إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

... واسألوا مجنون ليلى!

يروي مؤرخو الأدب وكتّاب السيرة الذاتية لمجنون الشعر العربي دون منازع قيس بن الملوح الكثير من القصص والحكايات التي تثبت حبه لليلى العامرية إلى درجة الخبل أو الجنون الصريح, حيث أصبح نتيجة فشله في الزواج من محبوبته هائمًا في فلاة الحب, يصادق الوحوش ويأنس لها بدلاً من البشر, الذين كان يرى أنهم خذلوه ولم يروا في قصة حبه العظيمة سوى أنها حكاية تحكى كمثال تحذيري للمبتدئين في الحب عما يمكن أن يتسبب به ما هم مقدمون عليه لأهله من جنون.

ولا ندري إن كانت تلك الحكايات المتنوعة والمنتهية دائمًا بأبيات جميلة لقيس, قد حدثت فعلاً, أم أنها من وضع الرواة اللاحقين, الذين أرادوا بها تسلية قرائهم, والتأكيد على ثقافتهم الموسوعية, ولكننا على الأقل نؤمن بأن قيسًا لابد وأنه عانى من ذلك الحب الخرافي للدرجة التي أوحت للآخرين بأنه قد جن, وشجعت الكثيرين منهم فيما بعد على وضع مثل تلك الحكايات أو المبالغة في رسم يومياتها والتوسع في دقائق تفاصيلها, حتى صارت مثلاً أدبيًا على ما يفعله الحب بالمحبين, وما يمكن أن يؤدي إليه من جنون أكيد.

وإذا كانت تلك المعلومة, قد ازدهرت في إطار الشعر وقصص الشعراء, فيبدو أن الحديث قد التفت أخيرًا ليخرجها من ذلك الإطار ويؤكدها بالتجربة والبرهان في المختبرات العلمية.

وعلى هذا الصعيد, قرأت أخيرًا خبرًا عن دراسة علمية جديدة تشير إلى أن الحب شكل أصيل من أشكال المرض, بل هو نوع من الجنون الذي يؤثر في عمل الدماغ الطبيعي, ما يدفع المحبين إلى السلوك اللاعقلاني, أو غير العادي, أو الغامض مثل البكاء دون سبب أو فقدان الشهية فجأة, وهو ما يمكن للمراقبين اعتباره اختلالاً عقليًا. والدليل, طبقًا لبحث أجرته مجموعة من أطباء الأعصاب المشهورين, يكمن في منطقة من الدماغ تلعب دور (ترمومتر العواطف) ويقف وراءها, نتيجة الغرام, كمية كبيرة من (الدوبامين) وهي مادة كيماوية ينتجها جسم الإنسان لدى حاجته إلى العاطفة.

وتستند النتائج التي نُشرت في مجلة (Journal Of Neurophysiology) إلى تجربة أجراها الاختصاصيون في نيويورك ونيوجيرسي على مجموعة من الطلاب الجامعيين, كانوا يعيشون الأسابيع أو الشهور الأولى من (قصّة حبهم).

وعبر الآلاف من صور أدمغة هؤلاء العشاق, الملتقطة عن طريق ناسخ ضوئي, خلص الباحثون إلى أن الحب الرومانسي يشتق من منطقة في الدماغ التي تختلف عن تلك الخاصة بالإثارة الجنسية. وحسب علم الأعصاب, فإن الحب يشبه الجوع والعطش أو الرغبة بحقن جرعة من المخدرات عند المدمنين. ومع مرور الوقت, فإن عاصفة إنتاج مادة (الدوبامين) تخف تدريجيًا لكن دون أن تزول كليًا. كما أن هجر الحبيب أيضًا له تأثير عصبي مماثل أو أكثر قوة من ذلك المُثار من شرارة الحب الأولى.

وأخيرًا, تشير التجربة الجديدة إلى أن الدوائر العصبية, عندما ينتهي الحب, تبقى سليمة وجاهزة للاهتياج مجددًا, بانتظار حب جديد, أي أن هذه التجربة لا تعترف بما قاله أبو تمام بأن الحب لا يكون إلا للحبيب الأول!!

وإذا كنا غير قادرين على إهداء هذه المعلومات الجديدة لقيس الذي انتقل إلى رحمة ربه بعيدًا عن جحيم الحب وجنونه الأكيد - علميًا هذه المرة - منذ ما يقرب من ألف وأربعمائة سنة, فإننا قادرون على إهدائها لأقرب عاشق إلينا.. ولن نتعب في البحث عنه.. فهم كثر, رغم أني أعتقد جازمة أنهم غير محتاجين إلى من يثبت لهم أحاسيسهم بتجارب مختبرية, فيكفيهم ما قاله إمامهم الذي علمهم الجنون قيس بن الملوح عندما عرّض البعض بحالته وكأنه يعيره بها, فقال: يسمونني المجنون حين يرونني نعم بي من ليلى الغداة جنون!!.

 

سعدية مفرح