الحرب الكلامية

الحرب الكلامية

ما أكثر الكتب والمقالات والبحوث والدراسات التي كتبت ونشرت عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001, ذلك الزلزال الهائل والمدمر الذي غيّر شكل العالم - بل خلق عالما جديدا - وجعل الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم تغير سياستها وتتوحد ضد الإرهاب. إلا أن هذا الكتاب يختلف عن باقي الكتب التي تناولت تلك الأحداث وركزت على الجوانب السياسية أو العسكرية أو الأمنية, إذ إنه يتناولها من الناحية اللغوية, أو يربط بين السياسة واللغة - كما يدل عليه عنوانه الفرعي (اللغة والسياسة والحادي عشر من سبتمبر).

ومؤلفة هذا الكتاب - الصادر في أواخر العام 2002 عن دار نشر Routledge بلندن ونيويورك - هي أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة واشنطن بمدينة سياتل, وسبق لها أن كتبت العديد من البحوث والدراسات عن الأحداث السياسية في العالم كحرب الخليج الأولى (الحرب العراقية - الإيرانية). وهي بحكم تخصصها في اللغويات التطبيقية تقوم بتحليل دور اللغة (الإنجليزية طبعا في هذه الحالة) في تشكيل الهوية القومية وتبحث في كيفية توظيف اللغة المستخدمة في مختلف وسائل الإعلام - المرئية والمسموعة والمكتوبة - في خلق الإجماع الشعبي العام لدى المواطنين الأمريكيين, وأثرها في تحديد ردود أفعالهم تجاه تلك الأحداث وفي التصدي لمواجهة الإرهاب, وتسخير الخطاب السياسي في خدمة السياسة العامة. ولا يتناول الكتاب الحرب في أفغانستان, وإن كان يتعرض لما تطلق عليه المؤلفة (ميادين القتال اللغوية), التي جعلت من ميادين القتال والمعارك الحربية الحقيقية في أفغانستان ممكنة. وقد حرصت المؤلفة على أن يكون الكتاب بأسلوب إنجليزي بسيط وخال من المصطلحات الفنية حتى يسهل على القارئ العادي فهمه واستيعابه.

ويقع الكتاب في 172 صفحة من القطع المتوسط, ويتألف من مقدمة وسبعة فصول, يناقش كل فصل منها جانبا مختلفا من جوانب الحرب الكلامية من خلال رؤية تحليلية لغوية.

الفصل الأول وعنوانه: (من الإرهاب إلى الحرب: الحرب على الإرهاب) يتناول ما جرى من أحداث في الأسابيع القليلة التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وكيف أدى هجوم إرهابي إلى الاستجابة التامة لمختلف أفراد القوات المسلحة الأمريكية, وقيام تحالف دولي غير مسبوق ضد الإرهاب. ويحلل هذا الفصل الخطب والكلمات والتصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جورج بوش - وهو في الوقت نفسه القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية -وكيف أسهم الاستخدام (الإستراتيجي) للغة في بناء أمة في زمن الحرب. ورغم أنه لم تعلن أي دولة أو منظمة مسئوليتها عن تلك الهجمات فإن الولايات المتحدة أكدت أنها تواجه (عدوا), (عدوا مجهول الهوية ولا ملامح له) يجسد (الشر) ويهجم على (الديمقراطية الغربية) و(أسلوب حياتنا) ويهدد (أمننا القومي), مما جعلها تشن (نوعا جديدا من الحرب) عليه. وكان أول هدف في تلك الحرب هي أفغانستان. ونظرا لأن أفغانستان (ترعى) أو (توفر ملاذا آمنا) لذلك العدو فقد بدأ قصفها في السابع من أكتوبر 2001. وفي آخر هذا الفصل يوجد ملحق يضم الخطب والكلمات والتصريحات التي ألقاها وأدلى بها الرئيس بوش. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن المؤلفة تقول إن الرئيس الأمريكي يجب أن يكون أولا وقبل كل شيء متحدثا جيدا ولبقًا وخطيبًا مفوهًا, ذلك أن قوة الرئيس تكمن في قدرته على الإقناع, وتضيف أنه قبل القرن العشرين نادرا ما كان الرؤساء الأمريكيون يتحدثون بالمرة, ولكن تغير ذلك فيما بعد, ففي الفترة بين 1945 و1975 زادت الخطب العامة للرؤساء الأمريكيين بنسبة 500% تقريبا, ولا تزال تلك النسبة في تصاعد.

الوصول إلى الرئاسة

في الفصل الثاني وعنوانه: (الوصول إلى الرئاسة) تتناول المؤلفة نقطة تحول أخرى في الخطاب الرسمي وذلك ما حدث يوم 14 سبتمبر 2001, فقد تقرر أن يحتفل الشعب الأمريكي في ذلك اليوم (باليوم الوطني للصلة والذكرى), (أي يوم حداد عام). وقد حضر الرئيس بوش قداسا خاصا في تلك المناسبة في الكاتدرائية الوطنية بواشنطن وألقى خطبة أو (موعظة) في المصلين. وعلى حد قول ليون بانيتا, كبير موظفي البيت الأبيض في عهد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون: (أحد مهام الرئيس الأمريكي أن يعمل واعظا (Chaplain) للأمة). وقد أدى الرئيس بوش ذلك الدور بكفاءة في اليوم المذكور, ثم قام بزيارة موقع مركز التجارة العالمي المدمر في نيويورك. ورغم أن الدستور الأمريكي يفصل بين الدين والدولة فقد اختيرت الكنيسة للاحتفال بذلك اليوم بصفتها (موقعا وطنيا رمزيا) ينصهر فيه الدين والحكومة والثقافة والعسكرية في بوتقة واحدة. وقد استغرقت خطبة الرئيس بوش سبع دقائق وكانت بأسلوب أقرب إلى الشعر منه إلى النثر, واتخذت طابعا دينيا, ذلك أنها ألقيت في قداس عام, إلا أنها تجاوزت ذلك إذ استخدم فيها كلمات وعبارات تدعو الأفراد إلى الاندماج في أمة موحدة ذات هوية قومية, وختم الرئيس بوش خطبته بقوله (حفظ الله أمريكا).

عنوان الفصل الثالث: (من الأخبار إلى التسلية: روايات شهود عيان), وفيه تقول المؤلفة إنه في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر نشطت وسائل الإعلام في عرض روايات أولئك الذين شهدوا ذلك (الهجوم على أمريكا) وخاصة من الناجين من العاملين بمركز التجارة العالمي ورجال الإطفاء والإسعاف. ولكن, ما العلاقة بين (الأخبار) و(التسلية)? تقول المؤلفة إن وسائل الإعلام التي غطت تلك الأحداث ركزت على ردود الأفعال الانفعالية والعاطفية للمشاهدين والقراء والمستمعين أكثر من تركيزها على الأحداث نفسها, أي أن التغطية ليست للأحداث نفسها بقدر ما هي للروايات الخاصة بها وما يتصل بها من أحاسيس ومشاعر. وجدير بالذكر أن كلمة (تسلية) هنا لا تعني أن محتوى التغطية ممتع بالضرورة - ومن المؤكد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليست كذلك - ولكنها تتناقض مع المعاني المختلفة لكلمة (أخبار). وأخيرا تشير المؤلفة إلى كيفية صياغة الأخبار التلفزيونية, من الخبر كمادة خام إلى الشكل المقدم للمشاهدين لإحداث الأثر المطلوب في عقولهم وقلوبهم.

الفصل الرابع يحمل عنوان: (نيويورك تصبح أمريكا - أمريكية): مما لا شك فيه أن نيويورك مدينة ذات طابع عالمي (cosmopolitan) تضم أفرادا من مختلف الدول والأجناس والأعراق, ولذلك ربما أصبحت نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر مدينة أمريكية قلبا وقالبا وذلك للمرة الأولى منذ أن نقلت العاصمة الفيدرالية منها إلى واشنطن العام 1790. وقد ركزت وسائل الإعلام على نيويورك مع إشارة بسيطة إلى الهجوم على البنتاجون (مقر وزارة الدفاع الأمريكية - رغم أنه هدف عسكري), وأصبح برجا مركز التجارة العالمي - وهما رمز نيويورك - رمزا للهجوم على أمريكا, كما أن (المدنيين الأبرياء), ضحايا تلك الأحداث - وخاصة رجال الإطفاء الأبطال الذين أظهروا شجاعة نادرة - هم من أبناء نيويورك.. ويناقش هذا الفصل الخطاب الإعلامي الذي يصور نيويورك كمدينة أمريكية خالصة, ويجعل من رودي جولياني, عمدة نيويورك, عمدة لأمريكا كلها. (وجدير بالذكر أن مجلة (تايم) الأمريكية اختارته شخصية العام 2001). وتشعر المؤلفة بحنين خالص لنيويورك, إذ هي مسقط رأسها ونشأت وتربت فيها, وتقول إن نيويورك فضلا عن ذلك هي مركز مالي وثقافي كبير, وربما لهذا السبب وقع الهجوم عليها.

بيع أمريكا

عنوان الفصل الخامس: (بيع أمريكا), وفيه تبحث المؤلفة توظيف اللغة في الترويج لأمريكا من خلال نوعين من الحملات: النوع الأول, بناء الأمة وترسيخ شعور المواطنة وحب الوطن والولاء له في نفوس المواطنين بحيث يقوم كل مواطن برفع العلم الأمريكي في كل مكان ويقول: (إني أمريكي وأفخر بذلك), مع التمسك بقيم التسامح والتنوع. والنوع الثاني خاص بحث المواطنين على شراء المنتجات الأمريكية وذلك بالجمع بين حب الوطن والنزعة الاستهلاكية في بوتقة سياسية - اقتصادية واحدة. ومن الإعلانات الطريفة التي ظهرت في تلك الفترة: (اجعل آلان جرينسبان (رئيس البنك المركزي الأمريكي) يشعر بالفخر... قم بشراء أي شيء).

في الفصل السادس وعنوانه: (المكارثية الجديدة) تذكر المؤلفة أنه مع تنامي الروح الوطنية وحب الوطن والولاء والانتماء له عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقع هجوم على منتقدي السياسة الأميركية, وخاصة من قبل (المجلس الأمريكي لأمناء وخريجي الجامعات) (ACTA), وهو مجلس محافظ قامت بتأسيسه السيدة لين تشيني, زوجة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني. ففي نوفمبر 2001 نشر المجلس تقريرا اشتمل على أكثر من مائة مثال على ما أطلق عليه الاتجاه القائل بأن (الخطأ يقع على أمريكا أولاً) المنتشر في بعض الجامعات الأمريكية. ويناقش هذا الفصل الحملة التي شنها المجلس المذكور وردود الأفعال إزاءها, ويركز التحليل اللغوي في جزء منه على بعض المغالطات المنطقية الزائفة.

الفصل السابع والأخير يحمل العنوان التالي: (تعليم أمريكا: دروس عن الإسلام والجغرافيا) وفيه تقول المؤلفة إنه نظرا لأن الذين قاموا بهجمات الحادي عشر من سبتمبر كلهم من المسلمين فقد اهتمت وسائل الإعلام بالإسلام كدين وبالعالم الإسلامي كمنطقة جغرافية تضم أكثر من مليار مسلم, خاصة أن الشعب الأمريكي معلوماته محدودة للغاية في هذا المجال. فقد أظهرت نتائج استطلاع رأي أجري في الولايات المتحدة بعد شهرين من تلك الهجمات أن 65% ممن استطلعت آراؤهم قالوا إنهم لا يعرفون شيئا عن الإسلام, وأن 66% منهم قالوا إنهم (قلقون من اندلاع حرب أكبر مع الإسلام), وربما يكون ذلك ما دعا وسائل الإعلام للخوض في هذا الموضوع والتعريف بالإسلام والعالم الإسلامي. وتقول المؤلفة إن ذلك التعريف ليس عبارة عن دليل سياحي عن المعالم التاريخية والأثرية والحضارية والثقافية في العالم الإسلامي, بل هو يركز على الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تهم الولايات المتحدة.

لقد حاول كتاب (الحرب الكلامية) وصف (المعارك اللغوية) وإبراز الدور الذي لعبته في توحيد الشعب الأمريكي ووقوفه جبهة واحدة ومتراصة خلف قيادته في مواجهة الإرهاب وذلك كرد فعل غاضب على هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي يرى الكثيرون - دون مبالغة أو مغالاة في القول - أن عالم ما بعد تلك الأحداث أصبح مختلفا إلى حد كبير عن عالم ما قبلها من شتى الجوانب - السياسية والعسكرية والأمنية - بل والاقتصادية والثقافية على حد سواء.

 

ساندرا سليبرستاين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات