مساحة ود

مساحة ود

رسالة إلى جدتي

(لم أعرف شعورًا تجاه أحد كالشعور الذي ينتابني نحوك), قال وحيد هذه الكلمات وسرحت أفكاره وذهبت ذكرياته به إلى موطنه, موطنه الذي لم يره منذ فترة بعيدة. كان قد أصبح طبيبًا في بلد أجنبي وحقق حلمه الذي كان يراوده منذ الصبا, وكان يرى نفسه مثل المتنبي - رغم كونه طبيبًا - في حبه لجدّته, فقد كان يحمل لها حبًا كبيرًا (لطالما آمنت بي وبقدراتي) تمتم بهذه الكلمات وقلبه يختلج من شدة الحزن (آهٍ يا جدتي كم اشتقت إليك, لقد كانت الأيام التي عشتها في كنفك أجمل أيام عمري. كانت أيامًا ملؤها البراءة والبساطة, خالية من تعقيدات الحياة, جدتي... آهٍ يا جدتي, إنَّ نفسي معذبةٌ جدًا, كم أحتاج لرؤيتك وكم أشتاق للحديث معك), أغمض وحيد عينيه محاولاً النوم, لكن دون فائدة (جدتي, سرقتني الأيام يا جدتي, لم أعد ذلك الطفل البريء, لم تعدصور الطفولة تبهجني, أتوق إلى تلك اللحظات الدافئةالتي كنا نقضيها معًا كعائلة, أغمض عينيه مرة أخرى واستغرق في التفكير, كانت جدته تمثل له أكثر من مجرد فرد من عائلته, كانت تمثل له الوطن, كانت تمثل له الطفولة, تلك الأيام السعيدة, بلا قلق, بلا خوف.

(تعود الآلام لتغرز في نفسي جبلاً من الألم, من الذكريات, من التوق إلى الماضي, أنا هنا في بلاد غريبة, بلا أهل, بلا أصدقاء, والصداقات التي أكونها لا تعدو أن تكون مجرد زمالةٍ أكاد أمقتها, جدتي أنا أعيش في دوامةٍ هنا, لا أحد يشعر بي, آهٍ كم أحتاج إليك يا جدتي) ندّت شفتاه وأفرجتا عن هذه العبارات ونفسه المعذبة تتوق للراحة. فتح عينيه, ذهب إلى المرآة لينظر فيها فرأى جدته تبتسم له فيها, راعه المشهد للحظات ثم ما لبث أن عاد إلى رشده, نظر إلى المرآة مرةً أخرى لكنه رأى صورته, حاول أن يتصوَّر جدته في المرآة من جديد لكنه لم يستطع, ضرب المرآة بيديه مراتٍ ومرات ولكنَّ صورة جدته ما عادت تظهر. أخذ يضحك بجنون ويرمي الأشياء من حوله ثم أخذ يبكي (ما هذا? ما الذي يحصل لي? هل فقدت عقلي? جدتي إنني أفقد عقلي خارج وطني, أود العودة, لكني لا أستطيع, جدتي... أريد أن أراك ولو لمرةٍ أخيرة في حياتي وبعدها لا أحفل إذا متُّ أو قطعت إربًا, أتوق لرؤية وجهك الباسم دومًا وضحكتك الصافية, أي جدتي, كم أشعر بالاستياء نحو نفسي حين أرى عجزي عن العودة, جلُّ ما أريده الآن هو أن أراك, كم أخاف أن أفقدك, تنتابني مشاعر غريبة حين أفكر في ذلك).

كان يحب جميع أفراد أسرته ولكنّ حبّه لجدته كان يعلو على ذلك الحب ويسمو فوقه, كان يكنُّ لها مشاعر خاصة, كانت شخصًا فريدًا من نوعه بالنسبة له.

ذهب إلى المطبخ ليحضَّر الشاي (الشاي.... جدتي الغالية.... كان الشاي الذي تعدينه ذا طعمٍ مميز لأنه من صنعك, ولا أعلم, قد تكون أمي هي التي حضَّرته آنذاك ولكني عندما كنت أشربه في بيتكم كنت أحسُّ له طعمًا آخر, طعمًا مميزًا مثلك تمامًا يا جدتي, شيئًا مميزًا).

لم يكن يدري ما نهاية هذه الأفكار, لقد جاءت فجأة ولم تعد تذهب, وكأنَّها آنست البقاء وطاب لها المقام. (هاجمت هذه الأفكار ذهني في لحظةٍ من اللحظات وما عادت تغادره وملأت كياني فلم تعد تفارقه ولم تعد بقية الأمور تشغل ذهني المثقل بآلام الفراق والبعد فغدوت كما قال المتنبي:

جرحت مجرحًا لم يبق فيه مكانٌ للسيوف ولا السهام


إلا أنّ أوجاع المتنبي كانت جسدية وأوجاعي التي تطاردني وتنهش فؤادي هي أوجاعٌ وجدانية, أوجاعٌ تمسُ ذلك الشعور الرقيق فيَّ, تمسُّ ذلك الطفل في داخلي.

كتب (عامر سعيد) تلك الكلمات والتي كانت الكلمات الأخيرة التي اختتم فيها روايته (جزءٌ من وطنٍ ضائع), حققت الرواية مبيعاتٍ كبيرةً بعد نشرها, ولكن بقي ذلك الجرح الغائر في صدر عامر والذي يبقى يذكره بأنه بعيدٌ عن وطنه, بعيدٌ عن جدته, ربما كانت محاولة منه - في روايته التي كتبها - ليعبّر عن مشاعره الدفينة ويتشاطرها مع الناس, ربما من يدري??!!.

 

محمد أحمد حجو