ها هي الفلسفة.. تطرق الأبواب

ها هي الفلسفة.. تطرق الأبواب

الآن وقد اكتملت دائرة الحصار حول حرية الفكر في ثقافتنا, بسبب التسلط السياسي والتزمت الديني, ربما آن أوان البحث الفلسفي. فالفلسفة بالذات تصلح أداة للتعبير في مثل هذه المفاصل التاريخية من زمننا.

إن الكتابة العميقة وغير المباشرة في الفلسفة, تجعل الرقابة لا تفقه فيها شيئًا, ولا تجد فقرة متبلورة, ذات مدلولات سياسية أو اجتماعية واضحة تبرر منعها. وبخاصة أن الكثير من القراء وربما بعض أساتذة الفلسفة في الجامعات لا يتفقون على مقاصد الفلاسفة. فإذا نجح أحد مفكرينا في تقديم معالجة فلسفية لأوضاعنا وقيمنا, أو حتى بحث في الميتافيزيقا والأخلاق أو غاص في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا بلغة فلسفية رفيعة بعيدًا عن دور النشر وأجهزة الإعلام, كما كان يعمل الفلاسفة في الماضي, فقد يأتي بجديد تتحول به حياتنا!

كنت على الدوام أحتار في مدلولات بعض غوامض الكتابات الفلسفية الإسلامية ومعاني مصطلحاتها. وكنتُ أعتقد - مخطئًا أو مصيبًا - أن هذا الغموض وهذه العبارات الملتوية في كتب الفلاسفة وربما المتصوفة كذلك, قد حتمتها الظروف الدينية والسياسية التي كانت لهؤلاء الفلاسفة والمتصوفة بالمرصاد, ولذا لم يكن بالإمكان أن يظهر بين فلاسفة تلك العصور, على أهمية من ظهر منهم, فيلسوف واضح البيان صريح العبارة مثل برتراند راسل. وكان الواحد منهم مضطرًا على الدوام لأن يكتب للخاصة, وأن تكون مصنفاته ومؤلفاته من (المضنون به على غير أهله). ولا شك أن وحشة الفلاسفة ورجال الفكر وعزلتهم الروحية والاجتماعية قد ازدادت بعد أن نشر الغزالي كتابه (تهافت الفلاسفة), وصدر ما صدر من الفقهاء من تحريم بحق الفلسفة.

من المؤسف حقًا أن تراثنا الفلسفي محبوس ومغضوب عليه ومعزول عن طلبة الثانويات والجامعات وعن واقعنا الثقافي والإعلامي المعاصر, بعكس مثلاً وجود نيتشه وهيغ وسارتر وسائر الفلاسفة الغربيين المعاصرين في الثقافة الأوربية المعاصرة. ولم يعد يجدي في قليل أو كثير الاستشهاد في أي مقال مثلاً ببعض آراء ابن سينا أو تحليلات الفارابي. فحديثهم أحيانًا يبدو لنا كأحاجي أو تعابير الكهنوت! و(ليس هناك ما يمنع أن نصطنع شيئًا من الأقواس والقباب والأعمدة مما كان يستعمل في فن العمارة الإسلامية القديمة), كما يقول د. أديب ذياب, أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية, (لكننا لا نستطيع بالطريقة نفسها أن نمتثل لمفاهيم الفلسفة - الإسلامية - الكلاسيكية ومناهجها ومناظراتها, وندعي أن فيها حلولاً لمشاكل هذا العصر).

هجر السياسة

لقد أجبر خليط من القمع والتحريم والتعصب, فلاسفة الإسلام في الماضي, على هجر السياسة لصالح الميتافيزيقا, وتركيز التأمل الفلسفي في قضايا الكون والوجود, والمادة والهيولي, ومحاولة التقريب بين العقل والنقل, والفلسفة والشريعة. وحتى في هذا المقصد (التقريبي), لم يملكوا سوى هوامش محدودة من حرية الفكر والبحث, كانت عادة في اتجاه واحد وغير متاحة في كل زمان ومكان... ثم اختفت في عصور الانحدار.

نعم, إننا نشير اليوم إلى بعض أولئك الفلاسفة في مناهجنا المدرسية والجامعية بحذر متزايد, ونشر بعض نصوصهم مستفيدين من أساليب التعبير المعقدة في كتبهم, وسط جو متزمت معاد, في بعض المناطق العربية لعموم الفلسفة, إسلامية كانت أم غير ذلك, فيما يتزايد عجزنا عن التواصل مع ذلك التراث العظيم, ولم ننجح في توظيفه ضمن رؤى عصرية.

وهكذا نجد أن الكثير من مؤلفي المراجع الفلسفية في جامعاتنا, كما يشتكي د. ذياب نفسه, لا يبذلون الجهد المطلوب, ويكتفون بالتأريخ لهذه الكتب, فـ (يلخصون النصوص ويقارنون فيما بينها ويربطون, ويحاولون إحالتها إلى مظانها وأصولها الأقدم, ويمارسون كتابة كلام المفكرين الأوائل بلغة أوضح).

وليس الفلاسفة أنفسهم بمنجاة من اللوم في هذا النفور العصري من تراثهم, وإن كنا نقدر جهودهم, ولكننا - يقول أستاذ الفلسفة الأردني - (نلمس أن كثيرًا من المبادئ والأفكار التي تنتظمها هذه الفلسفة تصطدم مع بداهة العقل وتتعارض بوضوح مع حقائق العلم الثابتة, وليست هي مما يمت بصلة إلى المعضلات التي تضطرب على سطح حياتنا, بله في عمقها, وتشكل همومنا الأساسية. خذ مثلاً نظرية الفيض الفلسفية التي تحاول تفسير وجود هذا العالم, ثم دعوى وجود عقول مفارقة في الكواكب, وخذ نظرية العقل وتقسيماته إلى فعال ومنفعل وهيولاني, وعرِّج على المبدأ الأرسطي الذي يقول بأولوية وأفضلية العلوم النظرية على العملية, وقد اعتنق هذه النظريات الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة. هل ثمة ما يرجى من إحياء هذه النظريات? ألا تبدو لنا أوهامًا على ضوء معايير المنطق والعلم, فضلاً عن أنها لا تكاد تنطق بشيء إزاء مشاكلنا المأساوية).

الطاغوت الأخطر

كان الفلاسفة والمناطقة والكلاميون في عهودهم موضع شك وريبة. وكان يقال بحقهم إن (من تمنطق تزندق), بل إن موسوعة حديثة صادرة عام 1999 عن بعض الجهات المتشددة دينيًا, تصف الفلسفة بأنها (من أخطر الطواغيت وأشدها شراسة في محاربة الإيمان والأديان, مستخدمة المنطق الذي يسهل تلبيسها على الناس باسم العقل والتأويل والمجاز الذي يجرف به النصوص, مما جرّت على المسلمين شيوع الفتن وانتشار الفرق وأهل الأهواء).

ولم ننزل فلاسفة الإسلام في منازلهم دائمًا اليوم. فقد تعاملنا مع بعضهم بمصطلحات العصر وأيديولوجياته, ونسبنا كُلاً منهم إلى طبقة أو شريحة, وحمّلنا أقوالهم على أوجهٍ لم تخطر لهم ببال.

فقد كان الفارابي مثلاً رجلاً يخلد إلى السكينة والهدوء, قد وقف حياته على التأمل الفلسفي, يستظل بظل الملوك, ثم تزيا آخر الأمر بزي المتصوفة. وفي السياسة, تأثر الفارابي بجمهورية أفلاطون, وقال بفكرة أن يملك زمام الدولة رئيس فيلسوف.

ويقول أستاذ الفلسفة بجامعة الاسكندرية, د. أحمد محمود صبحي في ورقة له إنه, (في بحثين عن الفلسفة السياسية عند الفارابي قدمهما لي طالبان, وصفه الأول بأنه رجعي طبقي, من منطق تركيزه على الحاكم الفيلسوف, بينما وصفه الثاني بأنه ثوري تقدمي لأن نظرته ليست مستقاة من الفكر الديني. فعلّقتُ على البحثين: لو كان الفارابي حيًا لما فهم مما تقولان شيئًا).

ورغم تعالمنا ومحاولاتنا المؤدلجة في فهم وتفسير مدارس ومواقف الفلاسفة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين; فهذه فلسفة إقطاعية, وتلك برجوازية, وثالثة ثورية تقدمية, ورابعة رجعية في ثياب موضوعية, إلا أننا كقراء في تلك المرحلة المفعمة بالغرور المعرفي, كنا في أقل تقدير, نفهم شيئًا من كتب الفلسفة المؤلفة والمترجمة التي نطالعها بشغف. وكان الجو من حولنا, عربيًا وعالميًا, مشحونًا أيديولوجيًا, والفلاسفة يتناولون أفكارًا ضخمة, ويبنون عوالم متكاملة, ويخوضون في المنطق والأخلاق والسياسة والتاريخ وعلم الاجتماع وأشياء كثيرة أخرى واضحة جلية, سهلة التنفيذ! ولا بأس إن أسأنا يومذاك الفهم أو تصورنا تلك الأقوال والمفاهيم والمدارس كما كان يحلو لنا أحيانًا.. لا كما هي.

أما اليوم فقد اختفت تلك المدارس الفلسفية العظمى والأيديولوجيات الشاملة, التي حاولت تفسير الوجود من الإبرة إلى الصاروخ, ومن آدم إلى حرب فيتنام, وحلت محلها مدارس لغوية ونقدية, واقتتال غير مفهوم لنا, على جملة من المصطلحات الغامضة, وشد وجذب على أسماء أعلام فلسفية فرنسية وألمانية وأمريكية, لا يعرف إلا القليل منا مآثرهم في مجال اللغويات والألسنيات وعلم الدلالات ونقد النقد!

فقد عمّ فساد العولمة في البر والبحر, وانهارت (الأيديولوجيات) ومدارس الفلسفة العظمى والمثاليات, وصار كل مفكر فيلسوف يحصر نفسه في نطاق ضيق وأفكار محدودة يدرسها حتى تنضج, ويناقشها الآخرون حتى تحترق. وصار كل باحث يهرب من كتابة الأسفار إلى أوراق الندوات, وكل مثقف ينادي نفسي نفسي.. وهيهات أن ينجو بها!

أجل, لا تزال الفلسفة نعم الوعاء للتعبير والتغيير في مثل ظروفنا, ويمكن بها تأمل الكثير من جوانب حياتنا وفكرنا ومناهج تحليلنا, ودراسة سلبيات الحاضر وإيجابيات المستقبل دون أن نخضع لمستلزمات الشعبوية والتسطيح.

اتهام الظروف

إننا ربما أكثر شعوب الأرض اتهامًا للظروف. وفي الكثير من مقالاتنا السياسية على امتداد القرن العشرين ولا نزال, كنا نشير إلى (الظروف الحساسة والدقيقة) التي تمر بها الأمة والقضية, ومتى, ربما منذ سقوط الأندلس أو غزو نابليون لمصر أو النكبة والنكسة, لم تكن ظروفنا حساسة, ودقيقة!

فمن الخطأ واللاواقعية إذن, الزعم بأن الظروف غير ملائمة للتفكير الخلاق العميق, مهما كانت كمية القمع في حياتنا واسعة ومساحة الحرية ضيقة.

فتفكيرنا قد يزداد عمقًا بعد عشر سنوات من الآن, أما الحرية, سياسية واجتماعية وثقافية, فتحتاج إلى سنوات أطول.

لحسن الحظ, لا يؤمن كل المثقفين والفلاسفة العرب بضرورة انتظار الفرصة المواتية والظرف الملائم! فنحن نجد د. عبدالإله بلقزيز مثلاً, في مقدمته لسفر ضخم عن (مشروع العرب النهضوي), صادر عام 2001, يتحدث عن ضرورة البحث, اليوم لا الغد, في مشروع حضاري نهضوي عربي, مهما غلب على الحال مناخ الانكسار والتراجع. فالمشروع الفكري والسياسي الذي أنتج الدولة الليبرالية في فرنسا, (لم يتبلور, حين تبلور في القرنين السابع عشر والثامن عشر, في مناخ سياسي واجتماعي وثقافي مواتٍ في أوربا. وإنما أتى المشروع ذاك في صورة إنقاذ لأوربا من انحطاط سياسي مطبق). وكانت ألمانيا القرن التاسع عشر, (تعاني من تأخر تاريخي كبير قياسًا بفرنسا أو بريطانيا, اقتصاد متخلف, وتطور رأسمالي بطيء في عصر المنافسة الحرة بين الرأسماليات الصناعية, وغياب وحدة كيانية قومية وهزائم عسكرية قاصمة.. الخ; ومع ذلك فإن ألمانيا شهدت في القرن التاسع عشر - وقبله بقليل - ميلاد أعظم مشروع فكري نهضوي بعد المشروع الليبرالي الموسوعي - الفرنسي - أنتجه مفكرون لايزالون - حتى اليوم - مراجع في الفكر الإنساني: عمانويل كانط, لودفيغ فيورباخ, فريدريك هيغل, كارل ماركس, نيتشه.. الخ).

وهكذا, إن كان الفرنسيون والألمان قد تخيلوا النور وهم في عمق الديجور.. فقد ننجح نحن كذلك.

أين الصحوة?

ثم اننا في الواقع - وكما نسمع منذ عشرين سنة ونيف - في (صحوة) و(صحوة دينية) وغير ذلك, فكيف تظهر هذه الصحوة وتبزغ في مجتمعاتنا, ولا تتجلى في الفكر والفلسفة? بل قيل لنا إننا ربما ننقذ البشرية برمتها مما هي فيه من ترد وضياع, فلم لا نبدأ بإنقاذ أنفسنا? لقد أوكل التيار القومي إلى الأمة العربية (رسالة خالدة), وتنبأ التيار الديني للأمة الإسلامية بدور ريادي أكثر شمولاً. يقول سيد قطب مثلاً في كتابه المعالم: (تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية.. بسبب إفلاسها في عالم القيم.. ولا بد من قيادة للبشرية جديدة.. لقد جاء دور الإسلام ودور الأمة في أشد الساعات حرجًا وحيرة واضطرابًا.. لا بد من بعث لتلك الأمة التي واراها ركام الأجيال وركام التصورات, وركام الأوضاع, وركام الأنظمة).

نحن إذن بحاجة ماسة إلى أن نفكر ونبحث في حاضرنا, وأن نفلسف ثقافتنا, ونتصور مستقبلنا. فمن لا يملك سوى تصورات (تكتيكية) لواقعه ودوره, لا يمكن أن ينازل من يضع الاستراتيجيات الكونية!

فحتى لو كسب الموقعة كما يقال, فسيخسر الحرب. وكما يشتكي الداعية الإسلامي السعودي سلمان بن فهد العودة, (محال على أمة تعاني في ذاتها من الأدواء المريرة, والعلل المستعصية, أن تكون قادرة على مد يدها إلى الآخرين بالنور والهداية والعلاج الناجع) (الرأي العام الكويتية, 18/6/2005).

يقال إن القمع يعرقل الفلسفة, ويقال التخلف, ويقال سلطان التدين, ويقال غير ذلك.

ولكن التفكير الفلسفي تطور على امتداد أكثر من عشرين قرنًا رغم كل هذه العراقيل, فلماذا لا تقف إلا عربتنا نحن في الطريق?

ربما كان الدين عاملاً أقوى في منافسة الفلسفة وأكثر منها شعبية بلا ريب, ولكن لكل منهما مجالاً ومنهجًا في الواقع. يقول د. فؤاد زكريا: (إن السبب الأكبر للتعارض بين الفلسفة والدين, طوال تاريخ الحضارة الإنسانية, لم يكن نوع الأفكار التي ينادي بها كلا الطرفين, وإنما طريقة التفكير لدى كل منهما. إن الخلاف بين الفلسفة والدين لم يكن في الأساس خلافاً في المحتوى والمضمون, بل كان خلافًا في المنهج. ويتلخص هذا الخلاف في أن منهج التفكير الفلسفي نقدي, في حين أن منهج التفكير الديني إيماني).

وما دمنا في معرض الحديث عن الفرنسيين والألمان, والأفكار الفلسفية والأديان, ومشاريع الفكر والنهوض بالأوطان, فلنسأل الفيلسوف بيننا: عم تبحث? هل تبحث عن (فلسفة عربية) تنطلق من تجارب العرب والثقافة العربية وتحاول أن تجد معنى لوجودهم وأن ترسم خارطة لمسيرتهم وتمهد لنهوضهم?

أم أنك في الواقع أيها الفيلسوف, تبحث عن فلسفة إسلامية, مكملة ربما لمجهودات وآراء كبار فلاسفة الإسلام من أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد?

أم أنك فيلسوف عصري على اتصال بالتراث الفلسفي العالمي, وعموم الخبرة البشرية, ولا ترى في فكرك وعطائك إلا أنه امتداد للفلسفة عمومًا, بلا روابط محلية أو قومية أو دينية من أي لون?

لقد بدأنا المقال بدعوة حارة إلى تفكير فلسفي حر, إلى المساهمة في الجهد الإنساني الفكري, الذي نحن بلا ريب بعض امتداده. فالفلسفة كما يقال, مجهود فكري يجعل التفكير بالتعاسة أحيانًا متعة. والفيلسوف هو من يستطيع أن يرى نفسه, أو شعبه, كما يراها الآخرون, دون أن يغضب. وها نحن نكتشف كم هي معقدة أوضاعنا.

لقد ظهرت في الثقافة أو الفلسفة العربية المعاصرة إن شئت, ستة تيارات حتى الآن كما يقول د. حسن حنفي: المثالية (عثمان أمين, توفيق الطويل), الوضعية (زكي نجيب محمود, عادل ضاهر), الماركسية (محمود أمين العالم, جلال صادق العظم, عبدالله العروي, حسين مروة), البنيوية (الجابري, نصر حامد أبو زيد, كمال أبوديب), الظاهراتية البنيوية (أدونيس, حسن حنفي), الوجودية (عبدالرحمن بدوي, زكريا إبراهيم).

ويضيف د. حنفي أن سؤال عصرنا هو: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش? وإلى أي جيل نحن ننتسب? وذلك, (خشية أن نقوم بدور أجيال مضت فنقع في السلفية, أو بدور أجيال قادمة فنقع في العلمانية ويشق الصف الوطني, وتقع الحرب بين الإخوة الأعداء التي قد تصل إلى حد النزاع المسلح الشامل). وينتهي أستاذ الفلسفة والمفكر المصري المعروف متشائمًا: (الوطن العربي مهدد بالتشرذم والتفكك والضياع).. يعبر عن آلامه الآن (الأدباء أكثر مما يعبر عنها المفكرون, ويشعر بها السياسيون أكثر مما يعيشها الفلاسفة).

أما أستاذ الفلسفة اللبناني د. أحمد أمين فيرى في التذبذب وعدم الحسم الحضاري و(التوفيقية) أزمة العرب الكبرى طوال القرن المنصرم. وكان طبقا الثنائية الرئيسان اللذان حكما الفكر التوفيقي المعاصر هما (التراث والغرب) لا (الفلسفة والدين) كما كانت الحال قديمًا. وقد أعاقت هذه التوفيقية هيمنة السلفية على الفكر العربي المعاصر, (لكنها من جهة أخرى منعت إمكانية حسم الصراع لمصلحة الاتجاه التحديثي العلماني).. فبقينا في البرزخ! يبقى أن نتساءل في الختام, وقد غمرنا التشاؤم: هل ثمة نصف مملوء من كأس المعرفة والفلسفة, تحت النصف الفارغ? نعم في الواقع. فقد يقول قائل إن الإبداع الفلسفي ليس حتى شرطًا للنهضة ولا من مستلزمات التقدم!!

فالتحولات اليابانية والكورية وفي هونغ كونغ لم تسبقها مجادلات وتنظيرات فلسفية, كتلك التي انهمك فيها الفرنسيون والألمان لعقود وقرون. وبالرغم من أن مؤلفات (سارتر) قد استهوت المثقفين اليابانيين, وكانت حجر عثرة أمام شعبية المؤلفات السوفيتية في اليابان, كما يقول باحث سوفييتي, فإن باحثًا آخر يقول: (إن اليابان لم تعرف الفلسفة منذ عصورها الأولى وحتى الآن). ويفسر هذه الظاهرة بضعف الصراع الاجتماعي. (كما يعرف اليابانيون برقّة المشاعر منذ عصور سحيقة, ولكنهم لم يميلوا إلى التفكير المجرد أو التصورات النظرية).

لحسن الحظ, لسنا وحدنا كما يبدو.. في هذه البيداء!

 

خليل علي حيدر