العرب.. وفجوة المعرفة.. مأزق العقل العربي المتخصص

العرب.. وفجوة المعرفة.. مأزق العقل العربي المتخصص

نحن نواجه عصرًا جديدًا بعقلية غاية في القدم. هذا هو المأزق الذي نجد فيه أنفسنا كعرب ونحن نواجه متطلبات العصر الحديث. هناك فجوة معرفية تزداد هوتها كل يوم وتهدد بعزلنا على الجانب الآخر من التاريخ حيث لا يوجد مقاعد للمهمشين في هذا العالم.

تشمل هذه الفجوة كل مناحي الحياة المعاصرة من اقتصاد إلى سياسة وصناعة وإعلام وإبداع. وتبدأ (العربي) في هذا العدد بإلقاء الضوء من خلال سلسلة من المقالات يكتبها المتخصصون في كل جانب من هذه القضية الخطيرة التي تهم المستقبل العربي, وتأمل أن تفتح من خلالها بابًا واسعًا للنقاش وتبادل الآراء.

إن كان عصر النهضة الصناعية قد تطلب عقلاً جديدا فإن عصر تكنولوجيا المعلومات ومجتمع المعرفة يحتاج - بالقياس - إلى عقد مغاير تمامًا لعقل ما قبل النقلة المعلوماتية, لا يمكن من دونه تلبية مطالب هذا العصر والصمود أمام سيل التحديات الجسام التي يموج بها ذلك المجتمع. لقد أصبح العقل شاغل الجميع بعد أن بات مصير الأفراد والجماعات والأمم والشعوب رهنًا بنتاج العقول, وقدرة أصحابها على مواجهة القوى المجتمعية المسيطرة, التي أصبحت في ظلها سلطة العلم في يد من يملك السلطة, إلى حد كادت تتطابق فيه إرادة المعرفة مع إرادة القوة.

وإن كان كل عصر جديد يعني علمًا جديدًا, فهناك دلائل عديدة تشير إلى أن عصر تكنولوجيا المعلومات سوف يشطر مسار تطور العلم إلى شطرين: ما قبل عصر المعلومات وما بعده. لقد أطاحت هذه التكنولوجيا الساحقة بكثير من الأسس التي قامت عليها الصروح العلمية والفلسفية, وأعملت معول الهدم في الحواجز التي أدت فيما مضى إلى تشرذم النسق الشامل للمعرفة الإنسانية, وأحالت خريطتها إلى جزر علمية منعزلة وفصائل معرفية متفرقة ومتباينة, وهو الوضع الذي أدى - بدوره - إلى أن نظل نجهل الكثير من عقولنا وأجسادنا وحواسنا, ونشأتنا وتطورنا ولغاتنا, وكوننا وبيئتنا وبنية مجتمعاتنا, ومتاهة العلاقات التي تربط بين الكائنات والكيانات والأحداث والمفاهيم.

لقد أوضح المتغير المعلوماتي مدى عجز عقل إنسان اليوم عن التصدي للتعقد الشديد الذي أصبح السمة الغالبة لمعظم الظواهر الطبيعية والاجتماعية والنفسية والفكرية, حتى جاز للبعض أن يطلق على قرننا الحالي (قرن التعقد). وقناعة الكثيرين أن إنسان العصر لم تعد لديه رفاهية الوقت لكي يترك تطور عقله لصدفة الاحتمالات وعشوائية الطفرات, بل لا بد أن يوجه مسار هذا التطور بإرادة واعية تدرك - بوضوح - الصلة الوثيقة بين كيف يصنع العقل المعرفة وكيف تصنعه المعرفة. إن العقل يواجه في أيامنا تحديًا مزدوجًا ينطوي على تناقض جوهري حيث عليه - نتيجة الدينامية الحادة التي يتسم بها المجتمع الحديث - أن يستجيب بسرعة لهادر المتغيرات في مسار تقلباتها الوعر, في الوقت ذاته الذي عليه أن يدرك الآثار طويلة الأمد التي تنجم عن تراكم هذه المتغيرات وتفاعلها. لقد ولى إلى الأبد عصر البساطة, وبات بقاء الإنسان مرتبطًا بقدرته على فرض نوع من النظام على فوضى عارمة صنعتها يداه, وما أفسدته يداه لا بد لعقله أن يصلحه.

إن كان هذا هو الحال بالنسبة للعقل عمومًا, بما في ذلك المجتمعات المتقدمة, فيمكن للمرء أن يتصور شدة الأزمة المضاعفة التي يمر بها العقل العربي اليوم, أزمة تخلفه عن هذا العقل العام الذي يعاني هو نفسه أزمة تخلفه عن مطالب عصره, ولن يتأتى لنا رأب ما يطلق عليه (الفجوة الرقمية) التي تفصل بين عالمنا العربي والعالم المتقدم وتعوقه عن اللحاق بمجتمع المعرفة, إلا برأب فجوة العقل صانع المعرفة وصنيعتها, وهو الأمر الذي يتطلب - أول ما يتطلب - مراجعة شاملة لخطاب نقد العقل العربي الذي بات أسير مجموعة من المقولات التي لا يمل البعض تكرارها من قبيل ثنائيات الأصالة والمعاصرة والمحلي والعولمي, والديني والعلماني. إن هذا الخطاب التقليدي لتناول إشكالية العقل العربي يغفل - بشدة - عن النقلات النوعية الحادة التي طرأت نتيجة المتغير المعلوماتي على جميع جوانب منظومة اكتساب المعرفة وفلسفتها, ولا يدرك - في الغالب - كم الفرص العديدة التي تتيحها التوجهات الحديثة لعلم عصر المعلومات في توصيف كثير من إشكاليات الماضي وتوفير مناهل مستجدة لحلها, في الوقت نفسه الذي يطرح فيه هذا العصر إشكاليات غير مسبوقة باتت تحظى - في رأي الكاتب - بأولوية أعلى من تلك القضايا التي انشغل بها خطاب نقد العقل العربي فيما سبق, وهو الخطاب الذي يمكن اعتباره - في مجمله - امتدادًا لذلك المصاحب للنهضة العربية في بداية القرن الماضي.

إننا نواجه عصرًا جديدًا تمامًا بعقل قديم غاية في القدم, نواجه مجتمع المعلومات بعقل ما قبل عصر المعلومات, ولا نغالي إن قلنا بعقل ما قبل عصر الصناعة, أو عصر ما قبل النهضة كما خلص البعض, عقل ترهل وتشوهت رؤاه وتهرأت عدته المعرفية, فراح يجتر مقولاته القديمة ويردد مقولات غيره, وما أندر ما يستوعبها, والموقف ما عاد يتحمل المهادنة, وهو يتطلب أقصى درجات الصراحة وشجاعة المواجهة, لذا, فقد رأينا توطئة لاقتراحنا في تجديد خطاب نقد العقل العربي المتخصص أن نرسم بفرشاة عريضة صورة للعقل العربي تبرز سماته الغالبة, ولابد أن نؤكد بصددها أننا لا نصدر هنا أحكامًا من عندنا, بل نسرد آراء وردت في أطروحات سابقة نعيد صياغتها بصورة مكثفة من منظور عصر المعلومات من جانب, وبما يتسق مع ما نرمي إليه في تناول العقل المتخصص من جانب آخر.

نقد العقل العربي

لقد وجه نقد شديد للعقل العربي من قبل كثير من المستشرقين, وقلة من المفكرين العرب ولأسباب باتت شائعة تشوب نزاهة الفكر الاستشراقي في هذا الصدد سيكون تركيزنا هنا على الفئة الثانية التي تلخصت آراؤها في أن العقل العربي:

- عقل خامد خفت لديه هذا الصوت الداخلي الذي يهديه إلى الصواب وغاب عنه ذلك الهاتف الخارجي الذي يستحثه على البحث عنه. عقل توقفت آلات إنتاجه وقد أصابه العقم فلم يعد ينجب فلاسفة كبارًا أو صغارًا, وما أندر علماءه ومبدعيه, وقد غاب عن أروقتنا المعرفية الطليعيون والمبادرون وخصوم الخرافة لتخلو الساحة للانتهازيين وأشباه العلميين والغوغائيين, ويصبح للخرافة, على اختلاف أطيافها, سدنتها ومنابرها وحلفاؤها داخل المؤسسات الإعلامية والتربوية بل الأكاديمية والثقافية أيضًا.

- عقل مستسلم يرزح منذ زمن تحت نير التبعية بجميع صنوفها: فكرية وعلمية وتكنولوجية وتعليمية وإعلامية وإبداعية, وقد استكان في ظل هذه التبعية فراح يستجدي الاستنارة في عتمة السير في ظل عقول غيره, والموقف السائد للعقلانية العربية - كما خلص برهان غليون - هو (أن العلم موجود, إنه قائم هناك وجاهز متطور وليس علينا إلا أن نأتي به, أن ندخله عندنا, أن نفتح له المجال ونرعاه), وما إن يظهر تيار فكري أو إبداعي جديد, أو نظرية علمية جديدة, حتى نشرع في البحث عن وسيط معرفي ننقل عنه وما أكثر ما نقلنا عن ناقلين, أو نعلن المقاطعة المعرفية مع ما يتعذر علينا استيعابه, أو ما نتصور تعارضه مع ثوابتنا, وما أكثر ما حادت بنا تصوراتنا عن جادة الصواب, وهكذا أصبحنا نستورد رؤانا واستراتيجياتنا ومناهج تعليمنا وبرامج إعلامنا وحلول مشكلاتنا وتوصيف إشكالياتنا.

- عقل مراهق يحاول أن ينسخ عقلاً نما في عالم أصغر وأبسط كثيرًا من عالمنا, يتوهم قدرته على أن يناطح بسيوفه الخشبية صروحًا فلسفية وعلمية راسخة, وأن يستبدل بها صروحًا يقيمها على كم هزيل هش من مقولات مبتسرة تم انتقاؤها من تراث لم يستوعبه منتزعًا إياها من سياقها التاريخي والمجتمعي.

- عقل ثابت أزلي موهوم, ذو ماهية ثابتة دائمة غير قابلة للتعديل والتطوير, وللعرب ماهية عقلية نهائية تحكم تفكيرهم وسلوكهم وتلاحقهم عبر المكان والزمان. عقل ينتج معايير ويعمل وفقًا لمعايير ويصدر أحكامًا, هذا ما خلص إليه الجابري, والعقل العربي في ذلك يكاد يشبه العقل الأوربي في العصور الوسطى, وكشواهد من عندنا تأييدًا له, نزعم - على سبيل المثال - أن تنظيرنا اللغوي, في ظل ما يعرف بـ (ديكتاتورية النحاة), مازال تشريعيًا, وجل تحليلاتنا الفكرية في غياب النزعة النقدية مازال تقريريًا.

- عقل ينزع دائمًا نحو الموجب والقاطع والمحدد والمحكم, ينحاز إلى الثابت على حساب المتغير, والسائد على حساب المتجدد, يلح على الإجماع, وينفر من الاختلاف والتنوع, عقل يمتهن السالب, ويفزع من اللايقين, لا يستأنس المشوش وغير الدقيق, وغير المكتمل, ولا يستوعب اللامحدود واللانهائي ولا يستسيغ أن يكون للفوضى علمها وللتعقد نظرياته وللغموض سحره.

- عقل لم يدرك بعد - كما أورد عبدالله العروي - (أن العلم قد انفصل عن الحقيقة المطلقة لتحل محلها الحقيقة الموضوعية اللايقينية المرتبطة بالاحتمال والترجيح) وهو بذلك يضفي على المعرفة العلمية صفة الحقيقة المطلقة المنزلة جاعلاً من العلم معرفة لاهوتية مقدسة كما يقول برهان غليون, وهو ما يتعارض مع كون المعرفة ليست واقعة نهائية, وهي عرضة - دومًا - للخطأ, ولا يكتسب العلم جدارته العلمية إلا من خلال قابليته للتنفيذ, إلى حد أصبحت معه رحلة تطور العلم هي نفسها رحلة أخطائه, وما أروعه من تعليق ساخر ذلك الذي يوجز ما أسلفناه بقوله في نقد إحدى النظريات: إنها نظرية تافهة والأدهى من ذلك أنها ليست خاطئة!!

- عقل أسير تخصصه ينأى عن تداخل المجالات المعرفية وتعددها, يشكو من انفصام حاد بين علوم الطبيعيات وعلوم الإنسانيات, ناهيك عن انفصال هذه المعرفة العلمية بشقيها عن المعرفة الكامنة وراء الفنون. إنه عقل غير مدرب على التوجه المنظومي, ويقصد به ذلك التوجه الذي يحلل (الكلي) من الظواهر والمنظمات والآليات, وما شابه, إلى أجزائه الرئيسية ومجموعة العلاقات المحورية التي تربط بين هذه الأجزاء والتي يتوقف عليها أداء النظام الكلي, وكيف يستجيب النظام للمدخلات المغذاة إليه, وكمثال على ذلك تتكون منظومة اللغة من منظومات فرعية عدة: الصوتيات والصرف والنحو والمعجم والدلالة وشبكة العلاقات الكثيفة التي تربط ما بين هذه الفروع المختلفة.

لا منظومية الفكر العربي

والشواهد على (لامنظومية) الفكر العربي عديدة وطاغية, فعقلنا التكنولوجي كمثال ينشغل بالأمور الفنية دون سواها ليجنب نفسه مغبة الوقوع في متاهات الأبعاد الاجتماعية والثقافية للتنمية التكنولوجية, بصفتها عملية تنموية ثقافية في المقام الأول, وعقلنا التربوي يحصر نفسه في تعريف ضيق لمفهوم التعليم تحاشيًا للخوض في معضلة (التعلم) على اتساعه كما تطرحه تربية عصر المعلومات التي تتبنى (مفهوم التعلم مدى الحياة وعلى اتساعها), ومن ثم فهو - أي التعلم - مسئولية المجتمع ككل لا المؤسسات التربوية فحسب, بكل ما ينطوي عليه ذلك من إشكاليات اجتماعية واقتصادية وثقافية, وكمثال آخر وأخير لـ (لا منظومية) عقلانيتنا نضيف هنا عقلنا الاقتصادي, ذلك العقل المعصوب العينين, وقد اختلطت عليه الدوائر في دوامة مؤشراته وقوائم موازناته التي طمست الأبعاد الثقافية للتقدم الاقتصادي حيث لا تأخذ في الحسبان إلا العناصر المحسوسة من بنود العائد المباشر والكلفة المباشرة, وخير شاهد على ذلك فيما يخص إغفال الكلفة غير المباشرة ما يحدث في قطاع السياحة حيث كثيرًا ما يؤدي النشاط السياحي إلى تدمير البيئة الطبيعية والعبث بقيم الجماعات المحلية كما يحدث في كثير من القرى السياحية, أما فيما يخص إغفال العائد غير المباشر فمثاله البارز هو عدم إعطاء الأولوية الواجبة للتنمية البشرية بصفتها استثمارًا طويل الأجل.

- عقل لا علاقي, فالعقل العربي يوصف - عادة - بكونه عقل ماهيات لا عقل علاقات, والنزعة اللاعلاقية - والتي هي نتيجة منطقية للامنظومية - من السمات البارزة للاعقلانيتنا تتبدى على المستويات المختلفة لنظمنا المعرفية من أعلاها إلى أدناها.

- عقل ورطته السياسة في جدل عقيم فجاء خطابه صدى لخطاب سياسي متأزم, يفتقد الإبداع والخيال الاجتماعي, مما أوقعه في فخ الضحالة أحيانًا, والتوفيقية إلى حد المقايضة أحيانًا أخرى.

- وأخيرًا وليس آخرًا, عقل منفصل عن واقعه, يرى الواقع احتمالاً, يحاول أن يخضع الواقع لمفاهيمه لا أن يخضع هذه المفاهيم لحقائق هذا الواقع, أو بتعبير عبدالله العروي: إخضاع الفعل للقول, أو إخضاع العقل الواقعي لعقل نظري مطلق, ومن ثم فهو سابق على كل عقل.

فجوة العقل

انشغلت نخبة من رواد الفكر لدينا بإشكالية العقل العربي وعلى رأسهم عابد الجابري وعبدالله العروي وبرهان غليون ومحمد أركون ومحمود أمين العالم وحسن حنفي, وكانت النية في البداية أن يكون تناولنا لأزمة العقل العربي المتخصص امتدادًا وتفصيلا ومرحلة تابعة لمشروعهم الفكري الجاد الذي اتسم خطابه بالأصالة والعمق, إلا أن الاختلاف فرض نفسه علينا, ولا مناص من أن نخط لتناول فجوة العقل العربي المتخصص نهجًا مغايرًا وذلك نظرًا لاختلاف المنطلقات والغايات ولكوننا نطرحه في إطار تجربة حضارية خاصة غاية في الخصوصية, ونقصد بها ذلك التحول المجتمعي الشامل المتمثل في سلسلة النقلات النوعية التي أحدثها المتغير المعلوماتي, سواء من حيث نوعية الإشكاليات التي أفرزها, أو طبيعة الآليات والوسائل التي أتاحها لمواجهة هذه الإشكاليات, ومع ذلك وبالرغم من هذا الاختلاف, لا يمكن لنا إلا أن نقر بأن مشروعنا الحالي هو صدى لسابقه, وربما يراه البعض تحركًا في إطاره صوب (المايكرو) انطلاقًا من (الماكرو).

وقد قمنا بصياغة مواضع الاختلاف الرئيسية بين النقد المنشود للعقل العربي المتخصص ونقد العقل العربي كما ورد في خطاب أولئك الرواد في قائمة التحولات الإبستيمولوجية التالية:

- من العقل العام إلى العقل المتخصص.

- من الباراديم الفيزيائي إلى الباراديم البيولوجي.

- من التاريخ اللاتزامني (الدياكرونيك) إلى الراهن التزامني (السينكرونيك).

- من عدم التجانس إلى التجانس الإبستيمولوجي.

وسنتناول فيما يلي كلا من هذه التحولات بإيجاز.

(أ) من العقل العام إلى العقل المتخصص: في خطاب تناول إشكالية العقل العربي, انصب التركيز على العقل العام, عقل النخبة الصانع للعقول, أو العقل المكوِّن على حد تعبير الجابري, وقد فرضت عليه عموميته أن يتمحور حول العقل الثقافي لا العلمي, وهو محور مشروعنا الراهن الذي يتخذ من العقل المتخصص نقطة انطلاقه الأساسية, وقد تم تحديد فئات العقل المتخصص بالقائمة التالية التي سيتولى الحديث عن كل منها أحد الثقات في مجال تخصصه:

  • فجوة العقل الفلسفي, والاجتماعي, والثقافي, والمعلوماتي, والتربوي, والاقتصادي, والسياسي, والتكنولوجي, والإبداعي, والتراثي, واللغوي, والإعلامي, والتاريخي, والنفسي, والصحي, والإداري.

من خلال هذه الدراسة الجماعية لقائمة فجوات العقل هذه, نأمل أن تتضح لنا قواسمها المشتركة مما يؤصل الحديث عما فوقها من عقول أكثر عمومية, ويتيح للمتخصصين أن يضعوا أيديهم على أوجه قصور عقلهم المتخصص من خلال مضاهاته بعقول التخصص الأخرى.

وتبرز أهمية تناول أزمة العقل العربي المتخصص ما إن نتمثلها من منظور العلوم البينية والمتعددة التخصصات, التي تتعاظم أهميتها كمطلب أساسي لمواجهة ظواهر التعقد العديدة التي يزخر بها المجتمع الإنساني المعاصر, فمعظم إشكاليات هذا المجتمع لا يمكن تناولها إلا من خلال تكتل معرفي تساهم فيه مجموعة من التخصصات فإشكالية البنية على سبيل المثال تتطلب تكتلاً معرفيًا ما بين الاجتماعي والتربوي والجغرافي والاقتصادي. إن هذا التداخل والتعدد المعرفي يتطلب إقامة جسور معرفية ومنهجية بين الفروع العلمية المختلفة, ولن يتأتى ذلك في حالتنا إلا بأن نرقى بعقولنا المتخصصة إلى مستوى يسمح لها بالحوار على أرضية من عدة معرفية راسخة وتجانس منهجي أصيل. يقول آخر إن عقولنا المتخصصة تعاني, في وضعها الراهن, الهشاشة والوهن بدرجة لا تسمح باتخاذها قواعد ترتكز عليها جسور التواصل المعرفي والمنهجي المطلوب, وأملنا أن تساهم الدراسة الجماعية المستهدفة لنقد العقل العربي المتخصص في الإسراع من تأهله لاقتحام عالم العلوم البينية والتعددية.

(ب) من الباراديم الفيزيائي إلى الباراديم البيولوجي: كما كان للبيولوجيا على يد (داروين) ونظريته عن التطور والانتخاب الطبيعي, أثرها العميق في الفكر الإنساني بصورة عامة, أحدثت البيولوجيا الجزيئية في نصف القرن الأخير ثورة علمية تكنولوجية تفوق ما سبقها بكثير, وهي وليدة ذلك اللقاء المثير بين الرمزي اللامادي, المتمثل في لغة الجينات والسرد الجينومي, والبيولوجي العضوي المادي, المتمثل في العمليات البيولوجية الكيميائية التي تحدث داخل الخلية وتعمل تحت سيطرة الشق الرمزي الكامن في نواتها, وبالرغم من ضخامة هذا الإنجاز العلمي المذهل فإن أخطر جوانبه - في رأي الكاتب - هو ما سيحدثه هذا اللقاء الرمزي - البيولوجي على مستوى مناهج العلم وفلسفته وأنهج الفكر الإنساني بصورة شاملة, حيث انبثق منه ما يمكن أن يطلق عليه (الباراديم البيولوجي) بديلا عن (الباراديم الفيزيائي), أي القائم على الفيزياء, الذي ساد خطاب فلسفة العلم ومناهجه حتى وقت قريب.

في إطار الباراديم الفيزيائي تسير جميع أمور الكون من أقصى الماكروكوزم إلى أدنى الميكروكوزم وفقًا لقوانين يمكن للعلم أن يستنتجها, رؤية فوقية تسلط من أعلى لتكشف لنا عن مكنون المتداخل والمتفاعل, والمركب والمتجانس, والعميق والدقيق, وقد استسلم الفكر الإنساني لسطوة هذه القوانين الهابطة عليه من أعلى, سواء في مناهجه العلمية او تنظيماته الاجتماعية, وقد ظل يسير على درب هذا النهج الفوقي إلى أن اصطدم بالعديد من الظواهر الطبيعية والاجتماعية التي لا تخضع لنموذج السيطرة, أو التحرك, من أعلى. على العكس من ذلك يقوم الباراديم البيولوجي على فكرة (البناء من أسفل) بما يمكننا من كشف السر وراء قدرة الطبيعة والنظم على توليد أشياء غاية في التعقيد يعجز أي مخطط فوقي عن أن يدانيها مهما بلغت عظمته, فكيف استطاعت البيولوجيا أن تولد هذه الكائنات الحية الرائعة من بدايات بيولوجية متواضعة للغاية, وكيف أمكن للفكر الإنساني أن يقيم كل هذه الحضارات والثقافات من بدايات بدائية للغاية للتواصل البشري.

 

نبيل علي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات