كنت أعمل بشرف, بعرقي وجهدي, وكنت فرحاً لأني خلفت من ورائي اليمن, لأرى عالماً جديداً, كله أضواء وصراخ وأناس, أقل ما تصورته أنهم من نوع الملائكة. لقد قضيت على الباخرة ستة أشهر, هل تعرف معنى الغربة? لم أكن أعرفها, ولكني لقيتها مع امرأة ذات ليلة, قبلاتها كانت كاذبة, لم أشعر بذلك إلا في البحر, عندما استعدت ذاكرتي, وعرفت إنني أبله, ولكني لم أنس تلك الميناء, ظللت أرسل رسائلي إليها دون أن أعرف حتى عنوانها, مجرد اسم الميناء, كان ذلك يكفي لأن أحبها. لقد نسيت حتى اسمها, وعدت إليها عدة مرات, ولكنها لم تكن هناك, لأنني عدت إليها بعد ثلاث سنوات, ذلك هو الشيء الوحيد الذي سميته حباً. أعرف الآن انها خدعتني, أخذت كل شيء, كل شيء, ولكنها تركت في فمي مرارة الغربة. لقد زرعت هذه المرارة, نعم زرعتها.. أنت يا عزيزي تملك بيتاً, وحباً وأصدقاء, آه... أما أنا, فلقد عدت إلى اليمن بعد عشرين عاماً, فلم أجد أحداً, كانوا قد مضوا هم أيضاً, وجدت بعض القبور, ولا شيء غير ذلك, لكني كنت قد تغيرت بعض الشيء.. هممت بأن أعود إلى البحر, الصديق الكبير الذي لم أفقده, والذي هو مستعد دائماً لأن يحتضنني, في أية لحظة, وها أنت ذا ترى بأنني هنا وليس في مكان آخر. إنها المصادفة وحدها, أليس كذلك? مصادفة, أو مجرد حظ تمنيته دائماً, لقد بعت نفسي لأكثر من جيش, وأكثر من شركة, تعلمت كيف أعمل في باخرة, وتعلمت كيف أمسك ببندقية وأقتل أناساً لا أعرفهم وليس بيني وبينهم أية عداوة.. أما اليوم فلا.. إنني أعرف, ولأول مرة لماذا أنا هنا, ولماذا تقع هذه البندقية في يدي, قد لا أعرف من أقتل, ولكني أعرف لماذا أقتل, أتسمع? إنني أعرف ولأول مرة منذ عشرين عاماً شيئاً ما.. صور المقابر لا تزال أمامي, عدت فرحاً أحمل هدايا ونقوداً, ولكني لم أجد سوى شواهد قبور أمامي, إنني هنا أصنع شواهد قبور جديدة, وربما صنعت واحداً لنفسي.

قاطعه الصوت الآخر, فجأة: - لا تقل ذلك, أرجوك..

الصبح يقترب, سنظل هنا معاً..

نعم فنحن آخر من بقي..

لا أحد يعرف, قد يكون آخرون استطاعوا مثلنا أن يشقوا لهم طريقاً وسط تلك الصخور..

ربما..

من بعيد, لاح ضوء, ولكن القمر لم يكن قد غاب.

وأمامهما بعيداً, كانت خطوط تربط السماء بالأرض كانت تلوح بعيداً, وكان لها رائحة عذبة.

انظر, إنه المطر, ألا ترى لونه? لا أستطيع أن أصفه, ولكني أحس به إحساساً عجيباً, حتى إني لأشعر بأنني أستطيع وصفه..

إنني أستطيع أن أحس برائحته, رائحة عطر ما.. كنت أبيعه في الدكان الذي عملت به.

اقترب الدبيب, كانت الأرض تخبر بذلك, واحتواهما الضوء وارتفعت أصوات وكانت طلقات, عديدة, ونار وغبار خفيف حولهما, وردد الوادي صدى الطلقات..

لا تخف, سنظل معاً.

وستحكي ذلك على الباخرة..

نعم, سأقول لهم ما هو لون المطر في بلادي.

وسأقول لهم في - عدن - ما هو طعم البرد هنا.

احتوى الجبل هدير, وكان الماء ينساب في الوادي, هادئاً, والجبال تردد الصدى, صدى الطلقات, عنيفاً.. عنيفاً.

  • محمد أحمد عبد الولي من مواليد 12 نوفمبر 1939م بمدينة دبربرهان (أثيوبيا) والده يمني وأمه أثيوبية. درس في مدرسة الجالية اليمنية في أديس أبابا. زار اليمن أول مرة وعمره 6 سنوات عام 1946م ولفترة قصيرة. ثم عاد إلى اليمن في المرة الثانية عام 1954م وتزوج في العام نفسه . سافر إلى القاهرة للدراسة في عام 1955م. سافر إلى موسكو ودرس في معهد جوركي للآداب. عاد إلى اليمن بعد قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962م. واشتغل في عدة مناصب في مكتب رئيس الجمهورية ثم قائماً بأعمال سفارات الجمهورية العربية اليمنية في موسكو وبرلين ومقديشيو. وأخيراً مديراً عاماً لشركة الطيران اليمنية. وأسس الدار الحديثة للطباعة والنشر بتعز. سجن لمدة عام في 1968م ثم ثمانية أشهر في عام 1972م. له من زوجته المرحومة (مُشَلّى): أيوب, بلقيس. ومن زوجته السويدية: سارة, فاطمة. نشر مجموعته الأولى (الأرض يا سلمى) في عام 1966م و(شيء اسمه الحنين) في عام 1972م. توفي في حادث انفجار طائرة كانت تقل دبلوماسيين من جنوب اليمن بتاريخ 30/4/1973.

 

محمد عبدالولي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات