الكتاب الورقي والهجوم الإلكتروني

الكتاب الورقي والهجوم الإلكتروني

ظهر الكتاب الإلكتروني ودور النشر الإلكترونية, فهل يمكن أن يؤدي هذا إلى نهاية عصر الكتاب الورقي?

أتاح التقدم الإلكتروني الذي شهدناه في أيامنا هذه فرصًا هائلة على جميع مستويات الحياة الإنسانية, وكان مجال الطباعة والنشر من بين المجالات التي طرق التقدم الإلكتروني بابها بشدة. وبسرعة ظهر الكتاب الإلكتروني, وظهرت بعض دور النشر التي تخصصت في هذا النوع من النشر. وظهر في الأفق سؤال يطرح نفسه بإلحاح يقول: هل يمكن أن يؤدي الكتاب الإلكتروني إلى إعلان نهاية عصر الكتاب الورقي? وهل ستختفي صناعة الكتاب الورقي وكل ما يرتبط بها من ثقافة وتقاليد ومفاهيم, فضلاً عن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تنشأ بالضرورة عن غياب الكتاب الورقي? وهل يمكن تطبيق التصور نفسه على الصحف والمجلات الورقية?

قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال ذي الطبيعة المتشعبة, فإن السياق يقتضي الإشارة إلى أن الكتاب الورقي واحد من وسائط متعددة استخدمها الإنسان لنشر المعرفة, ونقل الأفكار, والتواصل الفكري والوجداني بين البشر. ومن هنا, فإن الحديث عن الكتاب بهذا الوصف يقتضي منا القيام بعرض سريع لتاريخ وسائل النشر الأخرى, والبحث عن مصائرها, وصولاً إلى ما نعتقد أنه الإجابة المناسبة عن السؤال الذي تم طرحه.

كان (الحكي) الشفوي, بطبيعة الحال, هو الوسيلة الأولى لنشر المعرفة, ونقل الأفكار والمعلومات والتواصل بين الناس في المجتمعات الأولى قبل اختراع الإنسان الكتابة. وظلت الشفاهية تؤدي وظيفتها عبر التاريخ الإنساني بكل مراحله وكل ما حمله من إنجازات حتى الآن. ذلك أن ابتكار الكتابة, ثم اختراع الأبجدية, قد يسّر للإنسان مهمة تداول المعرفة, وبات ممكنًا (تسجيل) المعلومات والأفكار والإنجاز الفكري للبشر لكي يصل إلى الأجيال التالية.

وعلى الرغم من أهمية الكتابة, وما أحدثته من طفرات في تاريخ الإنسانية, فإن البشر لم يستطيعوا الاستغناء عن وسيلة النشر الأولى, وهي الشفاهية, وظلت الشفاهية والكتابية وسيلتين متلازمتين في خدمة الإنسانية حتى الآن.

صراع الشفاهية والكتابية

ومع اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر, وانتشارها على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم المتقدم, تقدمت الوسيلة الكتابية على الوسيلة الشفاهية بمسافة هائلة, ولكنها لم تستطع القضاء عليها, ففي زمن الكتابة اليدوية, مرّت عملية الكتابة بتطورات عديدة, سواء من حيث مواد الكتابة, أو من حيث عملية الكتابة نفسها. فقد تطورت مواد الكتابة من الألواح الفخارية التي عرفتها بلاد الرافدين قديما, والأحجار التي عرفها قدماء المصريين, وعيدان البامبو التي عرفها الصينيون القدماء, إلى ورق البردي, ثم إلى الورق الذي سهل الأمور كثيرًا. كما أن الكتابة المسمارية القديمة, أو التصويرية (مثل الهيروغليفية) أخلت مكانها للكتابة الأبجدية التي انتشرت في معظم أرجاء العالم, وهكذا صارت الكتابة أسهل وأقدر على نقل الأفكار والمشاعر. ومع ذلك بقيت الشفاهية.

ففي زمن المخطوطات لم يكن ممكنًا إنتاج عدد كبير من النسخ من الكتاب الواحد, إذ كان المؤلف يملي كتابه على أحد المتمرسين بالكتابة لقاء أجر معين, وربما كان يكتب بنفسه نسخة واحدة, وفي كل الأحوال كان من النادر إنتاج عدد يتعدى أصابع اليد من الكتاب في حياة مؤلفه, ويتولى النساخون في الأجيال التالية إنتاج المزيد من النسخ. وكان معنى هذا, في التحليل الأخير, أن تبقى الشفاهية على قدر كبير من الأهمية, وأن يصير الحفظ والاستظهار فضيلة ثقافية مهمة, بل إن الكتب التي تم تدوينها كتابة حملت, في كثير من الأحيان, دلائل وآثار الشفاهية بتقاليدها التي تحاول إثارة انتباه السامعين بالغرائب والعجائب التي نجدها أحيانًا في طيات الكتب, سواء في تراثنا العربي الإسلامي, أو في التراث الأوربي.

وعلى الرغم من أن اختراع الطباعة قد سهّل عملية نشر الكتاب بأعداد كبيرة من النسخ, فإن الشفاهية ظلت تلعب دورها الثقافي, صحيح أن وظيفة حفظ الكتب واستظهارها كادت أن تختفي في مجال إنتاج الكتاب, ولكن حفظ الأشعار والحكايات, وتداولها شفاهًا ظل أمرًا مطلوبًا.

من ناحية أخرى, فإن ظهور الصحافة المطبوعة قضى على ظاهرة النداء في الأسواق وأماكن التجمعات في البلاد المختلفة لإعلان أوامر الحكام ونواهيهم, أو للإعلان عن الأخبار والحوادث, ولكن الصحف لم تستطع أن تقضي على ظاهرة الحكي والشفاهية لأسباب موضوعية أهمها أن عدد الأميين ونسبتهم في كثير من المجتمعات كان كبيرًا من ناحية, وأن سماع الحكايات والأخبار والمعلومات أيسر من قراءتها بالنسبة لكثير من الناس من ناحية أخرى.

هكذا, لم يستطع الكتاب الورقي ولا الصحيفة الورقية, القضاء على الوسيلة الأولى من وسائل المعرفة الإنسانية, وهي الشفاهية. ومع اختراع الراديو وانتشار الإذاعات, والتقدم العلمي الذي جعل الترانزستور ييسر وجود الراديو في كل مكان على الأرض, تقدمت الشفاهية مرة أخرى خطوات بعيدة. وظن البعض أن الإذاعة سوف تهدد مستقبل الصحيفة الورقية, وهو ما لم يحدث بأي حال من الأحوال.

المذياع ينتزع دورًا

لقد انتزع (الراديو) لنفسه دور (الراوي) عندما بدأ يذيع التمثيليات والمسلسلات حقًا, وفي مدينة مثل القاهرة كان هناك عدد من المقاهي التي تخصصت في استضافة الرواة الذين يحكون للرواد (سيرة الظاهر بيبرس), وعدد آخر من المقاهي التي تخصصت في السيرة الهلالية, وأدى انتشار الراديو إلى اختفاء هؤلاء الرواة تدريجيًا من مقاهي القاهرة لكنه لم يؤد إلى القضاء على الرواة وحكاياتهم التي ظلت تلعب دورها حتى يومنا هذا في الريف المصري وفي الموالد التي تقام في شتى أرجاء الديار المصرية. وبذلك سارت (الشفاهية) ممثلة في الإذاعة, إلى جانب (الكتابية) ممثلة في الصحف والمجلات, جنبًا إلى جنب في أداء الوظيفة الثقافية الاجتماعية نفسها.بل إن السينما لعبت دورًا مهمًا بالصورة إلى جانب الكلمة المكتوبة والكلمة المسموعة, وقد حكى لي أبي - رحمه الله - أنه كانت بالقاهرة زمن السينما الصامتة عدة دور سينما في كل منها رجل مهمته شرح أحداث الفيلم الصامت لجمهور المشاهدين في السينما, وقد عُرف هذا الرجل آنذاك باسم (المفهماتي) أي الذي يتولى مهمة إفهام الجمهور ما يجري أمام عيونهم على الشاشة الفضية. وقد اشتهرت بعض دور السينما بأن (المفهماتي) فيها بارع وشاطر فكانت تجتذب جمهورًا أكبر. وعندما نطقت السينما حملت الصورة والكلمة للناس بعض ما كانت تحمله الصحف والإذاعات, ولكنها لم تستطع أن تقوم بالدور الثقافي الاجتماعي وحدها. وعلى الرغم من أن بعض الروايات التي ظهرت في كتب قد تحولت إلى أفلام, فإن الناس ظلوا يشترون الكتب التي تحمل بين صفحاتها هذه الروايات لأسباب كثيرة أهمها الحميمية التي تميز العلاقة بين الإنسان والكتاب, والحرية التي يوفرها الكتاب للقارئ في التخيل وفي التعامل مع الكتاب نفسه, بشكل لا يمكن أن يتحقق في صالة العرض السينمائي, أو من خلال الراديو.

كانت تلك كلها وسائل إعلامية مضافة, ولم تكن خصمًا من رصيد الوسائل التي كانت موجودة من قبل, يصدق هذا أيضًا على التلفزيون الذي ظن الناس أنه سوف يحتل مكانة الراديو ويقضي عليه, وأنه سوف يلغي دور السينما في المجتمع. ولم يحدث هذا ولا ذاك, وبقيت الإذاعة, وبقيت السينما وبقي التلفزيون, وبقيت الصحيفة, وبقي الكتاب.

تنوع وسائل الثقافة

إن تنوع الحياة الاجتماعية في العصر الحديث استوجب تنوع أدوات الثقافة والإعلام, ولم يحدث أبدًا أن قضى الجديد على القديم, وإنما أضاف إليه وطوره في خدمة المجتمع والإنسان الفرد. ويمكن أن نقدم مثالاً إضافيًا على صدق ما نقول: نحن نستمع إلى نشرة الأخبار من الإذاعة, ونراها على شاشة التلفزيون ومع ذلك نبحث عن الصحيفة! بل إن كل الصحف تقريبًا, والإذاعات أيضًا, صارت لها مواقعها على شبكة الإنترنت, ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تكتفي بالموقع الإلكتروني بدلاً من الصحيفة, ولا يمكنك أن تستغني عن سماع الإذاعة البريطانية BBC مثلا بالاطلاع على موقعها الإلكتروني.

ولست أرى سببًا يمنع وجود الكتاب الورقي وتطوره وتطور دوره في خدمة الإنسان في ظل تطور ما يسمى بالكتاب الإلكتروني, فالصحبة والخصوصية والحرية التي يوفرها الكتاب الورقي لا يمكن أن نجدها برفقة الكتاب الإلكتروني, كما أن الكتاب الإلكتروني - في ظني - يمكن أن يحمل المعلومات السريعة ولكنه لا يحتمل الأفكار والفلسفات والمحاورات والمجادلات التي نجدها بين طيات الكتاب الورقي. وأظن أن كثيرًا ممن يتعاملون مع الكتاب الإلكتروني يحولونه إلى كتاب ورقي من نوع ما عندما يقومون بطباعة أجزاء منه يحتاجون إليها لكي تكون بحوزتهم.

فالكتاب الإلكتروني, أرخص في التكلفة, وأسهل في النشر والتوزيع, لكنه ليس بديلاً عن الكتاب الورقي بأي حال من الأحوال, وربما كانت ظروف النشر والتوزيع في الدول التي ظهر فيها الكتاب الإلكتروني أصلاً هي التي تدعم ما ذهبت إليه. وفي ظني أن النشر الورقي قد ازدهر على الرغم من وجود هذا النمط الإلكتروني لأسباب تتعلق بالجو الثقافي العام في تلك البلاد, والذي جعل القارئ يحتفظ بعلاقته الحميمة بالمطبوعات الورقية, على الرغم من التطور الهائل في إنتاج الوسائط الإلكترونية, بل إن إنتاج الكتاب الورقي في هذه البلاد تطوّر كمًا وكيفًا بشكل يشير إلى أن هذا الكتاب ليس في أزمة بسبب النشر الإلكتروني.

خلاصة القول إذن, أن وسائط نشر المعرفة والمعلومات تتطور بتطور الحياة الإنسانية ذاتها. وفي كل مرحلة يبتكر الإنسان وسيلة جديدة من وسائل النشر تتيح له مزيدًا من الحرية, وتغطي مناطق لم تسبق تغطيتها من قبل, وبذلك يضيف إلى ما هو موجود ولا يستغني عن الوسائل السابقة. والناظر في مجال النشر والإذاعة يجد أن الكلمة المسموعة والصورة تتعايشان جنبًا إلى جنب مع الكلمة المكتوبة, كما يجد أن الشفاهية تعيش إلى جانب الكتابية وإلى جوارهما الصورة المطبوعة والصورة المنقولة عبر شاشات التلفزيون أو شبكة الإنترنت.

يصدق هذا على العلاقة بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني, لأن القارئ يحتاج إلى الكتاب الورقي وإلى علاقته الحميمة به, كما يحتاج إلى الكتاب الإلكتروني, والتسهيلات التي يوفرها وخصوصًا تخزين المعلومات في حيز ضيق. وربما يخترع الإنسان وسيلة جديدة في هذا المجال, وساعتها ستكون إضافة لما هو موجود, ولن تكون خصمًا من حسابه.

 

قاسم عبده قاسم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات