رهابُ الإسلامِ الجديدُ

رهابُ الإسلامِ الجديدُ

لا يمكن اعتبار رهاب الإسلام نزاعًا دينيًا متجددًا بين الغرب والشرق, كما لو كانت مشاهد الحملات الصليبية والجهاد تتكرر دوريًا, إنه, إلى حد كبير, ردّة عنصرية, بل ردة علمانية من جانب المجتمع الغربي.

(رهاب الإسلام الجديد) كتاب وضعه فانسان جيسر, الكاتب المعروف بمناهضة التمييز ضد المسلمين في فرنسا, وتناول فيه أربعة محاور كبرى.

المحور الأول هو الربط بين الرهاب الاستعماري للإسلام, والرهاب الجديد للإسلام على أقلام قادة الرأي والمثقفين الإعلاميين بطريقة ظاهرة التناقض, فمع أن هؤلاء القادة كانوا من المدافعين بصلابة عن قضايا العالم الثالث, وتحرير الشعوب من الاستعمار, فإن مواجهتهم للظلامية والأصولية الإسلامية باسم الدفاع عن الحرية والعلمانية والديمقراطية يرافقها اليوم شيء من الرهاب الضمني للإسلام.

المحور الثاني هو محاولة أصحاب هذه النزعة الإنسانية إخفاء أيديولوجية الانطواء, التي تحرّكها الرهبة من الإسلام, وميل خطاب المثقفين الإعلاميين إلى الاقتراب تدريجيًا من خطاب الخبراء الأمنيين, الذين اكتسبوا عقب أحداث سبتمبر مكانة وطنية حقيقية.

المحور الثالث هو غزو الأيديولوجيا الأمنية للأوساط اليهودية (الملتزمة), التي ترى في تنامي المؤسسات الإسلامية خطرًا على هويتها كـ(ضحية), ونضال هذه الأوساط اليوم للاحتفاظ بوضع (الضحية الشرعية) للعنصرية.

المحور الرابع هو دخول رهاب الإسلام إلى بعض أوساط المسلمين (المعتدلين): فمنذ نهاية الثمانينيات, تميل النخبة العلمانية المتحدرة من المهاجرين المغاربة إلى استخدام رهاب الإسلام (وسيلة للنجاح) في الحقل السياسي, وفي المجالس التمثيلية للمسلمين في فرنسا.

مسئولية الصحفيين والمثقفين

ما مسئولية وسائل الإعلام في نشر رهاب الإسلام داخل المجتمع الفرنسي? منذ الثورة الإسلامية في إيران العام 1979, وخصوصًا منذ قضية الحجاب العام 1989, بدأت صورة المسلمين تأخذ طابعًا نمطيًا: أعداد كبيرة من المؤمنين مصوّرة من الخلف ظهورها محنية إلى الأمام, جموع متراصة تصرخ وتتوعّد, نساء محجبات...إلخ.

لكن الخطاب الإعلامي ليس واحدًا, ولا هو وحيد في الميدان, فهناك ثلاثة أو أربعة خطابات تحاول منافسته, وهذا يعني أن الإعلام لا يخلق رهاب الإسلام, ولكنه يؤطر المفهوم الشائع حوله من خلال اختيار المقالات والتحقيقات والصور الموجهة إلى القرّاء.

لهذا, فإن النقد الذي نوجهه إلى الصحافة في موضوع الإسلام, لا ينفصل عن النقد الذي نوجهه إليها في موضوع صناعة الخطاب الإعلامي عمومًا: غياب الاختصاص, غياب المتابعة, الرقابة الذاتية, إلخ... فالصحفيون الذين بذلوا جهودًا حقيقية في معرفة موضوع الإسلام, وجمعوا الوثائق, وحقّقوا في المعلومات, لا يتعدّون عدد أصابع اليد في الصحافة الفرنسية. كما أن تطور ملف الإسلام منذ الثورة الإيرانية, مرورًا بمأساة الجزائر وأحداث سبتمبر, وفي ظل التهديد المستمر لـ(الإرهاب الإسلامي الدولي), جعل معالجة هذا الملف تتم من خلال صورة الإسلاميين, وحوّل المسلمين العاديين إلى جنس في طريق الانقراض. فوسائل الإعلام تلبّي في الواقع طلبًا اجتماعيًا ضمنيًا: لا يطلب الناس معلومات عن الإسلام والممارسات الاجتماعية لأتباعه, بل تقريرًا عن مدى خطر عدوى (الإرهاب الإسلامي) وتسلله داخل الهيئة الاجتماعية.

نجد التطور نفسه في تصوير وسائل الإعلام للحجاب, الذي تكاد تجمع وسائل الإعلام الفرنسية على رفضه, خصوصًا المجلات السياسية الأسبوعية. فالحجاب, في المخيلة الإعلامية, ملازم لخضوع المرأة وغياب الحريات الفردية, ولكنّ شيئًا بدأ يتغيّر في هذه النظرة, لم تعد الفتاة المحجبة تصوّر دومًا كضحية لتسلط الأب أو الأخ, بل صار هناك ما يسمى بالعبودية الاختيارية, التي هي نتاج التزام شخصي, وبالتالي تعبير عن موقف متزمت يجعل من هذه الفئة من النساء فئة خطرة.

هل يوجد في فرنسا رهاب إسلام على المستوى الفكري, على غرار (العنصرية الفكرية), التي جرى الحديث عنها بين الحربين العالميتين? الجواب هو بالنفي. فليس في رهاب المثقفين الفرنسيين شيء من التسويغ الفكري, إنما هو جزء من الرهاب الشعبي. أما السؤال عن مسئولية المفكرين الفرنسيين عن نشر بعض الأحكام المسبقة حول الإسلام, فالجواب هو بالإيجاب دون شك. ولسنا نتهمهم بالعنصرية ضد الإسلام - فهذه صفة قلة قليلة منهم - بل نتهمهم بالخلط بين الإسلام ومظاهر بعض المسلمين العنيفة.

خبراء الخوف الجدد

بعد أحداث سبتمبر 2001 بدأت برامج التلفزة والإذاعة والندوات السياسية تدعو صنفًا جديدًا من المتكلمين, هم خبراء الخوف, الذين يستمدون شرعيتهم من الواقعية الأمنية. وقد تمكن هؤلاء الخبراء, من خلال تهميش كلام علماء الاجتماع والسياسة والإسلاميات, من أن يفرضوا أنفسهم كمراجع في موضوع الإسلام والإسلاميين.

أبرز هؤلاء الخبراء وأكثرهم إثارة للشك هو ألكسندر دلفال - واسمه الحقيقي مارك دانا - الذي جاء من دوائر اليمين المتطرف الوثني والغامض ليبني لنفسه موقعًا في الحقل الإعلامي. أصدر دلفال العام 1997 كتابه الأول (الأصولية الإسلامية والولايات المتحدة) دافع فيه عن نظرية اتفاق المصالح بين أمريكا والإسلاميين في العالم على ضرب أوربا, وهي مصالح استراتيجية (محاربة أوربا) وفقهية (الانجلوسكسونية البيضاء البروتستنتية wasp والأصولية الإسلامية أيديولوجيتان معاديتان للفكر القومي).

بعد أحداث سبتمبر, لم تتغير تحليلات دلفال لجهة خطر الأصولية الإسلامية, ولكنها تغيرت تمامًا لجهة الخطر الأمريكي, الذي اختفت كل إشارة إليه. وهناك تغيير آخر مهم, هو إسرائيل التي اعتبرتها كتابات دلفال الأولى بلدًا تابعًا لأميركا, فصارت بعد أحداث سبتمبر الضحية الأساسية لـ(الإرهاب الإسلامي), وبعدما برأ دلفال نفسه من معاداة إسرائيل واليهود, انطلق في نشر رهاب الإسلام تحت ستار التحليل العلمي.

ما كان لهذا الاتجاه أن يحقق نجاحًا لولا التطور الذي طرأ على الوسط الإعلامي, وحتى الأكاديمي. فما كان يعتبره هذا الوسط, قبل سنوات قليلة, نوعًا من التعصب الذي يطبع أوساط اليمين المتطرف, صار له نوع من الصدقية باسم الواجب نحو المجتمع, وصار على كل مثقف أو إعلامي أن يتحدث عن الإسلام والمسلمين بمسئولية, كي لا يعتبره الآخرون غبيًا أو مناصرًا للمسلمين, وهذا ما يفسر الحملة على علماء الإسلاميات الفرنسيين واتهامهم بقلة الحذر من خلال تأكيدهم تراجع الإسلام السياسي, وبالتالي تشجيعهم على تراخي السلطات الغربية أمام تهديدات (الإرهاب الإسلامي). هكذا أدت أحداث سبتمبر إلى تراجع النظرة العلمية للإسلام أمام نظرة شعبية يحملها صنف جديد من الخبراء, لا صلة لهم أحيانًا بحقل الدراسات الإسلامية.

اللاسامية الجديدة

ماذا يربط بين الزيادة الملحوظة في الحوادث اللاسامية في فرنسا ومظاهر رهاب الإسلام? قد يغرينا تشبيه الوجهين على طريقة إدوار سعيد باعتبارهما ظاهرتين تنطلقان من مركّب رمزي واحد, وقد استعار صموئيل هنتنغتون هذه الفكرة, فذكر أن (اللاسامية تجاه العرب في أوربا الغربية, قد حلّت بنسبة كبيرة محل اللاسامية إزاء اليهود). لقد تعددت الكتب, التي تتحدث عن العلاقة السببية بين (رهاب اليهود الجديد) وانتشار الإسلام في قطاعات واسعة من المجتمع, هذه اللاسامية الجديدة, يمكن إعادتها إلى مركّب مكاني - زماني ذي أربعة أبعاد: الذاكرة الإسلامية البعيدة المعادية لليهود, واللاسامية, التي تقود إليها معاداة الصهيونية, ونقل الانتفاضة الفلسطينية إلى الأرض الفرنسية, وأخيرًا المنافسة الرمزية بين المسلمين والطائفة اليهودية, التي يرونها قوية ومؤثرة.

هذا التفسير للاسامية يمكن إدراجه ضمن نظرة محافظة جدًا داخل المجتمع الفرنسي, تعبر عن نظام أخلاقي جديد غارق في الشعبية, يمكن تلخيصه بأربع ميزات: فهو يتهم النخبة بالتواطؤ لأسباب انتخابية, ويتهم الإعلام بالانحياز في عرض النزاع العربي - الإسرائيلي, ويتهم اليسار بالتعاطف مع الشباب العربي الإسلامي, وأخيرًا يتهم الإسلام بأنه ديانة مقفلة في وجه المواطنية والعلمانية لأن أتباعه لا يستطيعون الخروج من مفهوم الأمة.

مسلمون يعانون رهاب الإسلام

يشكّل رهاب الإسلام المعاصر ظاهرة شديدة التعقيد, لا يتم التعبير عنها بكلام مباشر (عنصرية ضد الإسلام) بقدر ما يتم بطريقة كامنة, تؤدي إلى تراكمات وآراء مسبقة وسوء فهم للإسلام والمسلمين. وما يعزز هذا الكمون, هو أن رهاب الإسلام ليس عبارة عن صراع ديني بين الغرب والشرق: فالمواقف المناهضة لأسلمة المجتمع الفرنسي, تنطلق من مفاهيم علمانية, تدافع عن الحداثة والكونية. ومما يدل على تعقيد هذه الظاهرة أيضًا, دعم ناشطين من المسلمين لها إلى حد يفرض علينا الاعتراف - وهذا مدعاة للمفاجأة - بوجود شكل من أشكال رهاب الإسلام يمكن تسميته رهاب إسلامي من الإسلام.

هناك ثلاثة أنواع من المسلمين الذين يعيشون رهاب الإسلام, والذين يتمتعون بحضور في الرأي العام الفرنسي. النوع الأول هم الناشطون في السياسة, الذين يمثلون دور الخبراء في الشأن الإسلامي داخل أحزابهم أو داخل الجمعيات الوطنية الكبيرة. النوع الثاني هم الناشطون في الثقافة والدين (من الجامعيين والمفتين والأئمة), المرتبطون إجمالاً بالدولة الجزائرية, والذين يناهضون الإسلاميين ليطرحوا أنفسهم أمام السلطات الفرنسية كممثلين شرعيين للإسلام المنفتح والليبرالي. أما النوع الثالث, فهم الناشطون في الإعلام الذين أطلقوا منذ بضع سنوات لونًا جديدًا من صحافة التحقيقات, هو ذاك الذي يقدمه المثقفون الجزائريون التائبون عن الشبكات الإسلامية الإرهابية في فرنسا والعالم.

إسلام معتدل... ومتطرف

لا يمكن اعتبار رهاب الإسلام نزاعًا دينيًا متجددًا بين الغرب والشرق, كما لو كانت مشاهد الحملات الصليبية والجهاد تتكرر دوريًا, إنه, إلى حد كبير, نتاج عملية (دنيوية) (عنصرية جمهورية على طريقة آرنست رينان), بل عملية علمانية يقوم بها المجتمع. أولاً, لأن رهاب الإسلام ليس ظاهرة شعبية وحسب, بل ظاهرة ثقافية وإعلامية أيضًا. ثانيًا, لأن الرهبة ليست من المسلمين العاديين, بل من الإسلاميين, بحيث يمكن القول إن الرهاب هو في الحقيقة إسلاموي (نسبة إلى الإسلاميين الأصوليين), لا إسلامي (نسبة إلى الإسلام أو المسلمين), وبحيث نجد مَن يتولى الصراع باسم المسلمين لإنقاذهم من أشكال الأصولية والظلامية التي تهدد العالم.

وهذا الصراع جذاب بطروحاته, وفقير بحججه, فالإسلاميون والإرهابيون الذين يتحدث عنهم المثقفون في الإعلام, والمتخصصون في الجغرافيا السياسية, والخبراء في الأمن, لا يصادفهم الفرنسيون في أعمالهم وعلاقاتهم اليومية. إن مشكلة هؤلاء المثقفين أنهم يركزون حملتهم على أشكال الظلامية الدينية من دون أن يلتفتوا إلى الإسلام المعيش. فكأن هذا الإسلام المعيش لا يعنيهم, إنما يعنيهم ذاك الإسلام المتخيل الاستيهامي, الذي يسمح لهم بقيادة حملة أيديولوجية.

تبقى مسألة العنف والإرهاب, التي لا يمكن تغييبها. فاعتداءات نيويورك وكراتشي وكازابلانكا ليست من خيال هؤلاء المثقفين الإعلاميين. إنها فعلاً أعمال إرهابية, نفذتها مجموعات تعلن انتماءها إلى الإسلام. وهذه الأعمال تفرض علينا طرح مسألة تسويغ الإسلام لاستخدام العنف لغايات سياسية. ولكن هذه المسألة المعقدة تفرض علينا أيضًا أن نرى اختلاف حال المسلمين في فرنسا والعالم. لقد طرح أحد الصحفيين في نيويورك أخيرًا سؤالاً على بطل العالم السابق في الملاكمة محمد علي: كيف تشعر أمام فكرة أنك تتقاسم الديانة نفسها مع هؤلاء الذين تعتقلهم وكالة المخابرات الأمريكية? فأجابه محمد علي: وكيف تشعر أنتَ أمام فكرة أنك تتقاسم الديانة نفسها مع هتلر?

ليست مقولة (الإسلام المعتدل), و(الإسلام المتطرف) عملية ولا مفيدة, لأنها لا تسمح بفهم النمو المقلق لشبكات الإرهاب على مستوى العالم. فهذه الظاهرة العنيفة, التي تربط نفسها بالإسلام, مازالت غامضة, وغموضها ينبغي أن يجبر الغرب على الابتعاد عن التبسيط وعلى تجاوز الأفكار المسبقة, والتمثيل النمطي للإسلام والمسلمين. ولكن هذه الظاهرة ومفاعيلها, ينبغي أن تجبرنا, نحن العرب, على أخذها بجدية, وتحليلها بدقة, وتحديد ما سيصيبنا منها خيرًا أو شرًا. هذه الظاهرة المنسوبة إلينا, لا نتحكم نحن بها, ولا ندري مَن يتحكم بها فعلاً, وأخشى أن تتجاوزنا الأحداث إذا لم نستعد الاستعداد المناسب للنتائج, ولعل أول خطوة في هذا الاستعداد هي أن نتحاور فيما بيننا لتحديد مصالحنا القومية, تمهيدًا لحوار حقيقي مع العالم, يؤسس لعلاقة سليمة وهادئة.

 

فانسان جيسر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات