جمال العربية

جمال العربية

ابن الفارض: الوجد الصوفي

على كثرة ما حفل به ديوان الشعر العربي من شعر الحب الإلهي والوجد الصوفي, يظل لشعر ابن الفارض: إمام المحبين وسلطان العاشقين, حضوره اللافت, وكيمياؤه المُشعّة وتأثيره النافذ. ذلك أن العاطفة المتقّدة والجيّاشة, التي يفيض بها هذا الشعر, تجعل من تأمله واستعادته على المستويين: الإنساني والإلهي, متعة روحية بالغة, وسياحة حافلة - بالرؤى والتصوّرات والإشراقات - في عالم بديع مكتمل, وصياغات فنية محكّمة التشبيهات والاستعارات, مجلوّةٍ في سحْر الرمز وفضاءاته, مفصحةٍ عن الحال بكلّ ما اتّسع له المقال, ومضمرةٍ بعض مكنوناتها وخوالجها في المابيْن.

وفي الطبعة الجديدة المكتملة من ديوان ابن الفارض - الناسخة لكل الطبعات القديمة باعتبارها - كما يقول المحقق الإيطالي جوزيبي سكاتولين - قراءات لنصّه عبر التاريخ, وقد صدرت عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة, في هذه الطبعة, يشير المحقق إلى أن عمر بن الفارض الذي لقّب بسلطان العاشقين, وأصبح علمًا من أعلام التصوّف الإسلامي, لم تحمل إلينا المصادر التاريخية الكثير من أخباره, وسيرة حياته, (رغم شهرته الفريدة والانتشار الواسع لأشعاره). ويقول: (ولد أبو القاسم عمر بن الفارض الحمويّ الأصل, والمصريّ النشأة, والمقام والوفاة في القاهرة في الرابع من ذي القعدة سنة 576هـ/1181م, ويتفق جميع مَن ترجموا له على أن اسمه (عمر), وكُنْيته (أبو القاسم) أو (أبو حفص), ولقبه (شرف الدين), وأنه ابن أبي الحسن عليّ بن المرشد بن عليّ, من أسرة كانت تفتخر بنسب متصل ببني سعد, قبيلة حليمة السعدية مرضعة محمد, رسول الإسلام, وأنّ الحياة العلمية والصوفية لم تكن غريبة على أسرة ابن الفارض. فقد كان أبوه من أهل العلم والورع, حتى إنه فضّل الزهد والاعتكاف على الانغماس في الشهرة والجري وراء الجاه. فقد كان جدّه يحمل لقب (المرشد). مما يدل على أنه كان شيخًا معروفًا, صاحب طريقة, ومرشدًا لمريديها. فليس غريبًا - إذن - أن يكون أبوه أوّل من اعتنى بتربيته علمًا وتقوى. وأن وفاة ابن الفارض كانت بمصر في يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى سنة 632هـ/1235م, ودُفن بسفح المقطم عند مجرى السيل تحت المسجد المعروف بالفارض).

وابن الفارض هو صاحب النموذج الشعري الأول لما سُمّى بعده بقصائد (البردة), بدءًا ببردة البوصيري التي عارضها عشرات الشعراء, من بينهم البارودي في قصيدته: (كشف الغمّة في مدح سيد الأمة), وشوقي في قصيدته: (نهج البردة). فقد وضع ابن الفارض أساسًا للوزن الشعري, وهو (بحر البسيط), وأساسًا للقافية هو حرف الميم المجرور, وطريقًا ممهدًا لمعجم شعري يحتشد بأسماء أماكن ومواضع مختارة من الحجاز ونجد, حين قال:

هل نار ليلى بدت ليلاً (بذي سَلَمِ) أم بارق لاح (بالزوراءِ) فـ (العَلَمِ)
(أرواحَ نعْمانه) هلاّ نسمة سحرًا وماءَ وَجْرةَ هلاَ نهلة بفمِ
يا سائق الظعن يطوي البيد معتسفًا طيَّ السّجِّل (لذات الشيح) من (إضَمِ)
عُجّ بالحمى يا رعاك الله مُعتمدًا خميلة الضال ذات الرَّنْدِ والخَزَم
وقف بِسلّعٍ وسل بالجزْع هل مُطرتْ بالرّقمتينِ أُثِيلات بمُنْسَجِم
نشدتُكَ الله إِن جُزْتَ العقيق ضُحَيً فاقْر السلامَ عليهم غير مُحتشمِ
وقل تركتُ صريعًا في دياركمو حيّا كَميّتٍ يُعيرُ السُّقْمَ للسَّقمِ
فمن فؤادي لهيبٌ ناب عن قَبسٍ ومن جُفونيَ دمع فاضَ كالدّيم
وهذه سُنّةُ العشاقِ ما علِقُوا بشادنٍ فخلاَ عضوٌ من الألمِ
يا لائمًا لامنى في حُبّهم سفهًا كُفّ الملامَ فلو أحبَبْتَ لم تلُمِ


وهو بيت يذكّرنا بقول شوقي, أو يذكّرنا به قول شوقي:

يا لائمي في هواه, والهوى قدرٌ, لو شفَّك الوجد لم تعذلْ ولم تلُمِ


ثم يقول ابن الفارض:

وحُرْمة الوصل والودّ العتيقِ, وبالـ ـعهد الوثيق, وما قد كان في القِدم
ما حُلْتُ عنهم لسلوانٍ ولا بَدلٍ ليس التبدُّلُ والسلوانُ من شيمي
رُدّوا الرقاد لجفني علَّ طيفكمو بِمضجعي زائرٌ في غفْلةِ الحُلُمِ
آهًا لأيامنا بالخيْفِ لو بَقيتْ عشْرًا, وواهًا عليها كيف لم تَدُمِ
هيهات واأسَفى لو كان ينفعني أو كان يُجدي على ما فاتَ واندمي
عنّي إليكم ظباءَ المنحنى, كرمًا عهدْتُ طرْفِيَ لم ينظر لغيْرِهِم
طوْعًا لقاضٍ أتى في حُكمه عجبًا أفْتى بسفك دمي في الحلِّ والحَرمِ
أَصمَّ لم يُصْغ للشكوى, وأبْكمَ لم يُحرْ جوابًا, وعن حال المشوقِ عمِ


هذا شعر يأخذ بنا, وينفتح على عالميْنِ مختلفين: من حيث الأفق والدلالة, عالم بشري مألوف يتغنّى فيه العاشق, ويبوح ببعض أسرار محبوبته ليلى, التي ارتبط بها المكان, الذي سيدور كثيرًا في ذاكرة العديد من النصوص الشعرية, الدائرة في فلك البردة, وهو (ذو سَلَم), خاصة عند البارودي وشوقي, ويفضي بنا (ذو سلم) إلى (الزوراء) والعَلَم ونعْمان ووجْرة, وذات الشيح, وإضم وخميلة الضال, وسلْع والجزْع والرقمتيْن والعقيق, إلى آخر هذه الصوى والعلامات, التي تلتمع مثل عقد النجوم في سماء هذا الحب, الذي جعل نجدًا والحجاز فضاءه الشاسع. وعالمٍ نوراني, صوفي, مجازه الرمز والاستعارة, والقراءة الثانية, التي تساعد في الكشف عن حالات العشق ومقاماته, والانجذاب إلى أنوار الحضرة الإلهية, والحضرة المحمدية, وهو الأمر الذي يتطلب - كما يقول محقق الديوان - (الكثير من الصفاء الروحي, والنقاء النفسي, حتى يتجانس الباحث (أو القارئ), مع الشاعر الصوفي, فيدرك مقاصده البعيدة بذوقٍِ مرهف لطيف). وهو ما قصد إليه ابن الفارض مُحذّرًا قرّاءه:

وعنّيَ بالتلويحِ يفهم ذائقٌ غنيٌّ عن التصريحِ للمتعنّتِ


وفي قوله أيضًا:

وعن مذهبي في الحبّ, ماليَ مذهب) وإن مِلْتُ يومًا عنه فارقْتُ ملّتي


ويلاحظ محقق الديوان (أن ابن الفارض لم يترك لنا شيئًا آخر سوى ديوانه المعروف, فلم يُعْثر له على أيّ نوعٍ من رسالة أو كتاب نستعين به لتوضيح مذهبه الصوفي. وهو يخالف في ذلك معاصره الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (الذي توفي سنة 638هـ/1240م), وترك لنا بحرًا زاخرًا من المؤلفات في شتى أنواعها, وهذا مما يجعل فهم ديوان ابن الفارض مشكلة مُضنيةً لقرّائه وباحثيه.

وقد ظلّ شعر ابن الفارض موضع الإعجاب والاهتمام عند الكثير من الباحثين عربًا كانوا أم عجمًا, شرقًا قطنوا أم غرْبًا. وهكذا يجد الباحث نفسه أمام مكتبة (فارضية) واسعة, من الشروح والدراسات, تراكمت عبْرَ القرون حتى يومنا هذا حول أشعار ابن الفارض.

في ضوء هذه الكلمات, وتأمّل لغة الرمز والمجاز, نستطيع أن نقرأ هذا النص البديع من نصوص الحب الإلهي والوجد الصوفي لإمام المحبّين وسلطان العاشقين عُمر بن الفارض:

ما بين مُعتَركِ الأحداقِ والمُهجِ أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حَرجِ
ودّعتُ قبل الهوى روحي, لِما نَظرتْ عينايَ من حُسْنِ ذاك المنظرِ البِهجِ
لله أجفانُ عيْنِ فيكَ ساهرةٍ شوقًا إليك, وقلب بالغرام شَجِ
وأضلع نحلتْ, كادت تُقوّمُها من الجوي كبدي الحريّ من اللُّججِ
وحبذا فيك أسقامٌ خَفِيتَ بها عني, تقوم بها عند الهوى حُجَجي
أصبحتُ فيك - كما أمسيْتُ - مكتئبًا ولم أقلْ جزعًا: يا أزمتي انفرجي
أهفو إلى كلّ قلبٍ بالغرام له شغْلٌ, وكلّ لسانٍ بالهوى لَهجِ
وكلّ سمْعٍ عن اللاحى به صَممٌ وكلّ جفنٍ إلى الإغفاءِ لم يَعُج
لا كان وجدٌ به الآماقُ جامدةٌ ولا غرامٌ به الأشواقُ لم تَهجِ
عذِّبْ بما شئْتَ غَيْر البعد عنك, تجدْ أوْفى مُحبٍّ بما يُرضيك مُبتهجِ
وخذْ بقية ما أبقيْتَ من رَمقٍ لا خيْرَ في الحبّ إن أبقى على المُهجِ
منْ لي بإتلاف رُوحي في هوى رشأٍ حلّوِ الشمائل بالأرواحِ ممتزِج
من مات فيه غرامًا عاش مُرتقيًا ما بين أهل الهوى في أرفع الدَّرجِ
مُحجّبٍ لو سرى في مثْل طُرّتهِ أغنَتْهُ غُرّتُه الغرَّا عن السُّرْجِ
وإن ضللْتُ بليْلٍ من ذوائبهِ أهدى لعيني الهُدى صُبحٌ من البَلجِ
وإن تنفّس قال المسكُ معترفًا لعارفي طيبه من نَشْرِه أَرجي
أعوامُ إقبالهِ كاليوم من قِصرٍ ويومُ إعراضهِ في الطولِ كالحِججِ
وإن نأَى سائرًا يا مُهجتي ارتحلي وإن دنا زائرًا يا مُقلتي ابتهجي
قلْ للذي لامنى فيه وعنّفني دعْني وشأني وعُدّ عنْ نُصْحكَ السَّمجِ
فاللوم لؤم ولم يُمدحْ به أحدٌ وهل رأيت مُحبًّا بالغرامِ هُجِي
يا صاحبي وأنا البَرُّ الرحيم, وقد بَذلْتُ نُصحي: بذاك الحيِّ لا تَعُجِ
يا ساكن القلب لا تنظرْ إلى سكني واربح فؤادكَ واحذرْ فتنةَ الدَّعجِ
فيه خلعْتُ عِذارى, واطّرحْتُ بِه قبُول نُسكيَ والمقبولَ من حِججي
فابيضّ وجهُ غرامي في محبّته واسودّ وجه ملامي فيه بالحُججِ
تبارك اللهُ ما أحلى شمائلهُ فكم أماتتْ وأحيتْ فيه من مُهجِ
يهْوَى لذكْر اسْمِه مَنْ لجَّ في عَذَلي سمعي على أنّ عذْلي فيه لم يَلجِ
وأرحمُ البْرقَ في مسْراهُ مُنتسبًا لثغْرِه وهو مُسْتَحيي من الفَلَجِ
تراهُ إن غاب عني كلُّ جارحةٍ في كلّ معْنَى لطيفٍ رائقٍ بَهجِ
في نغمة العود والنّاى الرخيم إذا تألّفا بين ألحانٍ من الهَزجِ
وفي مسارح غِزْلانٍ الخمائلِ في برْدِ الأصائلِ والأصباحِ في البَلجِ
وفي مساقطِ أنداءِ الغمام على بساط نَوْرٍ من الأزهار مُنْتَسجِ
وفي مساحب أذيالِ النسيم إذا أهدى إليَّ سُحْيرًا أطيبَ الأرجِ
وفي التثاميَ ثَغْرَ الكأسِ مُرتشفًا ريق المدامةِ في مُسْتنزهٍ فَرجِ
لم أدْرِ ما غُربةُ الأوطانِ وهو معي وخاطري أين كنا غيرُ مُنزعجِ
فالدار داري وحِبِّي حاضرٌ, ومتى بدا, فمُنعرجِ الجرْعاءِ مُنْعرَجي
لِيَهْنَ ركبٌ سَروْا ليلاَ وأنت بِهم بسيْرهم في صباحٍ منْكَ مُنْبلجِ
وليصْنع القوم ما شاءوا لأنفسهم هم أهلُ بدرٍ فلا يخشوْنَ من حَرَجِ
بِحقِّ عصيانيَ اللاحي عليك, وما بأضلعي - طاعةً للوجد - من وَهجِ
انظر إلى كبدٍ ذابت عليك جوًى ومُقْلةٍ من نجيعِ الدّمْعِ في لُجَجِ
وارحم تعثّر آمالي ومُرْتجعي إلى خداعِ تمنّى الوعد بالفرجِ
واعطف على ذُلّ أطماعي بِهَلْ وعسى وامنُنْ عليّ بشرْح الصدر من حَرَجِ
أهلاً بما لم أكنْ أهلاً لموْقعِه قوْلِ المُبشّرِ بعد اليأسِ بالفرجِ:
لك البشارةُ فاخلعْ ما عَليْكَ فقد ذُكِرْتَ ثَمّ على ما فيكَ من عِوجِ


* * *

بعض الذين تصدّوا - في زماننا - لعمل مختارات من ديوان الشعر العربي فاتهم - لا أدري لماذا - أن يقتربوا من نصوص بديعة من الشعر الصوفي لدى أعلامه الكبار: ابن عربي وابن الفارض والسهروردي والحلاج وغيرهم, وهي نصوص تتوهّج بفنيةٍ عالية من ناحية, وحُميّا روحية غامرة, كما تصطرع فيها أشواق الذات المتفرّدة أو (الأنا) في بحثها الدائب - عبر مُختلفِ الأشكال والصور والمظاهر في جمْع فعلي أو فعل جمعي من أقصى الكون إلى أقصاه - واكتمالها بالأنا الجمعي, الذي يجد حقيقة ذاته في الاندماج التام مع الحقيقة العليا التي هي - كما يقول الدكتور جوزيبي سكاتولين, محقق الطبعة الجديدة المكتملة من ديوان ابن الفارض, على أساس أوسع وأوثق مما جاء من قبل, والذي جعل من ابن الفارض موضوعًا لرسالته للدكتوراه في التصوّف الإسلامي (روما: المعهد الباباوي للدراسات الإسلامية والعربية 1987) - هي في الاصطلاح الصوفي (النور المحمدي) أو (الحقيقة المحمدية) أو (الإنسان الكامل). فليس وصف الحب والجمال في شعر ابن الفارض - كما يرى سكاتولين - إلا جزءًا محدودًا, ومرحلة عابرة في سفره الصوفي, الذي يهدف إلى آفاق أعلى وأوسع وهي (بحار الجمع), أي تلك الحقيقة النورية العليا, التي هي مصدر الكل, ومرجع الكل, وكأننا نطالع تنويعًا جديدًا على فكرة (الكل في واحد), التي التقطها توفيق الحكيم, وجعلها محورًا لروايته الرائدة (عودة الروح).

من هنا لا يتردد الشاعر الصوفي ابن الفارض في التعبير عن ذلك الجمع الفعلي الفاعل في كل شيء - بلغة سكاتولين - وعمق ذلك الاندماج الكامل مع الكل - لا يتردد في التعبير بلهجة باهرة مدهشة:

ولولاي لم يوجد وجود, ولم يكن شهود, ولم تُعهد عهود بذمةِ
فَلاَ حيّ إلا عن حياتي حياتُه وطوْعُ مُرادي كلّ نفسٍ مُريدةِ
ولا قائلٌ إلا بقوْلي مُحدّثٌ ولا ناظر إلا بناظر مُقلتي!


فضلاً عن أن بعض هذه النصوص الشعرية البديعة - التي تجاهلها بعض مَن تصدّوا لعمل مختارات من ديوان الشعر العربي - بذوق زماننا - قد اتّسع لروح ثورية عارمة, كالتي تلفحنا حرارتها في نصوصٍ للحلاج, تواجه الظلم والظالمين والطغاة, وتنتصر للمعذبين والمستضعفين في الأرض, من الفقراء والمقموعين والمهمّشين, وهو ما يجعل منها صوتًا رفيعًا من أصوات مملكة العدل - التي شارك في تأسيسها الشعراء والحكماء - والتي تجأر بالشكوى إلى الله, آملةً في إصلاح الكون من الفساد والاختلال.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات