الدبلوماسية الكويتية بين المحنة والمهنة

الدبلوماسية الكويتية بين المحنة والمهنة

تأليف: سليمان ماجد الشاهين

لم يعد دور الكويت الخارجي ودبلوماسيتها العتيدة موضوع شك أو نقد, فالكويت تميزت بنشاط إقليمي ودولي يتجاوز إمكانات الدولة التقليدية من مساحة وقدرات بشرية, ولكن - ومع الأسف - فإن ما كتب ودوّن ووثّق عن هذا المجال لا يجاري هذا النشاط. فهناك فجوة كبيرة في الأدبيات الخاصة بدولة الكويت ونشاطاتها الخارجية إذ لم يصدر في هذا المجال إلا عدد يسير من الكتب والمؤلفات, وجاء هذا الإصدار الأخير ليسد هذه الفجوة وبخاصة أن مؤلف الكتاب هو ابن (معتق) لمؤسسة الدولة الدبلوماسية, وزارة الخارجية.

يعبّر الكتاب في آن واحد عن رؤية فكرية للسياسة الخارجية وعن ممارسة فعلية لها خلال عقود تميزت بالكثير من المتغيرات. فالمؤلف تبوّأ العديد من المناصب الدبلوماسية على مدى أربعين عاما من دبلوماسية الدولة المستقلة, تدرج فيها من ملحق دبلوماسي, إلى سفير, إلى وكيل وزارة الخارجية ثم وزير الدولة للشئون الخارجية. وارتبط اسمه بالمرحلة الأولى لتأسيس دبلوماسية الدولة المستقلة. أو بالأحرى, جيل المؤسسين للدبلوماسية الكويتية - الرعيل الأول إن جاز التعبير- فانضم إلى وزارة الخارجية بعد استقلال الكويت بعام في 1962 وترك الوظيفة الدبلوماسية/السياسية في عام 2001 وفي إصداره يقدم لنا صورة تفصيلية عن سياسة الكويت ونشاطها الخارجي, والمطالب العراقية, وتأجير البواخر وأمور أخرى تعتبر سرية أو خاصة, وهو بهذا يمتلك الحقيقة في العمل الدبلوماسي ويعبر عنها.

دبلوماسية.. وخدمة إنسانية

وقد شارك الأستاذ الشاهين قيادة رحال السياسة الخارجية لمدة أربعة عقود, هذا ما خوّله لكي يطرح للقراء بعضاً من معلوماته الواسعة واطلاعه المتعمق ليجعل من كتابه (حصاداً) لجهد المقل واستجابة لدعوات كريمة للمشاركة في الندوات والمنتديات ذات الاهتمام بالفكر السياسي أو النقاش التجريدي الذي يتناول كارثة الغزو والاحتلال, أو يعرض لمجريات الأحداث في منطقة الخليج العربي, المؤثرة منها والمتأثرة بها.

ويقع الكتاب في (486) صفحة من الحجم المتوسط و (20) فصلاً أو موضوعا ويضم سبع وثائق مهمة في العلاقات الكويتية - العراقية وقرارات مجلس الأمن الدولي. فالكتاب يستند ليس إلى التنظير والأدلجة, وإنما إلى التجربة والخبرة والمعايشة, فالنشاط الدبلوماسي والوجود الخارجي الكويتي مبني على مجموعة من الأهداف والمنطلقات, وهي إقامة علاقات متميزة ومتوازنة مع كل دول العالم بمعسكراته وأيديولوجياتها المختلفة سواء في عهد ما قبل الاستقلال, أو في فترة الحرب الباردة أو ما بعد سقوط التنافس الشيوعي/الرأسمالي, فالكويت تبنت أطروحات الحياد والتوازن والوجود في كل قارات العالم ورأت أن عليها مسئولية إنسانية, وواجباً بشرياً , فقد بدأت مع تدفق إيرادات البترول في تحمل المسئولية ومشاركة الآخرين بكسرة الرغيف وتقديم المساعدات والقروض للدول الخليجية والعربية والإسلامية والعالم الثالث حتى أصبحت المساعدات الكويتية تنافس مساعدات وقروض العالم الصناعي, وقامت الكويت بالمساهمة في تطوير الحياة الاجتماعية والتعليمية والطبية في أماكن مختلفة من العالم العربي حتى أن بعض الخدمات سبق وصولها الدول الأخرى زمن إدخالها في بعض مناطق الكويت, وهذا يعكس مصداقية الكويت في الخدمة الإنسانية.

أما بخصوص الاستثمارات الخارجية, التي شكلت ركنا من أركان الاقتصاد الكويتي, فقد وفرت لها أمنا اجتماعيا, وتأمينا ماليا واستفادت منها الكويت أثناء الغزو العراقي الغاشم لأرضها, ومن هذه المسئوليات الدولية والواجبات الإنسانية, شرعت الكويت بتحمل مسئولية الوساطة في دبلوماسيتها, ونجحت في التوفيق في وضع نهاية لخلافات وصراعات إقليمية, تطرق إليها المؤلف بتعمق مثل الوساطة مع إيران والبحرين في السبعينيات وحل الخلاف بين عمان واليمن الجنوبي في الثمانينيات, وكذلك كانت الكويت موفقة في تبوؤ دور الدولة المانحة. وتطرق الباحث إلى العوامل المؤثرة في نهج الكويت الخارجي وهي عوامل اختيارية وطارئة, وتتلخص في معيار الواقعية المبني على حقائق التاريخ والجغرافيا والجيوبولتيك, ومما ميز نجاح الكويت في تعاملها الخارجي هو أسلوب الإدارة السياسية المبني تاريخياً على الإجماع والإقناع والتسلسل السلمي لتولي الحكم, ومشاركة الشعب في قرارات الدولة.

أطماع بلا حدود

في جزئية خلفية ما قبل الغزو, قدم الكاتب تحليلاً وافيا وكافيا ومتوازنا لمسببات الغزو العراقي الغاشم للكويت في صيف 1990, وذلك بوضع العراق شروطا تعجيزية على الكويت منذ السبعينيات تتخلص في (التنسيق) السياسي فيما يتعلق بقضايا الخليج, واستخدام رأس المال الكويتي في العراق, والسماح بتنقل الأيدي العاملة العراقية إلى الكويت بصورة مفتوحة وحرة, وتعاون دفاعي مشترك بين البلدين, وإيجاد مناطق استراتيجية للعراق في الكويت. وكانت العراق قد قدمت في فبراير 1990 مشروع اتفاقيتين أمنية ودفاعية تجعلان من البلدين ساحة واحدة لقضايا الدفاع والموانئ والمطارات وحتى المشتريات العسكرية وغيرها من التفاصيل الأخرى. بمعنى أوضح كان المطلوب من الكويت التنازل عن سيادتها واختطافها طواعية بأسلوب يكشف عن أهداف ونوايا هؤلاء الجيران, مما يؤدي بالكويت لتصبح محمية عراقية!!!

وكان بإمكان الكويت من منظور سياسي/استغلالي (real politics), الاستفادة من التسهيلات والمساعدات التي قدمت للعراق في حربها مع إيران وضعف العراق السياسي حينذاك (80-1988) في فرض شرط ترسيم الحدود ولكن القيادة السياسية (الواعية) ترفض الربط بين المساعدات والحل السياسي وتحرص على التعاطف مع العراق وعدم إزعاجه في محنته مع إيران. وكانت الجهود الكويتية تتركز في معالجة تجاوزاته المستمرة والمتمثلة في الإصرار على إقامة المزارع الشكلية بإشراف الجيش بصورة متعمدة.

ويتطرق الباحث إلى موضوع تفاصيل المفاوضات التي تمت في جدة بين الكويت والعراق في 31/7/1990, قبل الغزو وعكست (العبث) السياسي العراقي في استغلال كل الإمكانات لتوضيح حسن النية العلنية والمكر الخفي. ويتعمق الباحث في كشف الدور الكويتي في دعم العراق الاستراتيجي وتوفير مقتضيات النجاح للعراق في حربه ضد إيران حيث وصل الدعم المالي إلى مبلغ (17) مليار دولار أمريكي. ويرى الدبلوماسي أن (المأساة في العراق في أن القيادة هناك تميزت بامتلاك إرادة التدمير بدلاً من التعمير وتفوقت في القدرة على خلق الأعداء عوضاً عن اكتساب الأصدقاء). لقد تسببت أزمة الغزو العراقي الهمجي للكويت في أن العراق (يعيش تاريخه يوما يوما من دون ماض حميد أو مستقبل واعد) بينما شكلت للكويت (شريط متصل ومتواصل لكل الذين يحملون الوطن في قلوبهم وعقولهم). ويحلل المؤلف التصورات المستقبلية للنظام السياسي في العراق من حيث بقاء النظام الراهن, تغيير القيادة السياسية وبقاء الحكم والتغيير الجذري والتآكل الداخلي. يبين الكاتب أن ادّعاءات الملك غازي في الكويت في الثلاثينيات من القرن الماضي كان الهدف منها الالتفاف على مواجهة تحديات النظام السياسي الملكي في بداية تأسيسه وخاصة المحاولات الانقلابية ضده من بكر صدقي. ويتطرق الباحث إلى تقييم وتحليل النظام الداخلي في العراق خاصة طبيعة العلاقات, بين السلطة الحاكمة والقبائل والعشائر.

يقظة... وسلام

وتتلخص المطالب الكويتية في أعقاب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي في توفير الضمانات الأمنية, وتحريم اللجوء إلى استخدام القوات المسلحة, وفض المنازعات بالوسائل السلمية, وإعادة الأسرى والمفقودين, واحترام العراق حزمة قرارات الشرعية الدولية, وتغيير الخطاب الإعلامي العراقي, وحرية القرار لدى دول الجوار. لقد أصبحت السياسة الأمريكية تجاه الخليج فيما بعد تحرير الكويت تعتمد على تطوير القدرات الذاتية لدول مجلس التعاون الخليجي, وتخزين الأسلحة الأمريكية في هذه الدول للاستعانة بها في وقت الحاجة, وعقد الاتفاقيات الأمنية الثنائية مع دول المنطقة, واستمرار الوجود البحري الأمريكي في مياه الخليج العربي, والاحتواء المزدوج للعراق وإيران, والاستعانة بالأمم المتحدة لضمان شرعية القرارات.

يرى الباحث أن مطالبة العراق بالاعتراف بخطأ الغزو هو أقل ما يبتغيه كل إنسان وهو بحد ذاته يهيئ نفسية الكويتيين للتصالح حتى مع النظام الحالي ولو بتروٍّ.

ويفصل الباحث أحداث حرب ناقلات البترول في الخليج في الثمانينيات وكيف استعانت الكويت بالقوى العظمى لحماية المصالح الاقتصادية النفطية من التهديدات والتحديات الإيرانية, من خلال استئجار وتسجيل تلك السفن في الدول الكبرى وهذا ما ابتغاه العراق لجلب انتباه العالم للحرب المنسية بين البلدين, حيث تطور هذا الارتباط وما لحقه من نتائج وعواقب إلى نهاية حرب الخليج الأولى. وهذا بحد ذاته نقطة تحوّل في السياسة الخارجية الكويتية.

مدرسة دبلوماسية

ودون ريب يمكن اعتبار نقطة القوة الرئيسية في الكتاب اعتماده على التوثيق التاريخي والتحليل السياسي لدور دولة صغيرة ودبلوماسيتها (المحنكة) في السياسة الخارجية. لذلك فقد يشكل هذا الإصدار حافزاً لصدور دراسات أخرى مهمة ومؤثرة وهادفة, تزيد من خيارات التوثيق و (الكتابة) وتقلل من حساسية المسئول لأن يكتب وإحساس القارئ بدقائق السياسة الخارجية خاصة الحوارات والنقاشات والنشاط الدبلوماسي على المستوى الدولي. ولعل المعنيين من أساتذة الجامعات يوجهون طلابهم لدراسة هذا الإصدار, وبخاصة أن التوترات السياسية في منطقة الخليج أصبحت أحد الهموم الرئيسية عالمياً بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشيوعي.

وبالرغم من ضخامة حجم صفحات الكتاب, فإن آلية تقديم المشاهد المختلفة تتضح بجلاء في العديد من الندوات والمنتديات والمؤتمرات التي حضرها المؤلف بصفته الشخصية أو الرسمية. لذلك انقسم الكتاب إلى فصول تتعامل مع القضايا السياسية في المرحلة المعاصرة, وقضايا محددة ومواد عامة, ودبلوماسية رصينة, فالكتاب يريح الدبلوماسي والسياسي والأكاديمي وأصحاب الاهتمامات العامة. فالدبلوماسيون سيبحرون في تجربة (مدرسة) دبلوماسية إن جاز التعبير, والسياسيون يتابعون فصول عمل سياسي محنك كما يشاهد المرء فيلما (أبيض/أسود) يعيد ذكريات الماضي. وبعض المقالات عبارة عن سياسات الدولة تجاه قضايا دولية, مثل سياسة الكويت تجاه الأسلحة النووية في الخطاب الذي ألقي أمام الأمم المتحدة عام 1988, وموقف الكويت ضد الإرهاب أمام منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1987. إضافة إلى ذلك فإن قوة الكتاب تكمن في كيفية التجرد من تجربة شخصية في العمل الدبلوماسي إلى هموم وطن, وكيف يبرز الكاتب القضايا العديدة لدعم فكرة نشاط دولة صغيرة. الباحث يقوم بأداء رائع في وصف وتحليل التحديات التي واجهتها الكويت وكان هو عنصرا مؤثرا في هذه القرارات, وتقديم رؤية الكويت للنظام الإقليمي وقراءة للنظام الدولي, والكتاب إضافة تثري المكتبة العربية الخاصة في التعريف بدور الكويت الخارجي. والمؤلف يستحق تقديرا خاصا لقدراته على حفظ الوثائق والمحاضرات في ظل النهب والسرقة من جانب النظام العراقي وأعوانه.

وفي النهاية تبقى بضع نقاط تستحق من المؤلف الانتباه لها استكمالا للبحث من ناحية وتوسيعا لدائرة المستفيدين منه من ناحية ثانية. فالمؤلف يعتمد سياسة انتقائية في اختيار موضوعاته مثلما أشار في مقدمة كتابه (وقد انتقيت من تلك الأوراق ما يتلاءم وموضوعية المرحلة التي تشرّفت بحمل مسئوليتها) وكلنا أمل أن يتمكن المؤلف من رفع الغبار عن الأوراق الأخرى.

سعياً نحو الكمال

وحيث إن الكتاب عبارة عن تجميع المحاضرات وتدوين وتوثيق وتحليل لأحداث أمام قرّاء مختلفين, فإن هناك تكراراً كثيراً للمواد العلمية والتحليلات السياسية والتفصيلات التاريخية... ويفتقر الكتاب إلى مواصفات البحث العلمي من حيث المصادر والهوامش والببليوغرافيا وغيرها, إلا أن الباحث يستعين ببعض الأدبيات والآراء لدعم مواقفه الموفقة في نص محاضراته مثل بسام طيبي, ودانيال ونر, ونديم البيطار. ويقدم الباحث فهرسا للأماكن وفهرسا للأعلام في نهاية الكتاب.

وبالرغم من أن بعض المقالات قد كتبت قبل ثلاثة عقود (مثلا 1974) ولكن تم تعديلها وتقديمها لتناسب المعطيات الجديدة, وتقدم صورة جديدة لموقف الكويت مع المعطيات الحالية. وكلمة أخيرة وهي رغبة القارئ في الاطلاع على الموقف الكويتي مع المستجدات الجديدة وخاصة لتقريب وجهات النظر الكويتية/العراقية منذ مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي في الدوحة في نوفمبر 2000, والمؤلف كان شاهد عيان في هذه الأحداث. ويغيب عن الكتاب خاتمة شاملة تشكّل وصفة للدبلوماسية الكويتية, خاصة أن الباحث خارج دائرة المسئولية بما تمليه من (ممنوعات) و(محرمات).

ويحتوي الكتاب على بعض الأخطاء الطباعية مثل العامل بدلا من العالم (345) التعاريج بدلا من التاريخ (ص 171) الحاكم الحالي الرابع عشر بدلاً من الثالث عشر (ص 109). ويحتوي الكتاب على صبغة رسمية للتسميات والمناصب مثل (سمو الأمير, معالي الوزير, معالي الشيخ حفظه الله) في أماكن عدة من الكتاب. وكلنا أمل بأن يمثل هذا الحصاد بداية تأسيس مرحلة جديدة, لتدوين وتوثيق دور الكويت الخارجي من قبل السياسيين والدبلوماسيين يتناسب مع دورها الفعلي والبناء في العالم الخارجي, وهي دعوة لرواد الدبلوماسية الكويتية أو جيل التأسيس من أمثال الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح, السفير عبدالله بشارة والسفير محمد أبو الحسن لتحليل وتدوين وتوثيق رؤيتهم وقراءتهم للأحداث السياسية وموقف الكويت تجاه قضايا الوطن. وفي هذا الخصوص فهناك حاجة لإصدار كتاب توثيق أبيض يبين دور الكويت في السياسات العربية والإقليمية والدولية على مدى 40 عاماً من استقلال الدولة

 

عبدالرضا علي أسيري