جامعات المستقبل وتداول المعرفة

جامعات المستقبل وتداول المعرفة

تواجه مؤسسة الجامعة في كل أنحاء العالم عددا من المشكلات, التي قد تمتد تأثيراتها السلبية إلى المستقبل, والتي تثير منذ الآن كثيرا من التساؤلات حول الدور المستقبلي للجامعة ومدى قدرتها على الاستمرار في أداء وظيفتها كمصدر أساسي ومتميز لصنع المعرفة وإنتاجها وتنميتها ونشرها والمحافظة عليها من الاندثار.

تدور معظم هذه المشكلات حول أمور أصبحت مألوفة نظرا لكثرة الحديث عنها, مما قد يدعو إلى الاستهانة بها أو على الأقل التهوين من خطورتها, مثل الزيادة المطردة والمستمرة في أعداد الطلاب, وتدهور مستوياتهم حتى في الجامعات الكبرى المتميزة ذات السمعة العالية على مستوى العالم, وعدم كفاية مصادر التمويل اللازم لمواجهة متطلبات التعليم والبحث في عصر لا يكاد يلاحق سرعة التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتزايد التطورات والاكتشافات العلمية والتكنولوجية, وهي أمور معروفة وأصبحت جزءا من الواقع المسلم به من الجميع. ولكن تفاقم هذه المشكلات واستمرارها وعدم الوصول إلى حلول حاسمة تقضي عليها أو على الأقل تخفف من وطأتها يثير كثيرا من المخاوف لدى بعض المفكرين والمشتغلين بأمور التعليم الجامعي عن مستقبل الجامعة كمؤسسة والتغيرات التي يحتمل حدوثها في بنائها وتكوينها, ونوع التعليم الذي يمكن أن تقدمه للأجيال الجديدة مع التزامها في الوقت ذاته بمنظومة القيم الجامعية المتوارثة, بل ومدى إيمان الأجيال التالية بأهمية التعليم الجامعي ودور الجامعة في تنشئة هذه الأجيال وإعدادهم للأوضاع الجديدة, التي يصعب تحديدها بدقة الآن بل وهل سوف يحتاج مجتمع الغد لوجود جامعات بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة ولتلك المؤسسة? ويسلم هؤلاء المفكرون - مع كثيرين آخرين غيرهم - بأن تقدم المجتمع يرتبط ارتباطا وثيقا بقدرته على الاستثمار في دعم المهارات والبحث العلمي والإبداع التكنولوجي وكلها أمور تتوقف على سياسة التعليم الجامعي وما توفره الجامعات من إمكانات تساعد على التفوق والتميز في الإنجاز التعليمي والبحثي, ولذا يتعين على الجامعات أن تحدد مواقفها وسياساتها الخاصة بشئون التعليم والبحث وعلاقتها بالمجتمع وبالعالم ككل على أساس أن العالم أصبح وحدة متكاملة يسهل الإحاطة بمشكلاته ومتطلباته وأن ذلك لن يتيسر إلا إذا تميزت سياسة الجامعات بالمرونة واتساع الأفق وتنوع مجالات الدراسة والبحث بل وابتكار مجالات جديدة تماما لا عهد للجامعات التقليدية بها ولكنها تتفق مع توقعات المستقبل وإتاحة الفرص للمتميزين من الدارسين والباحثين. فجامعة الغد ستكون بالضرورة مؤسسة للابتكار والإبداع والتجديد والارتياد وليست مجرد معهد يقوم على الترديد والتكرار والاجترار لمعلومات قد تكون لها قيمتها العلمية في ذاتها ولكنها لن تصلح بذاتها لمواجهة الواقع الجديد في المستقبل المجهول. وهذا لا يعني أبدا إغفال الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الحالي أو إهدار الماضي - فالبحث عن المستقبل يجب أن يبدأ من إعادة قراءة الماضي, أو حتى (غزو) الماضي واقتحامه - إن صح التعبير.

وقد عقدت خلال السنوات العشرين الماضية بوجه خاص مؤتمرات وندوات عدة للبحث في مستقبل الجامعات والتعليم العالي بشكل عام. ففي يوليوعام 1988 على سبيل المثال عقد مجلس جامعة الأمم المتحدة اجتماعا في برازيليا أعلن فيه فيدريكو مايور مدير عام اليونسكو في ذلك الحين أن الوقت قد حان لإعادة النظر في وظيفة ورسالة مؤسسات التعليم العالي إزاء المجتمع الإنساني في عصر التغيرات المتسارعة, وعكف الأعضاء على مناقشة الورقة الرئيسية, التي تقدمت بها تلك الجامعة عن (دور الجامعات من منظور عولمي) وانتهت المناقشات إلى التوصية بضرورة إعداد سياسة عامة تتبنى اليونسكوالدعوة إليها بحيث تغطي كل جوانب ومجالات التعليم العالي وتأخذ في الاعتبار المتغيرات العالمية والمشكلات المستقبلية المتوقعة وأساليب التعامل معها. ولكن الاجتماع واجه مشكلة أثارها بعض المشاركين فيه عن أنه قبل أن نبحث عن نوع (الجامعة), التي نرغب فيها في المستقبل يجب أن نبحث عن نوع (المجتمع) الذي نريده لأنفسنا وللأجيال التالية لأن هذا هو الذي سوف يحدد نوع وأبعاد (السياسة), التي يمكن للجامعات الالتزام بخطوطها العريضة مع إتاحة هامش معقول لحرية الاختيار والتصرف. ولم يتسن للاجتماع معالجة هذا الموضوع والوصول فيه إلى نتيجة مقنعة ... ولا تزال المؤتمرات والندوات تعقد في كل أنحاء العالم بما في ذلك العالم العربي للتعرف على الملامح الأساسية للصورة, التي يمكن أن تكون عليها جامعة الغد, وطبيعة الرسالة التي سوف تضطلع بأدائها ومدى اتفاقها مع الدور الذي ظلت الجامعات تقوم به خلال القرون الماضية وحتى الآن, أو اختلافها عنه.

وترجع أهمية الإجابة عن هذا التساؤل إلى أن العالم يقف الآن في مفترق طرق, تتزاحم فيه التيارات السياسية والأيديولوجيات الاجتماعية المتضاربة مابين دعاوى الديمقراطية إلى ادعاءات العولمة إلى ظهور النزعات الإقليمية والانفصالية إلى محاولات الاستقطاب وفرض التجزيء والتقسيم, وغير ذلك من الاتجاهات, التي تفرض أعباء جسيمة على الإنسان المعاصر , والتي سوف تزداد وطأتها بمرور الزمن. ولذا فالرأي لدى بعض المفكرين هو أن تعمد الجامعات إلى أن تختار لنفسها ما ترى أنه يصلح لأن يكون نموذجا للفكر والحياة في المستقبل وتعمل على الدعوة إليه وترسيخه في أذهان طلابها عسى أن يكون في ذلك بعض الخلاص من هذه البلبلة, بالرغم من أن ذلك التوجه يتعارض مع مبدأ حرية التفكير الذي يعتبر أحد أهم الأسس التي يقوم عليها النظام الجامعي. وهذا التناقض يكشف لنا عن نوع المشكلات, التي يتعين على الجامعة التصدي لها من أجل المستقبل. ويزيد من حدة المشكلة صعوبة الوصول مسبقا إلى أحكام دقيقة حول استجابة الأجيال الجديدة للتقدم التكنولوجي في مجال التعليم الجامعي. فحين أرادت جامعة ستانفورد العريقة أن تقدم مقررات الهندسة بطريقة حديثة ومشوقة على الشبكات الإلكترونية كوسيلة لتشجيع مزيد من الطلاب على الإقبال على هذا التخصص الحيوي جاءت النتيجة عكس كل التوقعات إذ انصرفت أعداد كبيرة من الطلاب عن دراسة الهندسة بالرغم من أنهم كانوا قد بدأوا يدرسونها بالفعل وانتقلوا إلى تخصصات أخرى, وذلك في الوقت الذي يهجر فيه الطلاب قاعات الدرس والمكتبة في جامعات أخرى ويعتمدون على الكمبيوتر والإنترنت في التحصيل, كما أن أعدادا كبيرة أخرى تلجأ إلى الإنترنت كعامل مساعد فقط في الدراسة والحصول على المعلومات دون أن يجذبهم الكمبيوتر إليه تماما, وبخاصة حين يكون الأستاذ متميزا في علمه وشخصيته وأسلوبه في التدريس, أي أن العامل البشري له دخل كبير في تحديد مستقبل التعليم الجامعي بالرغم من التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصال والدعوة إلى الاستفادة منها في البحث والتعليم.

ولقد أحدثت ثورة تكنولوجيا المعلومات انقلابا خطيرا في أساليب وطرق وإمكانات الحصول على المعرفة وكان لذلك آثاره السلبية بشكل أو بآخر على الدور التقليدي الذي تقوم به الجامعات في هذا المجال. فقد ظهرت مؤسسات كبرى تعمل في مجال نشر ما أصبح يطلق عليه اسم التعليم (الثالثي), أسوة بالتعليم (الابتدائي) والتعليم (الثانوي) وامتدادا لهما وتيسير الحصول على المعارف, التي كانت الجامعات تنفرد بتقديمها في مختلف التخصصات, وبذلك لم يعد الطلاب والدارسون بحاجة إلى الانتقال إلى الكليات المقيدين بها والانتظام في حضور الدروس في أوقات محددة بقاعات محددة للمحاضرات والاستماع إلى أساتذة بعينهم قد تنقصهم القدرة على توصيل المعلومة إلى الأذهان. وبدأت الشكوك تراود الأذهان حول مدى ملاءمة الجامعات بتكوينها ونظمها وترتيباتها ولوائحها وقواعدها الحالية على مواجهة متغيرات عصر تميل فيه الأجيال الجديدة إلى التمرد على كل النظم والتحرر من كل القيود, التي تفرضها المؤسسات التقليدية بما فيها مؤسسة الجامعة, وإذا كان الأمر كذلك فما الشكل الذي يحتمل أن تأخذه الجامعات في المستقبل حتى تتلاءم مع هذه المتغيرات وحتى يمكنها التغلب على تلك المنافسة, التي تفرضها عليها هذه المؤسسات الجديدة وحتى يمكنها الاحتفاظ بطلابها والاستمرار في أداء رسالتها التعليمية والبحثية. وثمة شعور سائد لدى كثير من المفكرين على أية حال بأن الجامعات لم تعمل حتى الآن ما يكفي لأن يجعلها قادرة على مواجهة تحديات المستقبل وأنها في حاجة إلى أن تتبنى سياسات جديدة تتميز بالجرأة والمبادرة والخروج على التقاليد الراسخة, التي أصبحت بالية في معظمها مع العمل على توسيع نطاق التعاون مع الجامعات الأخرى على المستوى العالمي حسب ما كانت تهدف إليه في الأصل رابطة الجامعات الدولية. فلم يعد هناك في ضوء التقدم الحالي والمستقبلي في تكنولوجيا الاتصال حدود فاصلة بين الجامعات في مختلف أنحاء العالم, ولم تعد للمسافات المكانية المتباعدة أي تأثير على سهولة الاتصال والتواصل وتبادل المعلومات والخبرات بحيث يمكن القول إن عنصر وطابع (المحلية) سوف يختفيان سريعا من مفهوم الجامعة ومدلول التعليم الجامعي.

فالتعليم الجامعي يتحول بسرعة لأن يصبح مشروعا عالميا أو (كوكبيا), ووسيلته إلى هذه العولمة هي الاعتماد على البث الإلكتروني الذي يساعد من ناحية على الإلمام والإحاطة بما يحدث في جامعات العالم الأخرى وعلى تصدير المعارف الخاصة إلى تلك الجامعات من الناحية الثانية وبذلك يتحقق مبدأ تداول المعرفة. وتبدي الجامعات في بعض دول الغرب اهتماما بالغا بتطوير وتنمية ما تملكه من رأس المال الذهني والفكري حتى يمكن (تصديره) إلى الجامعات الأخرى وتراعي في ذلك أن يتلاءم ما تصدره من معرفة مع الأوضاع والمتطلبات والاحتياجات المستجدة والمتجددة مع الاهتمام بنوعية تلك المعرفة ومستواها حتى يمكنها الصمود في عالم أصبحت فيه المعرفة سلعة مطروحة في سوق تحكمها نوازع المنافسة الشديدة حتى بين الجامعات بالرغم من كل ما يقال عن التعاون والتبادل, بل وربما يكون هذا التنافس عاملا فعالا في تحقيق التبادل المنشود. ويتوقع الكثيرون من المهتمين بمستقبل الجامعات أن تؤدي هذه العلاقات الجديدة القائمة على مبدأ تداول المعرفة إلى ظهور نوع جديد من التخصص وتقسيم العمل بين الجامعات سوف يفرض حدوث تغييرات جذرية في مفهوم الجامعة ذاته, إذ المتوقع أن تتخصص في آخر الأمر كل جامعة من تلك الجامعات المتعاونة في تقديم فرع واحد من فروع المعرفة الأساسية الكبرى بحيث تنفرد جامعة بأكملها - وليس مجرد إحدى كلياتها - بالاضطلاع بمهمة التدريس والبحث في مجالات الطب مثلا بينما تتخصص جامعة أخرى في العلوم الاقتصادية فقط أو في الدراسات اللغوية وحدها وهكذا. وسوف يساعد على تحقيق ذلك تشعب المعرفة وكثرة المعلومات وتنوعها في كل تخصص من هذه التخصصات بشكل أو بآخر فى كثير مما تحقق حتى الآن. ولن يتعارض هذا التكامل القائم على تقسيم العمل بين الجامعات مع احتفاظ كل جامعة بشخصيتها المتميزة وإن كان تأثيرها الأكاديمي سوف يمتد إلى خارج الحدود الإقليمية, التي توجد فيه تلك الجامعة بل وقد يصل إلى أنحاء كثيرة من العالم حسب الاتفاقيات, التي سوف تعقد بين الجامعات المتباعدة في المكان. وعلى ذلك فإن المفهوم التقليدي للجامعة المؤلفة من كليات مختلفة في تخصصاتها سوف يختفي ليحل محله الجامعة المتخصصة, التي تستقبل الأساتذة والطلاب والباحثين من كل أنحاء العالم الذين يعملون في ذلك التخصص المحدد بالذات. وبالرغم من طرافة الفكرة فإن ثمة بعض الشكوك حول إمكان تحقيقها على الأقل في المستقبل القريب, إذ ثمة رواسب كثيرة تتعلق باعتزاز كل جامعة من الجامعات الكبرى في الوقت الحالي بمكانتها وتميزها وقيمة الشهادات, التي تمنحها ونظرتها التكاملية إلى المعرفة مما قد يحول دون التحول إلى التخصص الواحد. وليس من السهل التغلب على هذه العقبة فضلا عن أن العلاقات السياسية بين الدول قد تمنع من تحقيق الفكرة. وهذه على أية حال مجرد تصورات تدور في أذهان بعض المفكرين (المثاليين) الذين يرون إمكان تحقيقها على أرض الواقع, خاصة أن هناك الآن لغة عالمية مشتركة وشائعة في معظم دول العالم وهي اللغة الإنجليزية, التي يمكن استخدامها في التعليم والبحث حتى في الدول غير الناطقة أساسا بتلك اللغة. فوجود مثل هذه اللغة العالمية المشتركة سوف يكون بغير شك عاملا مساعدا على تحقيق فكرة (عولمة) الجامعات بالرغم مما قد تثيره - مؤقتا - من حساسيات لأسباب تتعلق بالكرامة الوطنية والهوية الثقافية.

وبالرغم من الاعتراف بأن من حق كل إنسان أن تتاح له كل فرص التعليم بغير حدود فسوف يظل السؤال الصعب قائما في المستقبل عمن له حق التمتع بالفعل بالتعليم الجامعي, أي لمن ينبغي للجامعة أن توجه اهتمامها ورسالتها? وترتبط بهذا السؤال تساؤلات أخرى عن نوع المعرفة التي سوف يحتاج إليها إنسان الغد والسياسة التي ينبغي اتباعها في توفير هذه المعرفة, والمعايير التي يجب الاسترشاد بها في اختيار الطلاب والباحثين وهل هي معايير الكفاءة والتميز والقدرات الذهنية وحدها أم معايير الإمكانات المالية والقدرة على مواجهة تكاليف التعليم الجامعي الباهظة, التي تزداد ارتفاعا بسرعة رهيبة بحيث قد تعجز بعض الدول عن الوفاء بها كلها بالنسبة للجامعات الحكومية, وذلك إذا تركنا جانبا الجامعات الخاصة أو غير الحكومية. وثمة فوارق شاسعة بين ميزانيات الجامعات في الدول الغنية تكشف عن طبيعة المشكلة. فإحدى الجامعات الكبرى في أستراليا - على سبيل المثال - تبلغ ميزانيتها السنوية حوالي ستمائة مليون دولار استرالي لعدد 34000 طالب بينما تصل ميزانية جامعة كاليفورنيا إلى 2.2 بليون دولار أمريكي لعدد 27000 طالب فقط. وهذه مبالغ تثير الفزع بغير شك في دول العالم الثالث وجامعاته. بل إن ميزانية الجامعات الأوربية الكبرى لا يمكن أن تقاس إلى ميزانيات الجامعات الأمريكية بحال. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التفاوت الشديد على نوعية التعليم وأساليبه وعلى حجم الإنفاق على البحث العلمي داخل الجامعة. وهذا الفارق (المخيف) - كما يصفه رئيس تلك الجامعة الأسترالية - يعني أن القيادة البحثية في المستقبل سوف تكون قيادة أمريكية بالضرورة. ولكن ذلك يثير في الوقت ذاته التساؤل عن مدى إمكان إسهام الطلاب في تحمل جزء أكبر من التكاليف بالنسبة للجامعات الحكومية ذاتها, ولكن هناك خطورة أن يؤدي ذلك إلى أن تصبح الجامعات مؤسسات (بلوتوقراطية) تقوم على أرستقراطية المال. ثم ما موقف الجامعات في الغرب على الأقل من الطلاب الأجانب الذين قد يعجزون عن تحمل مصاريف ورسوم الدراسة الباهظة? لا شك أن ذلك سوف يضع تلك الجامعات في مأزق بين الرغبة في جذب أكبر عدد ممكن من الطلاب الأجانب كوسيلة لنشر نفوذها العلمي والثقافي بل والسياسي في بعض الأحيان وبين الرغبة في الحصول على أكبر دخل ممكن من المصاريف والرسوم, التي تساعدها على تنفيذ برامجها الأكاديمية.

ولكن ألا يعتبر إعطاء الأولوية للأمور المالية عائقا يحول دون تحقيق فكرة (عولمة) الجامعات? الواقع أن اتجاهات العولمة في مجال التعليم الجامعي تدفع بعض الجامعات في عدد من الدول في الخارج إلى البحث عن وسائل تستطيع من خلالها التنسيق فيما بينها في تقديم خدماتها التعليمية والبحثية من خلال برامج يتم نشرها عن طريق الإنترنت. ولعل من أهم هذه البرامج البرنامج المعروف باسم (انترنت2) بين جامعة كاليفورنيا وعدد من الجامعات في المكسيك, ويرى الكثيرون أن هذا البرنامج وسيلة (ثورية) في التعاون الأكاديمي على مثل هذا النطاق الواسع من خلال الشبكات. بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى عقد اتفاقيات بين بعض الجامعات الأمريكية واليابانية فيما يعرف باسم Transpacific Interactive Distance Education وبمقتضاه يتم نقل المحاضرات والدروس, التي تلقى في أي من تلك الجامعات إلى كل الجامعات الأخرى المشاركة على الجانبين في نفس لحظة إلقائها ويتلقى الأستاذ المحاضر الأسئلة من الطلاب في كل مكان ويجيب عليها في الحال. وقد بدأت الاتفاقية عام 1999. ويساعد هذا النظام - كما هو واضح من اسمه - على التفاعل بين الأساتذة والطلاب من كل الجامعات المشاركة بالرغم من البعد المكاني والمسافات الشاسعة, التي تفصل بين الجامعات. بل إن ثمة بعض الاتجاهات الواضحة في كثير من الدول لإنشاء جامعات إلكترونية E-universities, كما هي الحال في بريطانيا, تستطيع الدولة من خلالها أن تساعد في التنافس الأكاديمي على الشبكات الدولية لأسباب سياسية واقتصادية مع فرض رقابة صارمة في الوقت ذاته على نوعية ومستوى البرامج التعليمية والبحثية من أجل المحافظة على حسن السمعة من ناحية وضمان نجاح عمليات تسويق تلك البرامج الأكاديمية من الناحية الأخرى. فكأن هناك أهدافا مادية وتجارية وراء هذه المشروعات وهو ما يعني في آخر الأمر صدق مقولة أن المعرفة أصبحت سلعة تجارية ومصدرا للدخل للدول الغنية القادرة على إنتاج المعرفة وتسويقها. بيد أن من شأن هذا الاتجاه أن يفتح أبوابا جديدة لظهور مؤسسات أخرى غير الجامعات يمكنها أن تقدم المعرفة على مستويات رفيعة لا تقل عن مستوى ما تقدمه أرقى الجامعات وذلك لإشباع الرغبات المتزايدة نحو التعليم المستمر. وقد أشرنا في بداية هذا الحديث إلى هذه المؤسسات التي سوف تنافس الجامعات في أداء رسالتها بحيث لن تكون المعرفة حكرا على مؤسسة الجامعة وحدها في المستقبل, وهذا هو ما يدفع بيتر دروكر Peter Drucker إلى أن يقول إنه بعد سنوات قليلة ستصبح فكرة الحرم الجامعي campus كما نعرفها الآن من ذكريات الماضي.

وقد لا تتحقق هذه النبوءة بحذافيرها وينتهي عصر الجامعات. فكما أن التلفزيون لم يقض على المسرح الذي يرجع تاريخه إلى قرون عدة مضت, فقد لا تقضي الوسائل التكنولوجية المستخدمة في التعليم على الجامعات التقليدية, وخاصة أن تكاليف البث الإلكتروني مرتفعة ولن تصلح لكل أنواع المقررات والتخصصات ونتائجها غير مضمونة دائما كما ظهر من حالة تدريس الهندسة في جامعة ستانفورد العتيدة. وقد ينتهي الأمر بالتوصل إلى نوع من التوازن أو التوافق بين التعليم الجامعي التقليدي (والتعليم عن بعد) من خلال الشبكات الدولية. ومهما اختلفت الوسائل فالأغلب أن يظل مفهوم الجامعة قائما حيا في الأذهان وفي الواقع كمؤسسة للبحث عن المعرفة وتطويرها وتنميتها ونشرها من أجل (إنتاج) إنسان أفضل يعيش في مجتمع صالح ويتمتع بحياة أكثر سعادة.

ولكن يظل بعد هذا كله السؤال التقليدي الذي لا نكاد نجد له إجابة مقنعة: أين نحن من هذا كله?

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات