من أجل حوار حضاري عربي

من أجل حوار حضاري عربي

لماذا لم يعد الإسهام العربي في تطور الحضارة العالمية بالمستوى المطلوب وكيف يمكن الخروج من عباءة تهم الإرهاب إلى تجدد الحوار?

يمكن القول إن القرنين الـ 19 والـ 20 كانا زمن سيطرة الحضارة الغربية علميًا وتعاونيًا وسياسيًا. وينطبق هذا القول بدرجة أكبر على القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين. ففي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت حضارات أخرى تعود إلى الظهور أو التأثير على مجريات الأمور الثقافية أو الفكرية أو العلمية أو التقانية وعلى ساحة الأحداث السياسية, ولكن بدرجات مختلفة, مثل الحضارة الصينية, والحضارة الهندية, والحضارة اليابانية وغيرها من الحضارات والثقافات الآسيوية, وكذلك الحضارة العربية الإسلامية. ولقد كان النصف الثاني من القرن العشرين زمن الاستقلال, فقد استقل كثير من بلدان العالم الثالث من نير الاحتلال الأوربي الغربي, إذ أخذت بلاد محورية في ذلك العالم, مثل الهند ومصر وإندونيسيا والصين, تطرح مفاهيم وأفكارًا وأساليب للعمل والتحرر, بدت جديدة ومختلفة عن تلك التي استقرت عبر مرحلة السيطرة الطويلة للحضارة الغربية, مثل مفاهيم المساواة والاستقلال والحرية والتنمية وغيرها من المفاهيم التي استهدفت تكريس قيمة المساواة والتكافؤ بين الحضارات والثقافات والدول بهدف ولادة عالم جديد من الاستعمار والتمييز العنصري والسيطرة والهيمنة.

وإذا كان النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد الثورة العلمية والتقانية الثالثة, فإن الثورة الصناعية الأولى (ثورة البخار) والثورة الصناعية الثانية (ثورة الصلب والفحم) كانتا نتاجًا خالصًا للعقل والفكر الغربي. وعرفت الثورة الثالثة, أي المعلوماتية وثورة الاتصالات وتقانة الفضاء والالكترونيات الدقيقة والتقانة الحيوية والهندسية والوراثية - عرفت مساهمات متنامية للحضارات غير الغربية - وبخاصة الآسيوية منها وبالذات الحضارة العربية الإسلامية - في مجالات الإبداع العلمي والابتكار التقاني والتجديد في فنون الإنتاج والتسويق.

لقد كانت مساهمات الحضارات الآسيوية والحضارة العربية الإسلامية في الجانب الثقافي من البناء الحضاري للإنسان خلال الأعوام الخمسين الماضية, أقل من مساهماتها في الجوانب العلمية والتقانية والاقتصادية. ويعود ذلك إلى الانتشار المحدود للغات الآسيوية والعربية على مستوى العالم, وإلى سيطرة اللغة الإنجليزية, ومن ثم الثقافة الأنجلوساكسونية, على التبادل الثقافي العالمي, وبصفة خاصة الشبكة العالمية (الإنترنت) والتقانة الحديثة.

تأثير الحرب الباردة

وإذا كان إسهام الحضارات الآسيوية ومنها الحضارة العربية الإسلامية في مسيرة التقدم الإنساني, ودورها فيما دار من حوار, لم يأخذا حظهما من التعريف والإعلام, فإن الحرب الباردة بين رافدين من روافد الحضارة الغربية, هما الرافد الليبرالي المسيطر على أمريكا الشمالية وغربي أوربا, والرافد الماركسي الذي كان مسيطرًا على الاتحاد السوفييتي السابق ومعسكره في أوربا الشرقية, فرضت نفسها على جدول الأعمال الأمني والسياسي, وهو ما أخفى بعض مساهمات الحضارات غير الغربية في مسيرة الحضارة الإنسانية ومنها الحضارة العربية الإسلامية, رغم تنامي تلك المساهمات بعد استقلال بعض البلدان الكبيرة صاحبة التراث الحضاري العريق والقدرة العلمية والثقافية المهمة. وهكذا أدى اختباء الصراع الأمريكي - السوفييتي إلى إعادة رسم الخارطة الحضارية للعالم على النحو الذي يعطي لأصحاب الحضارات غير الغربية مجالاً أرحب للفعل والتأثير والإسهام في مسيرة تقدم البشرية, ما دفع بعض المفكرين في الغرب - وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية - إلى طرح مفاهيم صدام الحضارات ونهاية التاريخ. فمثل هذه المفاهيم والنظريات قد تكون ولدت في غمرة نشوة الانتصار على الاتحاد السوفييتي السابق ومعسكره الأوربي, من دون حرب ساخنة, وبشكل مفاجئ ما دفع إلى التصور بأن التاريخ قد انتهى عند ذلك الانتصار, أو أن تلك المفاهيم والنظريات قد تكون ولدت لتعبر عن رغبة في تجميد أو تحديد حركة الحضارات الأخرى تجاه الحضارة الغربية المسيطرة, بحيث لا تشكل تهديدًا لها في المستقبل, أو أن الحضارات والثقافات الأخرى: الكونفوشية أو البوذية أو اليابانية أو الإفريقية أو اللاتينية أو العربية الإسلامية وغيرها, ستحل محل الماركسية في المواجهة مع الغرب.

لقد علت أصوات في الولايات المتحدة الأمريكية, تتحدث عن تفوقها وهيمنتها, إلى حد أن السيطرة على العالم يجب أن تكون في لحظة الأحادية القطبية. وهذه الأصوات هي نفسها تتصور تهديدات قائمة; وهي تهديدات لا وجود لها, فترى اختلالاً لمصلحة الغرب والولايات المتحدة, في ميزان القوى المادي (العسكري والاقتصادي والعلمي والتقاني). هذا يعني أن تساهم شعوب غير غربية في مسيرة الحضارة الإنسانية, وبخاصة في شقها الثقافي, فالواقع لا يجوز أن يحجب عن أنظارنا حركة التاريخ التي تفسح مجالاً رحبًا للمساهمات الحضارية غير الغربية. ولم تكن مسيرة الحضارة الإنسانية عند بدايات القرن الحادي والعشرين في الثقافة أو العلم أو التقانة أو الفكر مثلها في النصف الثاني من القرن الماضي, فقد أسهمت بلاد مثل اليابان أو الصين أو الهند أو إندونيسيا أو البلاد العربية الإسلامية في مسيرة الحضارة الإنسانية.

وإذا كان الاستعمار في القرن 19 والقرن 20 حتى الستينيات منه قد خلق صدامًا بين الغرب المستعمِر (بكسر الميم الثانية) وباقي المعمورة المستعمَر (بفتح الميم الثانية), فإن انتهاء ظاهرة الاستعمار كان قد خلق أملاً بانتهاء الصدام بين الغرب والآخرين وبخاصة الحضارة العربية الإسلامية, وأملاً ببدء مرحلة جديدة من التعاون والحوار. ولكن تعثر عملية التنمية لسوء الإدارة أو الفساد أو استمرار بقاء تأثيرات الحقبة الاستعمارية ونزوع القوى الغربية نحو استبدال الاستعمار الاحتلالي باستعمار اقتصادي وتقاني, جعل مظاهر الاحتجاج على الواقع الاجتماعي - السياسي تشتد, وكان الإرهاب أحد تلك المظاهر. وكان للإرهاب اثاره المباشرة على العلاقة بين الغرب وغيره, فاتجهت ظاهرة الإرهاب, وبخاصة في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته إلى الغرب فاستهدفته. وقد انعكست تأثيرات الظاهرة الإرهابية داخل الحضارة الواحدة ذاتها.

لا شك في أن أحداث 11/9/2001 في الولايات المتحدة الأمريكية تجسّد نقلة نوعية لتطور الظاهرة الإرهابية. فهي المرة الأولى التي تعاني فيها الولايات المتحدة الأمريكية من هجمات كبرى جيدة التخطيط والتنفيذ. فقد استهدفت تلك الهجمات جميع رموز القوة للدولة العظمى, التي كانت ترى أنها غير قابلة للاختراق والتهديد. ولكن أحداث 11/9/2001 هي الأحداث الأكبر والأخطر. وانصرف تفكير المسئولين إلى أن الأحداث من تدبير وتنفيذ منظمة إرهابية كبيرة, وإلى أن حتمية الصدام بين الحضارة الغربية, وغيرها من الحضارات, وبخاصة العربية الإسلامية, أمر لا مندوحة عنه.

لقد دشنت تلك الأحداث مفاهيم وسياسات جديدة في استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي, وبخاصة في المذهب العسكري الأمريكي; فقد تبنى ذلك المذهب مبدأ الضربات الوقائية, وأسقط استراتيجية الردع, واستعاض عنها باستراتيجية الدفاع الصاروخي, الذي دفع ذلك الدفاع إلى احتلال أفغانستان ثم العراق.

وفيما يخص الحلفاء, سعت الإدارة الأمريكية الحالية إلى تعدد الأطراف المشاركة في احتلال أفغانستان والعراق. لقد أصبح الموقف المعلن للولايات المتحدة هو تفضيل التحرك متعدد الأطراف. لقد أكدت أحداث 11/9/2001 أولوية الأداة العسكرية في التحرك الأمريكي لمواجهة الإرهاب, وقسمت دول العالم إلى قسمين: (محور الشر) ويضم الدول التي لم تقف مع الإدارة الأمريكية الحالية في اعتداءاتها واحتلالاتها, و(محور الخير والحق) ويضم الدول التي تقف مع الإدارة الأمريكية الحالية.

وفي خلفية هذه التغييرات العميقة يكمن التغير المهم في الإدراك الأمني الأمريكي الرسمي. يقول الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في رسالته التي وجهها إلى الكونغرس الأمريكي في 1/9/2002 (... إن شبكات خفية من الأفراد بإمكانها جلب الفوضى والمعاناة الكبيرة لشواطئنا, وذلك بتكلفة تقل عن ثمن شرائنا دبابة واحدة. إن الإرهابيين منظمون من أجل اختراق المجتمعات المفتوحة وتحويل التقانات العصرية ضدنا...) فالإرهاب أصبح المصدر الأول والأخطر لتهديد الولايات المتحدة الأمريكية, وهو تهديد أخطر من التهديد الذي كانت تمثله دولة عظمى, مثل الاتحاد السوفييتي السابق ومعسكره الأوربي.

ويتضح من تلك الوثيقة المكانة المتقدمة التي تعطيها إدارة الرئيس الأمريكي إلى التحرك الأمريكي المنفرد وإلى تطبيق استراتيجية الضربات الوقائية. فالإدارة الأمريكية الحالية ستبذل كل الجهد للحصول على مساندة الأسرة الدولية, ولكنها لن تتردد في التحرك منفردة إذا كان ذلك ضروريًا لممارسة حقها في الدفاع عن النفس. لقد أسرعت الإدارة الأمريكية الحالية إلى مجلس الأمن, واستصدرت من المجلس القرار ذا الرقم 1373 والتاريخ 28/9/2001 بناء على الفصل السابع من الميثاق, وطلبت من الدول أن تحرِّم على رعاياها القيام بتوفير الأموال للأعمال الإرهابية وأن تقوم بتجميد الأموال أو الموارد الاقتصادية لأشخاص يرتكبون أعمالاً إرهابية; ويدعو القرار الدول إلى عدم تقديم أي شكل من أشكال الدعم إلى الأشخاص الضالعين في الأعمال الإرهابية أو تقديم الملاذ الآمن لهم.

أخطر التهديدات

ومن الملاحظ أن الإرهاب هو أخطر التهديدات وأكثرها إلحاحًا على الجماعة الدولية, أو على الدول فرادى. وهو لا يتمثل في نظام حكم بعينه ولا فرد ولا دين ولا أيديولوجية بعينها, وإنما هو عنف مقصود يرتكب لدوافع سياسية ضد أبرياء. وهكذا لا يعبأ تعريف الإرهاب - كما ورد في رسالة الرئيس الأمريكي بوش إلى الكونغرس في 17/9/2002 - بما إذا كانت الدوافع السياسية الكامنة وراء العنف المستخدم ضد أبرياء هي دوافع مشروعة أو غير مشروعة, ومن هنا زال التمييز بين الإرهاب وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال وسلطته, فعم الخلط في عملية تعريف الإرهاب, وبخاصة بعد أحداث 11/9/2001 وأصبحت منظمات المقاومة المشروعة للاحتلال منظمات إرهابية, وأصبحت تصفيتها وتصفية أعمال المقاومة شرطًا لاستئناف مسيرة السلام. وطبقًا لوثيقة المذهب العسكري الأمريكي الجديد, الصادرة في سبتمبر 2002 ثمة نتائج مشروعة تحول دون تحقق سلام دائم في بعض النزاعات وتستحق تلك الأوضاع أن تعالج. ولكن ليس هناك قضية أو سبب يبرر الإرهاب. الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في مكافحة الإرهاب لا تفرق مطلقًا بين الإرهابيين والمقاومين الوطنيين.

تختلف المعركة ضد الإرهاب عن أي حرب أخرى عرفها التاريخ. فالحرب ضد الإرهاب تجري على جبهات كثيرة وعبر فترة طويلة. فهناك آلاف من الإرهابيين المنتشرين في مختلف قارات الكرة الأرضية. ومن الطبيعي أن تعطى الأولوية لتدمير المنظمات الإرهابية وأنظمة السيطرة والاتصال فيها, وكذلك وسائل الدعم المادي والمالي بما يفقد تلك المنظمات القدرة على التخطيط والعمل والحياة.

وتتجه الاستراتيجية الأمريكية إلى التركيز على العالم العربي الإسلامي وحكوماته, باعتبار أن الظروف والأوضاع التي تؤدي إلى ظهور الإرهاب أو دعمه توجد في البلاد العربية الإسلامية, وذلك لضمان ألا تشكل تلك الظروف والأوضاع أرضًًا خصبة لنشوء الإرهاب.

والإرهاب ظاهرة دولية تبين أن ليس لها دين ولا جنسية. فالدول تعانيه بدرجات متفاوتة, ولقد كانت هجمات 11/9/2001 ذروة تلك الظاهرة, انحسرت, إلى حد ما, في العام التالي, بالرغم من أن الوثيقة الأمريكية قد حذرت من أن جماعة (القاعدة) قد وسعت انتشارها على المستوى العالمي بعد حرب أفغانستان. ولم تفقد الجماعة, حسب الوثيقة الأمريكية, القدرة على القيام بهجمات مؤثرة. وعلى هذا, فقد كان من الضروري أن تتعاون الدول والأمم والشعوب كافة في محاربة هذه الظاهرة الدولية التي هي الإرهاب.

لقد لجأت الإدارة الأمريكية الحالية إلى عدم محاكمة الإرهابيين, فلم تقدم أي دليل على أن جماعة القاعدة قد ارتكبت هذه الهجمات, كما أن تقسيم العالم إلى فريقين و(من ليس معنا فهو ضدنا) هو تقسيم مختل. فمن ليس مع الولايات المتحدة الأمريكية ليس بالضرورة مع الإرهاب. وهذا المنطق المختل هو الذي يؤدي إلى شعور المواطن العربي الإسلامي بالإحباط السياسي وتوظيفه لمعاداة الإدارة الأمريكية الحالية.

التعاون الدولي

وإذا كان الإرهاب مشكلة عالمية فإن النتيجة المنطقية هي أن التعاون الدولي هو الصورة الأنسب لتحقيق نتائج جيدة في مكافحة هذه المشكلة العالمية التي تحاربها الإدارة الأمريكية الحالية. وهي في حربها هذه تقتصر على محاربة الأعراض والمظاهر دون التصدي للدوافع والجذور السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحضارية للمشكلة. وهو ما يوحي به الحوار العربي بين الحضارات والثقافات العلمية و(حروب الصليبيين في القرون الوسطى) واعتداءات الصهيونيين على الأراضي العربية. وهذا يعني أن محاربة الإرهاب غطاء لشن حروب على دول أو ثقافات أخرى. ولمجلس الأمن ومن مسئوليته أن يقرر بما إذا كانت دولة ما ترعى الإرهاب. ومن ثم تستوجب العقاب أم لا. إن ذلك عودة إلى النظام الدولي الذي ارتضيناه. والإرهاب, كمشكلة, عالمية, يمكن أن يكون موضوعًا للحوار العربي بين الحضارات والثقافات العالمية.

ولا توفر الإدارة الأمريكية الحالية مناسبة للتذكير بالإنجازات الكثيرة التي تحققت في العالم العربي الإسلامي والتي تنسق مع ما ترسمه واشنطن للمنطقة. فالرئيس جورج بوش الابن ينتظر من الشرق الأوسط في ولايته الثانية أن تسجل المنطقة نجاحات ديمقراطية تبرر منطق السياسة الأمريكية الجديدة وتؤسس لمنطق آخر يستوعب أخطاء السياسة الأمريكية في المنطقة خلال السنين الماضية, وبخاصة في فترة السنوات الستين الماضية.

 

هيثم الكيلاني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات