طفلي والتلعثم

طفلي والتلعثم

تنزعج الأمهات كثيرا لوجود التلعثم لدى أحد أطفالهن, ويتساءلن: لماذا لا يتكلم طفلي مثل بقية إخوته وأقرانه? وهل يعكس هذا أحد عيوب السمع? أم نتيجة أحد أمراض التخاطب? ثم ما الأسباب الحقيقية لحدوث التلعثم?

تبدأ لغة الطفل بالصراخ مرورًا بالحروف والتقليد الذاتي, ثم استخدام الكلمات سواء في الكلمة المفردة أو تكوين جملة من بعض كلمات, وهكذا تتطور لغة الطفل من استعمال الإشارة إلى اللغة الكاملة.

ولتحقيق انسيابية النطق بعد التأكد من سلامة الجهاز العصبي المركزي, لا بد أن نتأكد من عدم وجود مشكلة سمعية لدى الطفل ويمكن اكتشاف هذا مبكرًا إذا لم يلتفت المولود إلى الاتجاه الذي يأتي منه الصوت, أو لم يصدر رد فعل للصوت. كما أن عدم نمو المهارات الكلامية للطفل في أوانها المتوقع يستدعي منا فحص الجهاز السمعي والتأكد من سلامته قبل التطرق للحديث عن أي شيء آخر. فمن المتوقع في عمر السنتين أن يكوّن الطفل جملاً من كلمتين, وفي سن ثلاث سنوات نتوقع منه تكوين جمل من ثلاث كلمات تزداد إلى أربع كلمات في سن الرابعة.

كما يمكن ملاحظة أي خلل في الجهاز السمعي بسهولة إذا دأب الطفل الأكبر سنًا على رفع صوت جهاز التلفزيون على سبيل المثال للمتابعة. ولابد من أن تعرف الأم أن تطور اللغة يتوازى تمامًا مع تطور الفهم والإدراك العقلي عند الطفل.

ونطق الطفل يكون متوقعًا من الشهر التاسع وبصورة غير مفهومة إلا لدى أمه, مع استمراره في التدرج للوصول إلى النطق السليم لبعض الكلمات في محاولة لنوع من التواصل الفعال من المحيطين به في منتصف العام الثاني.

وقد أجمع علماء طب الأطفال في هذا الصدد أن العامين الأول والثاني من عمر الطفل هما الحقبة المناسبة لتخزين وتلقي المعلومات, ومع نهاية العام الثاني تبدأ مرحلة المشاركة الفعلية للطفل والتي تنمي الاختلاط والتحفيز مع ضرورة عمل اختبارات السمع في الأطفال الذين تتأخر مهارات الكلام لديهم. إلى جانب أهمية فحص أجهزة النطق عند الطفل والمتمثلة في اللسان والفم وعضلات الوجه وشكل الشفاه والفك.

ويعتبر التلعثم أكثر عيوب النطق شيوعًا وتتراوح نسبته في معظم الإحصاءات من (1 - 3 في المائة) في أطفال المدارس. وهي نسبة تتطلب عناية القائمين على رعاية الأطفال سواء في مجالات الطب أو التربية, لأن مثل هذه العيوب إن لم تعالج في الوقت المناسب فقد تؤدي إلى عواقب وخيمة في نفسية الطفل حيث يتعرض لسخرية زملائه لعدم قدرته على استخدام اللغة بطلاقة مما يجعله يؤثر الوحدة وينزوي عن أقرانه ويترسب في أعماقه من السلبيات ما يجعله عرضة للمرض النفسي في المستقبل.

وعلى الرغم من التقدم الهائل الذي تشهده أفرع الطب المختلفة في الوقت الراهن, فإن الأسباب والعوامل المؤدية لحدوث التلعثم لم يصل فيها الطب لرأي قاطع بعد, وإن كان الأطباء قد أحرزوا نجاحًا كبيرًا في الكشف عن الكثير من خفايا هذا الموضوع.

الذكور أكثر من الإناث

فالتلعثم يأخذ مجراه غالبًا في بعض الأسر, ويشيع أكثر في الأطفال الذكور.

وعلى سبيل المثال فإن محاولة تغيير عادة استخدام اليد اليسرى لدى بعض الأطفال واستبدال اليمنى بها, يؤدي إلى البدء في ظهور التلعثم لدى هؤلاء, ذلك أن الجزء الخاص في المخ المسئول عن التحكم في الكلام يتصل اتصالاً وثيقًا بالجزء المتحكم في حركة اليد المفضلة في الاستعمال.

وبناء على ذلك يؤدي إرغام الأم لطفلها على استعمال اليد الخطأ (أي التي لا يفضل استعمالها) إلى إرباك الجزء العصبي المسئول عن التحكم في الحديث والكلمات الموجودة في المخ وإلى ظهور التلعثم بالتبعية.

وهناك بعض الأطفال لا يبدو عليهم التلعثم إلا عند الإثارة والتوتر فقط. وبوسعنا أن نسوق بعض الأمثلة هنا للملابسات المؤدية إلى ظهور التلعثم:

  • فالطفل الصغير يبدأ في التلعثم بعد عودة أمه إلى المنزل عقب الولادة في المستشفى, لرؤية أخته الرضيعة تشاركه حنان الأم.

والطفل لن يبدي هنا غيرته من أخته الرضيعة بصورة ظاهرة, ولكن اهتزازه للموقف الجديد سوف يسلبه الراحة والسكينة ويزيد من توتره.

  • والطفلة ذات الأعوام الثلاثة يظهر عليها التلعثم فجأة بعد رحيل أحد الأقارب المحببين للأسرة وذلك لشغفها الشديد وتعلقها الكبير به على مر الأيام الطويلة السابقة لرحيله.
  • وحين تنتقل الأسرة للإقامة في منزل جديد, يلح الحنين للمكان القديم المعتاد على قلب الطفل الصغير ثم يبدو عليه التلعثم.
  • وقد يبدأ التلعثم في الظهور على الطفل حين يغير الأب من عاداته فجأة ويلجأ إلى نظام جديد أكثر شدة وحزمًا على خلاف ما اعتاده منه طفله.

وتشيع ظاهرة التلعثم إلى حد كبير بين سن الثانية والثالثة, ويوجد تفسيران محتملان لذلك:

أولاً - محاولة التحدث: ويمكن أن نتبين أثر القلق النفسي وانعدام الأمن عند الطفل من ردود أفعاله وانفعالاته أثناء محاولة التعبير عن نفسه بصورة أكثر وضوحًا من ذي قبل. فهو عندما كان أصغر سنًا من ذلك كانت الجمل التي يستعملها جملاً قصيرة لا تحتاج إلى تفكير ولكن الأمر صار الآن مختلفًا, فهو يحاول تكوين جمل أطول ليعبر عن أفكار جديدة لم يسبق أن تطرق إليها, وهنا نلاحظ أنه يبدأ تكرار الجملة ثلاث أو أربع مرات, ويتوقف متلعثمًا لعدم قدرته على العثور على كلمات صحيحة مناسبة تفي بما يريد التعبير عنه.

ثانيا - يساعد أيضًا على انتشار التلعثم في هذه السن انشغال الأم عن طفلها لوقت طويل وانصرافها عن محادثته مما يقوي لديه الشعور بالإحباط والألم لفشله في جذب انتباه سامعيه والتأثير عليهم.

وقد أشارت كثير من الأبحاث الطبية إلى أن القلق النفسي الذي يمثل أحد الأسباب الرئيسية للتلعثم في الأطفال يرجع إلى المغالاة والإسراف في تدليل الطفل أو إيثاره عن إخوته, أو احتياج الطفل المستمر للعطف والرعاية والاهتمام وافتقار كل ذلك أحيانًا نتيجة أنماط الحياة العائلية التي يسودها الشجار ويشيع فيها الشقاق أو الانفصال مما يفقد الطفل الشعور بالأمان.

كما لوحظ أيضًا أن ضعف الأداء الدراسي والإخفاق في التحصيل المدرسي قد يسبب التلعثم عند بعض الأطفال, خاصة مع اقتران ذلك بعوامل تربوية مدرسية ومنزلية غير صحيحة.

ولابد قبل التطرق إلى ما يجب القيام به تجاه ظاهرة التلعثم, أن تدرك الأم أن هناك نوعين أساسيين من التلعثم:

أولهما: التلعثم الواضح الذي يصفه أطباء التخاطب بأنه فقدان الطلاقة في الكلام, ويأخذ أشكالاً مختلفة مثل التكرار لكلمة معينة أو التردد بما يعني وقفات مستمرة للطفل أثناء الكلام, أو المد والإطالة لكلمة معينة, بالإضافة لأشكال أخرى كثيرة أهمها, عدم إكمال الجمل ومشاكل التنفس في شكل الشهيق الذي يصاحب عملية النطق. إلى جانب الحركات الإيمائية أو عدم تركيز بصر الطفل وانصرافه عمن يحدثهم.

وثانيهما: ما يطلق عليه علماء التخاطب التلعثم الخفي أو غير الظاهر ويرتبط بمشاعر وأفكار الطفل مثل أن يتجنب الحديث في المنزل, أو أمام أحد الضيوف أو في التلفون وإيثار الانعزال مما يعكس صورًا مختلفة من شعور الطفل بالتوتر وعدم الأمان.

وإجمالاً يمكننا أن نقول: إن أسباب التلعثم قد تكون ناشئة عن أسباب عضوية مثلما يتعلق بمركز الكلام في المخ, أو التأخر في استيعاب الكلام المنطوق, أو وجود قصور في أحد أجهزة السمع أو النطق, أو أسباب نفسية مع عدم وجود أي خلل عضوي. وقد ينشأ التلعثم نتيجة تداخل أكثر من عامل من العوامل السابقة وتفاعلهم مع بعضهم البعض تأثرًا وتأثيرًا.

ما العمل?

إن غالبية الأطفال الذين يبدأون في ظاهرة التلعثم ما بين العامين الثاني والثالث من أعمارهم سرعان ما تزايلهم هذه الظاهرة خلال أشهر قليلة من بدايتها, وتلك هي القاعدة الأساسية في معظم الحالات. ولذا أود أن أطمئن الأمهات إلى أن استمرار التلعثم هو الاستثناء الضئيل, أما القاعدة فهي الشفاء التام منه, ومن هنا, فإن على الأم ألا تحاول تصحيح كلمات الطفل ما بين الثانية والثالثة وألا تنزعج خلال تعلم الطفل للكلام عندما يبلغ منتصف عامه الثاني.

ماذا تفعل الأم?

  • على الأم أن تبحث جيدًا عن الأسباب التي تثير طفلها وتجعله متوترًا تفاديًا لوجود التلعثم.
  • إذا لاحظت الأم أن الطفل ينتابه القلق والاضطراب نتيجة انفصالها عنه أو انشغالها لعدة أيام, فعليها أن تتجنب هذا الانفصال في الشهور التالية.
  • على الأم أن تراعي عدم الإسهاب في الحديث مع الطفل خلال تلك الفترة أو دفعه إلى الكلام, لأن ذلك لن يجدي في العلاج حينذاك.
  • بدلاً من أن تتكلم الأم مع الطفل عن الأشياء المختلفة سوف يكون مجديًا أكثر أن تلاعب الطفل باستعمال هذه الأشياء, وهي تحاول أن تزيد بالتدريج من ذخيرته اللغوية.
  • عندما تلمس الأم استعدادًا واضحًا وقابلية ملحوظة لدى طفلها للعب مع سائر الأطفال, فعليها أن تتيح له الفرصة لذلك وأن تحضر له كل اللعب اللازمة.
  • وحين يتحدث الطفل إلى أمه فعليها أن تعطي للطفل كل انتباهها, وتشمله باهتمامها ولا تنصرف عنه إلى شيء آخر, لكيلا لا تجعل الطفل في حالة شوق ظامئ وحماس عارم للحديث, بينما هي متجاهلة حديثه, لأن ذلك من شأنه أن يصيبه بالمرارة ويسبب له حالة أليمة من الشعور بالإحباط وخيبة الأمل مما يؤدي إلى تلعثمه.
  • وإذا كانت غيرة الطفل من أحد أخوته تسبب له التلعثم, فعلى الأم أن تتغلب على ذلك بأن تغمر الطفل بمزيد من الحب والحنان والاهتمام والرعاية, مع إشعاره المستمر بأهميته ومكانته.

وأخيرًا أود أن أؤكد للأمهات مطمئنًا أن التلعثم في أغلب الأحوال ليس سوى حالة عابرة لا تستغرق سوى بضعة أشهر وتزول بزوال المؤثر, إلا بعض استثناءات قليلة تطول فيها مدة التلعثم, وقد يحتاج الأمر هنا إلى استشارة الطبيب في طرق العلاج.

 

أحمد الشرقاوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات