ملف: شوقي بزيع.. مدن الآخرين
ملف: شوقي بزيع.. مدن الآخرين
مجاز الخلق في شعر شوقي بزيع قاربت تجربة شوقي بزيع نقديًا أكثر من مرة، ولفتني فيها دائمًا نضج هذا الرحيق الشعري المعسول، وهو يكاد يتخمّر فيها فيسكر قراءه حتى يلهيهم عن نبرته المفتونة بذاتها، وهي تراود الآخرين على عشقها، وتسكب في عروقهم شهوات اللغة وصبوات الحياة وجنون الجمال المكتمل، المكتفي بنفسه. وعندما أهداني مجموعته الأخيرة «مدن الآخرين» تورط في البوح لي قائلاً: «كل ما هو ممتلك لا يعوّل عليه، لذلك فإن مدن الآخرين، كنساء الآخرين، هي التي تهيئ للرغبات غير المتحققة أكثر الحسرات صلة بالكتابة» وأشهد أنه بذكاء نفاذ، وشجاعة فائقة يضع قلمه في قلب جرحه الشعري إبداعًا ورؤية بهذه الكلمات التلقائية في إهداء عابر، يجسد طريقته ويبرر تاريخه الغزلي، جاعلاً من الحسرات وقودًا لهذا الظمأ الأزلي للجمال والفتنة الأنثوية الموصولة دائمًا بعوالم الفن، فيرفعها إلى مقام عليّ من الإبداع الجليل. بيد أني لم أكد أمضي في التذوق المستمتع بهذه المجموعة الرابعة عشر من دواوينه حتى تراءت لي سطور قرأتها بلغتها الأصلية في مقتبل الشباب، يصف فيها العبقري الإسباني «فيديريكو جارثيا لوركا» تجربته في أخطر طردية يتناولها شاعر، وهي رحلته في اصطياد صوره وقنص رموزه وتشكيل عالمه. وقد ذكرتني حينئذ بالرحلة النبوية الشريفة في تراثنا التخييلي الثري خلال المعراج، وكيف تعين عليه أن يعرض عن الغاويات ولا يخدع بنداء الحوريات الساحرات عن طريقه، فقمت بنقلها للعربية ثم عزفت عن نشرها حتى فقدت، والمدهش أنها تنهض في ذاكرتي الآن عند معاينة النصوص الأولى في مجموعة شوقي بزيع الأصيلة التي لا أحسب أنه نظر فيها إلى شيء سوى رؤاه ومعاينته، والتفرس في معالم عالمه المتميز، ومخاطبة نفسه التي تجمع الآخرين في إهابها لتدنيهم منها وتقصيهم عنها في الآن ذاته، في حركة جدلية هي لب عملية الإبداع. صيد اللحظات الشعرية: يقول شوقي بزيع في مطلع ديوانه، في قصيدة طريفة العنوان «كيف تنصب فخًا لما لا يرى»: «لا طريق هنا واضح / كي تشير إلى هدف / بالبنان بينما يقول «لوركا» في استهلال وصف معاينته اللحظة ذاتها بكلمات منثورة، وإن كانت مضمخة بعطر الشعر كما سنرى ما نصه: «إن الشاعر الذي يشرع في كتابة قصيدة ما، طبقًا لتجربتي الخاصة، يعتريه شعور مبهم بأنه ذاهب إلى رحلة صيد ليلية، في غابة نائية، ينوس قلبه خوف غير مفهوم، ولكي يهدأ، عليه دائمًا أن يجرع كأس ماء بارد، وأن يخط بريشته خطوطًا سوداء بلا معنى، أقول سوداء: دعوني أبوح لكم بشيء حميم، أنا لا أستخدم أي حبر ملوّن، يذهب الشاعر إلى رحلة صيد، يغش بصره هواء بارد شفيف، يرن البدر كقرص ناعم من المعدن في صمت ذؤابات الشجر الليلي». الحالات مختلفة، لكن الأوصاف متشابهة، مما يسمح لنا برؤية التقابل لا القرابة التأثيرية، فالشاعران يضربان في العماء المضبب الليلي، حيث تختلط الرؤى، يركنان إلى الماء البارد، أو القهوة الباردة، يتمسكان بوحشة الحبر الأسود. ثم يمضيان إلى أبعد من ذلك، فيقول شوقي بزيع: «ثم برق هنا خُلبّي / فخاتله أما لوركا فهو أشد عنادًا ومجالدة عندما يقول: «تبدو غزلان بيضاء في ضوء الجذوع الوضاحة، عندئذ ينتفض الليل بأجمعه تحت همهماته، مياه عميقة وهادرة تموج تحت الجذوع، لابد من الخروج، وهذه هي أخطر لحظات الشاعر. عليه أن يحمل خارطة بالأماكن التي سيجوبها، وأن يتذرع بالسكينة حيال آلاف الأشكال الجميلة، والأشكال الزائفة القبيحة المقنعة حين تبدو أمام عينيه، عليه أن يغمضهما كما فعل عوليس مع الحوريات الفاتنات». ولنتأمل كيف تنشب في الذاكرة الإنسانية صورة الفاتنات عند عوليس، وتتراءى الغاويات في قصص الأنبياء كذلك، ثم لا تلبث أن تستقر في معمعة الوحي البشري لدى الشعراء بدورهم في محنتهم عند الخلق والولادة بأشكال مختلفة. لكن لوركا يمضي قائلاً: «لابد للشاعر أن يطلق سهامه تجاه الاستعارات الحية لا الزائفة المتنكرة المصاحبة لها، لحظة مفعمة بالخطر إن استسلم لها الشاعر، لأنه حينئذ لن يقيم عمله أبدًا، عليه أن يظل صامدًا في وجه التمويه كي يصل بحذر إلى اللحم الحيّ النابض، المنسجم مع خطة قصيدته». حينئذ لابد أن يصدق عليه ما يصفه شوقي بزيع بدوره قائلاً: «بغتة وعلى حين غرة / تتكشف شيئًا فشيئًا لك هذه العودة الظافرة، المشرعة على الشعر الحقيقي، الناجية من نداءات الغواية. المهتدية بشاطئ الخطة المصممة بوعي، هي ما كان ينشده لوركا في رحلته إلى غابة الشعر، وما ينشده شوقي في رحلته البرية، وهما معا يتوافقان مع الشاعر العربي القديم الذي وصف من قبل رحلة صيد القوافي أيضًا قائلاً: أبيت بأبواب القوافي كأنما / أصادي بها سربا من الوحش نُزَّعا دون أن تكون هناك علاقة بين لوركا وسويد بن كراع. الموسيقى تتشعّر: أظنه هو أبونصر الفارابي الذي قال إن الإنسان عندما أراد أن يعبّر عن نفسه اخترع اللغة، ثم بقيت في نفسه بقية لم تستطع اللغة أداءها فاخترع الموسيقى للتعبير عنها. وإذا كان الشعر يمثل أعلى درجات اللغة، فإن الموسيقى هي التي تشاطره فوق السحب. وقد أراد شوقي بزيع أن يترجم غناء مرسيل خليفة شعرًا، ليرد موسيقاه إلى الكلمات مرة أخرى وهو نابع منها، ليعيده إلى اللغة البكر المشتركة بين فضاءي النغم والكلمات. وسأحاول أن أقرأ قصيدة شوقي دون إشارة إلى قصائد مناظرة لها أبدعها لوركا أيضًا عن الغناء العميق للفلامنكو الأندلسي، مع أنها تستدعيها بشدة في وجداني، كي أكف عن تعقّب التقابلات العفوية، وأخلص إلى التمعن في ملامح القصيدة العربية وحدها. والخطة التي يبني عليها شوقي عمله تتشكّل من عناقيد المجازات التصويرية المكثفة منظومة في عقد سردي مطعم بفصوص ماسيّة من التشبيهات اللامعة. فهو صانع جواهر من الطراز الأول، يستهلّ قصيدته بعنوان غزلي لعوب: «كهبوب الحنين على امرأة راحلة» ثم يوجه خطابه للموسيقار الملتزم الموهوب: «على هدى أمواج صوتك / ترفو النساء الوحيدات استحضار أسطورة «بينيلوبي» الإغريقية، التي «نقضت غزلها أنكاشا» كي تصدّ العشاق عن بابها، في انتظار عودة عوليس من رحلته الملحمية، يربطها الشاعر بالسماء الدامعة العرية، وهي تؤذن في غنائها ببياض الصبح كي يلتحم بياسمين القرى، كل هذا يشف عما لا يمكن قوله عن أثر الموسيقى في المتلقي. لكنه قد لا يلتئم في الظاهر مع فكرة مضيّ القصائد إلى يتمها في الغناء، اللهم إلا إذا كان تفقد أبيها الزول وهو الشاعر لتدخل في ولاء أبيها الثاني وهو المغني، هكذا نحاول أن نرفو الدلالات التي ينقض بعضها بعضًا مثل غزل بينيلوبي في الأسطورة الإغريقية لثياب التشهّي المنقوص الذي يعيد بعثها من جديد، ويهبها من لحم الموسيقى ودم الغناء ما يجعلها خلقًا آخر. فلا شيء يأتي عفوًا في الشعر المحكم، وكما أن الشاعر عليه أن يمضي دائمًا مع خارطة مقاصده، فالقارئ بدوره يبحث عن هذه البوصلة التي تهديه في إستراتيجية القراءة. لكن الصورة تزيد شفافية في المقطع التالي: «كأعذب ما تحمل الأرض في جوفها / من ثمار يذهب الشاعر بعيدًا في التماس أصداء الغناء في أعماق الروح، فهو خصب كأعذب ثمار الأرض، ولود بالتحنان بأبعد من طاقة الأمهات على الحب، يعد قرابة بين السماء والأرض، يحرر الإنسان من قيد الموت، وهو يشتعل بالرؤى ويطرح كبار الأسئلة. تقوم لازمة التقفية باختتام الجملة الشعرية التي تضج بشذرات الدلالة وتفيض عن حدود اللغة لتستغرق في استحضار حالة من الوجد بالصوت والانصهار في أتون حرارته قائلاً: «هو صوتك / ينساب آنا شفيفا ليس في يدنا من حصاد سوى لعبة الإيحاءات المبهمة والظلال المرتعشة لتلك الأوصاف البادهة الخفية، فالصوت ينساب حزينًا كالبحيرات الفاقدة للمصبات، وجارحا كالجمال الصاعق حينًا، أو كسولاً مثل انحناءة ثغر شحيح لأداء قبلة روتينية مهملة. هذا التراوح الإيقاعي بين أعتى النغمات وأشجاها هو ما يحاول الشاعر الإمساك به. وهكذا نجد القصيدة بخارطتها الإيقاعية والدلالية تستكمل اثنتي عشرة مسافة مقطعية، تحدها القوافي العفوية المتوالية كل أحد عشر سطرًا تقريبًا، مما يمثل قفزة متوالية في الموسيقى والدلالة، ليكون ختامها إطلالة على العمر بأكمله: «من إذن غير صوتك / يمضي بأعمارنا خببا الغناء الشعري هو الذي يحدو العمر ويعمره ويتحقق فيه مرتقيًا إلى أجواز السماء ومحولاً الموسيقى إلى جغرافيا الروح، تعيدها إلى جنتها الأولى قبل أن تسقط بها من جديد حتى تنتهي إلى أرض ميعادها المقبل. هكذا ينداح شعر شوقي بزيع ما بين التعبيرية التي توشك أن تستنفد طاقتها على البيان، إلى تخوم منطقة مبهمة في التجريد الشعري أسميتها في بعض دراساتي الأعراف، حيث نتجاوز فيها التجربة المباشرة لنخترق عوالم الغيب، ونتطهّر بماء الشعر المغموس بدم الموسيقى الساخنة.
قراءة في «مدن الآخرين»
والغيوم التي تتفتح عريانة / في فضاء التخيّل
سرعان ما تتلاشى / كأبخرة الساحرات
الوجوه مُغيّبة في اختلاط الرؤى
والإشارات لا تستطيع الركون / إلى صورة أو مكان
وحشة الحبر / إذ تتحلق ثكلى وسوداء / فوق الفراغ المحلق
فنجان قهوتك المر / تشربه باردًا»
ثمة ورد بلا رائحة / فاحترس من وقوعك في سُمّه
كيف تنجو إذا لم تجد / حيث لا بر يومئ
أرضا لترتيب فوضاك / في جملة واضحة»
المفردات الحرون / وتمتلئ الروح بالأخيلة
بغتة تنهض الرمم المهملة / من حضيض تلعثمها
والرياح التي أعوزتها / وقد ضاع ملاحها
حكمة الاحتكام إلى ساحل للرجوع
تثوب إلى رشدها / من جديد»
في ليلهن / ثياب التشهّي
السماء التي يقطر الدمع من عريها / في الأغاني
تزف انبلاج الصبح / إلى ياسمين القرى
والقصائد تمشي إلى يُتمها / دونما بَوْصَلَة»
تغني / بأكثر من طاقة الأمهات / على الحب
ترفع سقف المناجاة بين السماء والأرض..
وبالالتفاف المحرر من كل قيد / على الموت
يمحضك الجمر أسراره / وهو يشعل مغرورقًا بالرؤى حطب الأسئلة»
كحزن البحيرات في بحثها عبثا / عن مصبّ
وآونة جارحا / كالجمال الذي يصعق الروح
أو موهنا / كانحناءة ثغر شحيح الظلال
على قبلة مهملة»
وهي تنأى محدبة الظهر / نحو الكهولة؟ إلخ»
--------------------------------
* ناقد من مصر.