ملف: شوقي بزيع.. الذات / المعرفة / الكونية

ملف: شوقي بزيع.. الذات / المعرفة / الكونية

شوقي بزيع: الذات / المعرفة / الكونية

إن مقاربة أي نص شعري عربي حديث أو معاصر، تقتضي عودة إلى المدونة الشعرية العربية الحديثة التي برحت مداراتها المألوفة منذ الثلث الأول من القرن الماضي، وشوقي بزيع ليس مقطوعًا عنها، بل هو يحاورها وبداخلها في غير قصيدة من قصائده، وهو المطّلع عليها اطلاعًا جيدًا. أقول هذا رغم أن مقاربتي لا تنضوي بأية حال إلى «تاريخ الأدب». ومثل هذا «التاريخ» مسألة خلافية عند المعاصرين، ولم يعد من السائغ السير في ركابه، مهما تحوّط له صاحبه, إذ من شأنه أن يحجب عنا تفرّد النص أو فرادته، وتلك خسارة يصعب أن يُعتاض عنها، وربما لا غرابة في ذلك، فكثيرًا ما تتعايش في الحقبة نفسها، جماليات شعرية مختلفة أحيانًا إلى حد التباين بالجملة، جنبًا إلى جنب.

كان لابد إذن أن أسلك إلى هذا الشعر من باب خلفي: أن أمسك بالخيط الذي ينتظم نصوصه. ولكنه لم يكن أكثر من خيط العنكبوت نسّاجة النجوم، لعلي لم أمسك إلا بشكل تواريها. ومن ثم كان علي أن أتنسّم ضوءها الداخلي أو ما كان يتهيأ لي أنه ضوء:

أعني الوعي لجمالي بالحاضر، غير أني لا أستخدم هذا المفهوم البودليري, بمعناه الحرفي، وإنما أضيف إليه «الإيقاع» من حيث هو الحضور نفسه حيث المدلول ينهل من دال لا ينضب.

وأقصد تحديدًا إيقاع الصورة من حيث هو حادث يقع في الأثر وبه، وليس وزنًا منتظمًا ولا هو زمن مجسّد «موضّع» Objective أو «متحيّز» Spatialise منحصر في موضع من النص دون آخر، حتى يمكن القول إنه يتكرر أو يتعاود، ومن ثم يتسنى لنا إدراكه، بل لعل الأصوب أن نقول إنه ينضوي إلى إحساس يسبق فعل الإدراك. ومن هذا المأتى ذهب بعض المعاصرين إلى أن «الفن هو حقيقة المحسوس، لأن الإيقاع هو حقيقة الإحساس». وإذا كان ذلك كذلك، فإن الإيقاع يثبت لأي نوع من الإدراك الصوري، ولا يمكن بأي حال أن نحوزه فضلاً عن أن نقيسه. فهو يتصل بكل عنصر من عناصر الجملة ويلابسه ملابسة، فهو جرسه الصائت ومعناه المجرّد في آن: يحلّ حيث تحلّ اللفظة، ويجري حيث تجري الجملة، ويتوقف حيث تتوقف الفاصلة، أي هذه الحروف المتشاكلة في المقاطع التي «لا تخضع للضرورة» بخلاف القافية. ومن هذا الجانب فإن الإيقاع قائم في تآلف الحروف في النغم وفي انتظام الجمل، مثلما هو قائم في الفواصل واطّرادها وتغيّرها من نسق إلى آخر. وهو، بعبارة مجازية، «في دوّامات الماء وليس في جريان النهر». ولذلك يظل عصيًا على الحد، فقد نلمّ بشروطه الفيزيولوجية والفيزيقية الملازمة لظهوره وتحوّلاته وزواله. ولكن هذا كله لا يحد الإيقاع في ذاته، والذين يزعمون إمكان حدّه إنما يخلطون بينه وبين الوزن.

أما إذا ميّزنا الإيقاع من الوزن وحرّرناه - وليس لنا إلا أن ننحو به هذا المنحى - فقد لا نجد له في العربية أفضل من مصطلح «النظم» بالمعنى الذي استتب له في مباحث الإعجاز، وبخاصة عند عبدالقاهر الجرجاني.

والنظم إنما هو صورة اللغة وهي تتأدى بطريقة فنية مخصوصة، وتحمل في فعل نشوئها حيث تتجلّى، لحظة بداءتها. وهذه اللحظة لا تتعلق بالكلام وإنما بالكلم أو بـ«الخطاب» إذا أردنا، وهو يصنع جزءًا جزءًا بين الأثر وهي تكون. والقاعدة هنا واضحة جلية - على نحو ما بيّن عبدالقاهر - ففي أثر فني كالقرآن أو هذا الشعر الذي نحن فيه، ليس ثمة من عنصر حرفًا كان أو صوتًا أو جرسًا أو كلمة، لا ينضوي إلى فضاء النظم الكليّ. والنظم - بهذا المعنى - هو فعل الشكل بعينه أي الفعل الذي يتشكّل به وفيه شكل ما. ولذلك يمكن أن نعدّه الإيقاع نفسه، لأن الإيقاع ليس قاعدة خارجية يخضع لها الشكل الشعري، أو يمكن استنباطها من هذا الشكل، وإنما هو تكوّنه أو تولّده الذاتي Autogenese. الإيقاع في النظم والنظم في الإيقاع، وهو أبعد من أن يكون خطًا مستقيمًا يحدّد وجهة اتجاه ومقدوره، إذ لا يكون إلا وهو يفتتح سبيله إلى تكوّنه الخاص، بحيث لا يمكن تعيينه أو إحصاؤه، مادام يبتدع نظامه في كل لحظة من تكوّنه. وهذا ما يجعله يستعصي على أي نوع من الإدراك الصوري، إذ تتضافر فيه الكتابة والتعليق، تعليق الكلم وهو يتحرك في خطه الخاص ويتشكل ويعلق بعضه ببعض، في تحوّل دائم. وربما وهمنا بسبب من القافية في هذا الشعر، أن لا تحوّل، وإنما عودة الشيء عينه (الهو-هو). وهو فعلاً وهم وانطباع خادع، فثمة عودة لا شك، ولكنها عودة متحوّلة تقع في «زواج الزمن» وحركة الكل في الكل التي لا يقر لها قرار. وكأن قدر الإيقاع - النظم أن يترجح بين حدّين أو طرفين: فلا هو يسكن أو يهمد ولا هو يتبدد أو يتشتت، بل هو لا يمكن إلا أن يقع في ما وراء الظواهر الفيزيقية وعناصرها المؤسسة.

ومن المعاصرين من يذهب إلى أن الإيقاع في معناه الدقيق «ميتا-فيزيقي». وبما أنه «نتاج» فإن المفهوم والحدث واحد لا ينقسم. وكذلك شأنه من حيث هو تلفظ الزمن بالزمن تلفظًا وقتيًا، فإن النفسي والمعيش فيه واحد أيضًا.

كثيرًا ما يقال إن الشعر فعل لغوي، أي هو فعل باللغة في اللغة. وهذا التعريف - ولئن عدّ تعريفًا حداثيًا - يحتاج إلى الاختبار: فاللغة ليست في حد ذاتها شعرًا، ويترتب على ذلك أنه لا اللغة التي يفعل بها الشاعر هي الشعر، ولا اللغة التي يفعل فيها هي الشعر أيضًا. إنما الشعر هو فعل الأولى في الثانية، أي هو الأولى فاعلة، والثانية مفعولة معًا، أو من حيث اللغة تكون في الآن ذاته فاعلة مفعولة. لكن يضاف إليها ههنا مصدر الفعل أي الشاعر.

إذا صحّ هذا الافتراض، كان لابد عندئذ من استدعاء الذات باعتبارها صاحبة الفعل. لكن على أي نحو يتم استدعاء مقولة الذات في هذا الشعر الذي نحن بصدده؟ لعل ما يسوغ سؤالًا كهذا أو طرحًا كهذا، هو كون الذات تمثّل على أنحاء عدة: تمثل حدًا معرفيًا لعلاقة الشاعر بالعالم وبالآخر، وتمثل كيانًا بسيكولوجيا يميّز فردًا أو جماعة، وتمثّل هوية (توظيف التراث).

وقد لا نماري في أنه على رأس هذه الأنحاء يبرز الحد المعرفي الذي يخص الذات بقدرة على الوعي تخصيصًا، بما يعد من أظهر الأمارات الدالة على تدشين الشاعر أفق حداثته، وعلاقة الذات بمنجزها اللغوي ضمن دائرة الشعر، عند شاعر يعي جيدًا مشروعه الشعري «انظر مثلا ظاهرة الشعر على الشعر عنده، أو ما نسمّيه الخطاب الواصف»، بالرغم من أن هذه العلاقة ليست منوطة فقط بما تنطوي عليه الذات من قدرة على الوعي، فذاك شأن المنجز اللغوي المفهومي في الفلسفة مثلاً، أو حتى في كثير من فروع العلوم الإنسانية بما فيها النقد الفني أو النقد الأدبي. إنما هي علاقة منوطة عند شوقي بزيع، بذات محمولة على حد الوعي، وبتعبير أدق على حد الإدراك. وعلى كل فليس من مشاغلنا في هذه المقاربة الذات التي تنهض بتأسيس المفاهيم (مفهوم الشعر عنده كما نستشفه من شعره)، وإنما الذات التي تتولى فعل الإدراك.

ولابد من الإشارة هنا إلى أننا نصدر عن التمييز الذي يجريه جيل دولوز بين ثلاثة أنماط من الخطاب، حيث الخطاب الفلسفي معقود على التوسل بالمفهوم، فيما الخطاب الفني معقود على التوسل بفعل الإدراك، والخطاب الديني معقود على الانفعال أو الوجدان.

إذن على ضوء هذا التحسس الأولي لمدلول الذات، نحاول أن نتأول التجربة الشعرية عند شوقي بزيع، ضمن سياق تداخلها مع المعرفي باعتبارها سياقًا يفضي بها أو يمكن أن يفضي إلى أفق من آفاق الكونية. وربما وجب أن نشير - لاجتناب أي لبس - إلى أننا لا ندرج هذا التأويل ضمن السياق الرومنطيقي، بمعنى أنه يتعين اجتناب المغالطة التي يمكن أن يقود إليها استعمال مقولة الذات، فنتصوّر أننا إزاء تجربة شعرية تنخرط ضمن الأفق الرومنطيقي بوصفه معقودًا على حضور مكثّف للذاتية، بسبب من غنائية شوقي التي قد تلوح مفرطة أحيانًا.

ولمثل هذه المحاذير أحلنا على التمييز الذي يجريه دولوز بين المفهوم والإدراك والانفعال. والذات الرومنطيقية إنما هي ذات انفعالية، ولذلك يمكن اعتبار الأدب الرومنطيقي أقرب إلى معنى الديانة (هذا رأي نجازف به ولا ندّعي له الوجاهة حتى نختبره)، في حين أن الذات في فضاء هذا الشعر ذات إدراكية. إن مسألة الذاتية تظل شرط إمكان المشاركة في كونية الشعر، باعتبارها مشاركة تقتضي إسهامًا معرفيًا، وقد أشرنا إلى أن الذات حد معرفي. على أن المعرفة في السياق الذي نحن به مذوّبة في خطاب شعري أو هي متمثلة على نحو جمالي، حتى لا ينحرف الفهم إلى اعتبار الخطاب الشعري عند شوقي بزيع، مجرد قناع لمضمون معرفي، أو فلنكنّ عن حضور المعرفة شعريًا، بالنسغ الطري الذي يملأ شرايين قصيدته.

إننا نستعمل مقولة «الكونية» ضد مقولة «العولمة»، فالأولى - في تقديرنا - أفق محمود يجدر بالإنسان أن ينخرط فيه، والكونية قيمة إنسانية تتناسب وثراء الوجود الإنساني أو غناه، لأنها لا تلغي الاختلاف والتعدد، بل تسعى إلى إدماجهما في سياق من التناغم، فيما العولمة، على نحو ما يصرّفها أهل السياسة وتقنيو الاقتصاد العالمي تقوم على المجانسة والتنميط ومحو تاريخ طويل صرفت فيه الشعوب حياتها وأفنت مصائرها من أجل إغناء تنوّعها وتطوير اختلافها، وخلافها أيضًا.

وهو ما ينبغي التصدي له، ولكن ليس ضمن فضاء العولمة بل ضمن فضاء الكونية الذي لا يحوّل الاختلاف إلى خلاف وإنما يجعله شرط إمكان الحوار.

وباختصار، مخلّ لا ريب، فإن الكونية أفق وجود والعالمية استيطان مقنّع في أرض الآخر. والشعر، لعمقه الأخلاقي (الأخلاق باعتبارها قيما إنسانية تدور مدار الحرية والمراهنة على السعادة وليس من جهة كونها آداب سلوك)، لا يسعه إلا أن يكون صديقًا لمقولة الكونية، وهو الذي تنهض به ذات إدراكية تنخرط في ما يمكن أن نسمّيه علاقة «تذاوت» مع موضوعات إدراكها.

وهذا من شأنه أن يستدعي ما يسمى الوظيفة المؤسطرة للأدب. على أن ننظر إلى الأسطرة ههنا، لا من جهة صلتها بالجانب العقدي من الأسطورة، وإنما من جانب «التجسيد» أو «الإحيائية» أي إضفاء خصائص الكائن الحي المريد والمالك لقصدية ما (وهو الإنسان دون سواه على حد علمنا إلى الآن..) على كائن أو شيء لا يتوافر على هذه الخصائص. وبعبارة أخرى فإن ما يجري داخل القصيدة حوار بين ذاتية الشاعر وذوات أخرى، قد تكون كائنات بشرية أو حيوانات أو أشياء خرساء، أو حتى علامات لغوية، وهذا التذاوت هو الذي يضاعف العالم ويفتح باستمرار أفق المعنى. وقد يكون من المفيد أن نتذكّر دائمًا أن هذه الذات تظل كيانًا لغويًا.

ولا يخفى أن شوقي من الشعراء العرب القلائل الذين يعرفون كيف يستلهمون الأسطورة ويجعل للعمل الشعري مكانة تكافئ مكانة الأسطورة.

ولا غرابة فـ«الشعري» يقاسم «الأسطوري».

غير أن الأسطوري يفلت بحكم قاعة «الحلمي الطوباوي» من سطوة التاريخ، ولكنه يغالب أي غياب للمعنى أو الدلالة. على حين أن الشعري، وبخاصة في نماذجه الحديثة المتميزة، ينشد المعرفة أكثر مما ينشد المعنى، أو هو مصدر من مصادر المعرفة وليس موضوعًا من موضوعاتها. ولعل هذا ما يجعله على وشيجة بالعلم، وإن كان العلم يستخدم لغة المفاهيم وليس لغة الرموز.

والأسطورة إنما تبني لنفسها حضورًا كليًا أو زمنًا خاصًا هو مثل زمن الشعر الذي يندّ عن أي ضبط أو قياس.

على أن ما ينبغي التنبّه إليه أن الرمز عند شوقي وعند كل كبار الشعراء، يتأدى في سياق لعبة مخصوصة هي لعبة المفارقة: فهو يحيل على شيء آخر، ويحجب في اللحظة ذاتها على موضوع إحالته، ومن ثم يتمثل أبداً دلالته الخاصة أو هو لا يبرح بنيته، أو أن وظيفته تنشئ في حيّزها موضوع إحالتها إنشاء ليتنزّل في الصميم منها، فإذا كنهه من كنهها ودلالته من دلالتها.

ولعلّ خير مثال لذلك «قصيدة القناع» عنده، وهي التي تشكّل نمطًا شعريًا «مألوفًا» في المدونة الشعرية العربية الحديثة، يقوم على الرمز. والرمز لا يكون إلا إذا انفصل عن ذاته، وتقوّض لكي يعاد بناؤه من حيث هو رمز ذو وجهين: وجه الدال ووجه المدلول اللذان يتمثلان «رمزًا فوقيًا». فالقناع واحد وثنائي في ذات الآن: هو واحد من حيث انشداده إلى دال (تاريخي أو تراثي). وهو ثنائي من حيث إن مدلوله يستدعي دالاً ما آخر (من الحاضر).

ومهما يكن، فنحن نقف في تجربة شوقي بزيع على شعرية ذات رأسين، أو هي تطل في اتجاهين اثنين: اتجاه منشدّ إلى «المعنى» وإلى مواثيق الكتابة وتقاليد القراءة حيث النص يجسّم موضوعًا أو يستنطق فكرة، واتجاه يجعل أساس الكتابة الانسياح اللغوي والاسترسال الخيالي الذي لا منطق له إلا منطق النص من حيث هو نشوء وتكوين، أو حركة حرة قد تترجم في جانب منها انطواء الذاتية الشعرية على نفسها، كما هو الشأن في أكثر نماذج الشعر الحديث.

ولكنها، وهذا ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار، حرية إيجابية تجعل من الشعر فعلاً ينتمي إلى الشاعر، وليس مجرد مفردة من مفردات الثقافة أو التاريخ.

(انظر مثلا أشجار شوقي بزيع)

الزنزلخت

برهافة امرأة يداهمها النعاس على الأريكة
يستقل الزنزلخت جذوعه التعبى
ليلتمس الإقامة تحت شمس خائرة
مغرورقًا أبدًا بما ينسابُ
من عرق الجباه على الحنينِ
وما يفيض عن المنازل من نفاياتِ
ومن تعب السنين الجائرة
يغضي على نزواته
كفتى طريّ العود داهمه البلوغُ،
ويستبدّ بروحه حينًا جموح صارخ
لتلقف الشهوات
من أوكارها الأولى
.. ثم يدرك أنه، كبقية الأشجار
محض تطلّع أعمى إلى جسد الحياة،
فيستعيد هدوءه الدهريّ
منطويًا على أغصانه الخجلى

السنديان

هو أكثر الأشجار تعويلاً على ما فات،
عكّاز الطفولة
والثغاء الأوليّ لماعز الماضي
ولا تحتاج غصته إلى برهان
لنراه تلزمنا مناديلٌ تلوّح من بعيد
للسواقي البيض،
أحلامٌ لتبديد المخاوف
حول موقده الأليف

وعدة لتسلق السنوات حين نشيخ كالأمثال في مثل هذه القصائد وغيرها مما لا تتسع له هذه الورقة، نلاحظ كيف يبرع شوقي بزيع في المزاوجة بين تعبير كنائي (رمزي) وتعبير استعاري، فالشجرة رمز على قدر ما هي صورة تعقّد أساسًا على التكثيف اللغوي حتى ليكاد المعنى يلتبس ويخفى ويُمحى، وربما تردد منه صدى، هو كخطف النبض في صور بصرية رمزية تنهض على إدراك حسّي، حيث ينوب شيء عن شيء، أو يتمثل شيء شيئًا آخر في سياق حوار صامت بين الإنساني وعالم النبات. وهو على ما يبدو صورة للجسد، أو أن الجسد صورة منه أو امتداد له، فليس ثمة حد بينهما أو فاصل، وإنما «تداخل بالمطابقة» قد يحمله القارئ على وجه استعاري أو على تطابق بين صورة وتخيّل، أي بين وحدة لغوية ووحدة نفسية كما كتبت مرة عن مثل هذا المنحى الجمالي في الشعر الحديث. على أنه - في تقديري - «هوية عناصر» تشجّ الصلة بين عالم الجسد وعالم النبات على نحو ما تكون وشائج القربى بين الناس. فالشجرة، في هذا السياق، أقرب ما تكون إلى «شجرة النسب» في ثقافة العرب الأقدمين من حيث هي رمز قرابة لا بين الأحياء فحسب، وإنما بين الأحياء والموتى أيضًا. أو هي تغرز الكائن في الأرض وتفسح له مكانًا متميزًا في غابة البشر.

وههنا يتسنى الكلام على أثر للمعنى دونما تمحّل على النص، لأسباب ومسوغات منها: أن الشاعر في هذه النصوص يدير القصيدة على معنى أو فكرة أو حالة، أو هو يوائم بين وحدة «داخلية» وأخرى «خارجية»، ويحفل بهذه على قدر ما يحفل بتلك، في حيز مخصوص هو وضع التبادل بينهما حيث «الداخلي» و«الخارجي» ينشآن بدءًا من لحظة توتر، هو توتر الوجود الذي يقدحهما، أعني الاثنين معًا، دون أن يزج بينهما في منطقتين متجاوزتين أو قابلتين للفصل.

ولا يعنينا هنا أن نُسفّه هذا الحكم أو أن نمكّن له في النقد الأدبي، وإنما يعنينا الانتباه إلى أنه إذا كان المطلوب في بناء النص توافر تكثيف لغوي من شأنه أن يتولى الاقتصاد في العبارة، فإن ذلك لا يسوق إلى القول بتبذير الكلمات في استعارات لا قادح لها من سياق النص على نحو ما نجد عند كثير من شعرائنا وشاعراتنا، حيث أكثر الاستعارات لا تنم عن احتفاء باللغة كما قد يُظن، وإنما تكشف عن استخفاف بها، على نحو ما بيّنت في مثال لي عن «أدب الكيتش» عند بعض العرب المعاصرين.

ولقد أفضى بهم ذلك إلى زهد في تسمية التفاصيل وترفّع عن دقائق الأشياء ورقائقها. وربما حملنا ذلك على بعض سمات الكيتش حيث كل شيء في هذا العالم يفضي إلى النسيان: نسيان الطبيعة ونسيان التاريخ ونسيان الإنسان نفسه، أما عند شوقي بزيع، فإن المزاوجة بين الكنائي والاستعاري، والغنائي والدرامي، والحرص على أن يضع معنى الكائن موضع سؤال، في سياق العالم الواقعي المتخيّل، وأن يضيء لغز الذات أو باطنها أو وجودها، كثيرًا ما تفضي من حيث الدلالة إلى جملة من المعاني الحافّة التي تعبّر عن علاقة بين الدال والمتكلم أو الذات أكثر مما تعبّر عن علاقة بين الدال والمدلول.

فالشجرة مثلاً معنى حاف أي مفعول ظواهر لغوية جماعية على قدر ما هو مفعول ظواهر لغوية فردية، لأن الفرد كثيرًا ما ينتج معانيه الحافة أي تلك التي يستوحيها من خواص علاقته بالأشياء أو من ذكرى طفولته البعيدة.

وربما وقع في الظن أن هذه المعاني لا تخلو من غموض أو أن الشاعر يطوّح بها بعيدًا. وهذا قول فيه مقدار من الصواب. ولكن من حق الشعر علينا أن يحتفظ بقليل أو كثير من غموضه الذي لا ينضب، وأن تلتوي طرقه وتشكّل على سالكها، ولكن دون أن يسوق ذلك إلى استنتاج متعجّل كأن نقرر أن من شرائط الأدبية أو الشعرية أن تبهم الكلام وتزيده إغماضًا وتعمية. فلعل الأصوب أن الصورة تفصح عن المعنى الغامض محتفظة له بكامل حقيقته الغامضة دون أن يكون قابلاً ضرورة للترجمة النثرية. والحق أن «الفهم» قد لا يكون ضروريًا، من منظور جمالي خالص، ذلك أن الشعرية الحديثة مقارنة بالشعرية الأقدم، تقدم «الانفعال» بالنص على الفهم.

وفي ما عدا ذلك فإن شوقي مأخوذ في شعره بالأشياء القريبة الذاتية، مثلما هو مأخوذ بالأشياء البعيدة (انظر مثلاً توظيفه لأسطورة يوسف) في محاولة لتثبيت الهارب الزائل والاستمساك به، أو ردّ آخره على أوّله. ومن ثم يقع في هذا الشعر ما يقع من بائد العوالم، وينجرف إليه ما ينجرف من أضواء الماضي وظلاله، ولكن بلغة شمولية تدور في مدارات قريبة إلى عناصر الكون والحياة، وتخلص إلى بداهة الأشياء، على أساس من لعبة القلب أو ما يسمّيه العرب «قلب الأعيان»، ولا تتردد في نسج شوابك القرابة بين الاسم والمسمّى: فهي تنتسج كلها من خلال نقض النقيض ونبذ الحدّ والفارق، وربما أثارت القلق، في عوالمنا الأليفة وأشيائنا التي استتبّت أسماؤها، وهي تنفذ إلى تفاصيلها، وتقف على محتمل حركاتها.

إن شوقي بزيع وهو المثقف ثقافة شعرية عالية يعرف كيف يميّز بين صورة تتمثل أعلى درجة من الاعتباطية أو المصادفة التي تتعارض والقصد أو النيّة، وتضع طريقة جديدة في تدبّر العلاقات بين اللغة والذات، أو بين اللغة والمجتمع، كما هو الشأن في السريالية عند كبار روّادها، وصورة متصنّعة يتسمى فيها الشيء باسم شيء آخر، أو هو يصبح شيئًا لغويًا، ولا مسوّغ لها سوى العجز عن فعل التسمية، والأخذ بـ«إستراتيجيا المجانبة»، أو سوى هوس لغويّ. ولذلك نجده يتحوّط لنصّه من أكثر من جهة من جهات القول، فيعرف كيف يفتتحه وكيف يغلقه، على أساس من بنية شعرية محكمة.

إن أعمال شوقي بزيع قصيدة واحدة، تشكّل اللحظات الزمنية متجمعة، مختلف عناصرها ومكوّناتها. وبما أن أي زمن - في ما يقول أهل الاختصاص - يقع في كلية الزمن، فالقصيدة الناشئة في زمن ما لا يمكن إلا أن تتواصل فيها سائر الأزمنة وتتنادى. وإذا كتب الشاعر «أتذكّر» فإن قوله لا يحيل على أشياء الماضي فحسب، وإنما على أشياء لم تقع، أو هي لاتزال في طيّ المستقبل. بل إنه ليتهيأ لي أن التذكّر ليس إلا ضربًا من تأمل النسيان والتفكير فيه. بل إن النسيان هو الذي يرمم الذاكرة. ولعل هذا ما يجعل شعره ينضوي على اختلاف مراحله، إلى «شعرية الأثر».. أعني أثر اللغة التي يطويها النسيان أو ما يتبقّى بعد أن تُعفّي الذاكرة كل شيء. ومن ثم يندّ شعره عن التصنيف الذي دأبنا عليه في دراسة الشعر العربي المعاصر. ويصعب أن تقرنه بأحد من روّاده المعاصرين (أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر ومحمد بنيس..).

هو شعر يتجاذبه - إذا استعرت عبارات أهل الفلسفة - طرفا «الأبولونيّة» (التوازن والتناسب والتناغم..) و«الديونيزوسية» (المصادفة والعشوائية والغرابة..) أو هو يراوح في الفسحة القائمة بينهما، شكلاً، وصورة، ودلالة.

هذان الطرفان بكلّ ما يعلق بهما من سمات، هما اللذان يتجاذبان أكثر هذا الشعر بنسبة أو بأخرى. فتتقاطع الخطوط وتزدوج، أو تمتد في هيئات متشابكة مضفورة، أو تنكسر وتنحني وتلتوي. والشاعر يؤدي هذه الخطوط والهيئات في جمل وصور تنفكّ عن النسق اللغوي القائم، فلا مبادرة إلا للكلمات. حيث تضطرب في كل كلمة كلمة أخرى وتتململ، حيث بإمكان الظل أن يمسك الريشة ويكتب، أو للون أن ينتصب رفيقًا غامضًا لأشياء من المحسوسات والمجرّدات. وكأن الشعر عنده ليس تسمية الأشياء بما هي عليه، وإنما طمس وجه التقابل فيها بين الصورة والعمق، في سياق يجعل الشعرية تكمن داخل التعبير وليس داخل المعبّر عنه. أختم فأقول إنه ليس ثمة ما يصل شعر شوقي بالرواد الذين ذكرت ولا بغيرهم من مجايليه بـ«النص» إلا أن «الأب» يمكن أن يخفي أبا آخر. والشعر العربي الحديث محكوم في كثير من نماذجه برغبة حافزة، في مضاهاة النص الشعري الغربي. ولا يقدر أحد أن يدّعي السلامة منه ومن أثره. ومع ذلك فأنا لا أقف على أثر شاعر غربي بعينه كما أقف على ذلك عند غيره من الذين يشجون نصوصهم بهذا النص الغربي الفاتن (رمبو - بيرس - شار - ريتسوس..) مادامت الكتابة جيولوجيا كتابات، والنص تتجاذبه نصوص، أو هو عمل مرجأ باستمرار، يجترح في كل مرة أصلا من أصوله وطقسًا من طقوسه.
---------------------------------
* شاعر وناقد من تونس.

 

 

منصف الوهايبي*