هل خطر لك يوما أن هناك شيئا يحترق فلا يخلف رمادًا بل ماءً عذبًا?
نعم, إنه غاز خفيف عديم اللون, عندما لاحظ مكتشفوه في القرن الثامن عشر قابليته
الشديدة للاشتعال أسموه (الهواء المشتعل) inflammable air تمييزًا له عن هوائنا
العادي الذي نتنفسه. وعندما قام العالم البريطاني هنري كافندش في عام 1784 بحرق ذلك
(الهواء المشتعل) في وعاء زجاجي تخلفت قطرات من الماء على جدران الوعاء بعد الحرق,
ومن ثم أطلق الكيميائي الفرنسي الشهير أنطوان لافوازيه على الغاز اسم (هيدروجين)
وهو اسم مشتق من كلمتين يونانيتين (هيدرو جين), ومعناه (مولد الماء أو (أبو الماء),
وهكذا برز اسم الهيدروجين لأول مرة في التاريخ. ومنذ ذلك الحين حظي الهيدروجين -
ولا يزال - بنصيب وافر من اهتمام العلماء حتى صرنا نعرف عنه الكثير. من ذلك مثلا أن
الهيدروجين يشكل 76 في المائة من مادة هذا الكون العظيم الذي نعيش فيه, بمجراته
وشموسه وكواكبه ومائه وهوائه, بل إن من بين كل مائة ذرة من ذرات الكون هناك 96 ذرة
هيدروجين. وإذا كان وزنك سبعين كيلوجراما فإن بجسمك سبعة كيلوجرامات كاملة من
الهيدروجين, أما الماء الذي يغطي ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية, فكل واحد من
جزيئاته يتألف من ثلاث ذرات, اثنتان منها هيدروجين.
للضغط حدود!
لا شك أن وفرةً كهذه من شأنها أن ترشح الهيدروجين ليكون واحدا من أرخص
مصادر الطاقة, هذا إن لم يكن أرخصها على الإطلاق, فلماذا لم يُستَغل الهيدروجين على
النحو المأمول حتى الآن? الواقع أن الهيدروجين يستخدم حاليا بالفعل كمصدر للطاقة في
محركات الصواريخ, إلا أن استخدامه كوقود للسيارات ظل يواجه الكثير من العقبات إلى
أن لاحت أول بادرة على إمكان تذليل هذه العقبات مع اختراع ما يعرف بخلايا الوقود
fuel cells, وهي خلايا تولد الكهرباء عن طريق خلط الهيدروجين بالأكسجين, فلم يمض
وقت يذكر على اختراع تلك الخلايا حتى شوهدت في شوارع بعض المدن العالمية باصات تسير
بالهيدروجين. غير أن التوسع في إنتاج مثل هذه الباصات ظل محدودا جدا, وذلك لسبب
رئيسي يتعلق بطريقة تخزين الهيدروجين. نعم, إن الهيدروجين رخيص الثمن ويسهل توفير
الكميات المطلوبة منه مهما عظمت, غير أن كمية الهيدروجين اللازمة لتسيير الباص
لمسافة معقولة كانت من الضخامة بحيث لم تتسع لها إلا مستودعات كبيرة حملتها تلك
الباصات على ظهورها من شارع إلى شارع. ولهذا السبب تراجعت أهمية الهيدروجين أمام
أشكال الوقود البترولي السائل كالبنزين, مثلا, الذي يسهل حمله في مستودعات صغيرة
تبيت في بطون السيارات دون أن تسبب متاعب ميكانيكية أو مخاطر تذكر. وإثر ذلك فكر
العلماء في ضغط الهيدروجين لكي يتسنى احتواؤه في خزانات أصغر نسبيا. وفي مؤتمر علمي
عن الطاقة الهيدروجينية عقد في مونتريال بكندا في يونيو 2002 عرض باحث ياباني صورا
لسيارتين هيدروجينيتين صغيرتين جرى تطويرهما في الصين لتكونا أول سيارتين من نوعهما
من حيث صغر حجم خزان الوقود. وبالرغم من أن تطوير هاتين السيارتين يعد بالفعل نقلةً
كبيرة, فإنها تظل نقلة غير كافية من الناحية الاقتصادية بالنظر إلى المسافة التي
يُرجى للسيارة أن تقطعها قبل الحاجة إلى إعادة التزود بالوقود. فلماذا لا يفكر
العلماء في ضغط الهيدروجين أكثر من ذلك?
الحقيقة أن الهيدروجين, شأنه شأن المواد الأخرى, لا يمكن ضغطه بغير
حدود, فكلما ضُغط الهيدروجين, أي كلما حشرنا المزيد منه في خزان ما,زاد احتمال
انفجار الخزان عند ارتفاع درجة الحرارة أو عند التعرض للصدمة. ولهذا فإن الحفاظ على
مستويات الأمان المطلوبة, في ظل الإفراط في ضغط الهيدروجين, إنما يقتضي استخدام
خزانات لها مواصفات خاصة لا تتوافر إلا بتكلفة عالية, الأمر الذي قد يذهب بمزية
الهيدروجين الأساسية كوقود رخيص. لهذا السبب أخذ العلماء في البحث عن وسائل أخرى
أكثر أمانا من التمادي في ضغط الهيدروجين أو تسييله. كانت هناك بدائل أخرى بحثها
العلماء دون طائل, وأهم هذه البدائل كان تخزين الهيدروجين بامتزازه على سطح مادة
صلبة. و(الامتزاز) adsorption ظاهرة معروفة في عالم الكيمياء, ويقصد به أن تقوم
مادة صلبة باجتذاب الغاز إلى سطحها دون أن تتحد به كيميائيا وتكوِّن معه مركبا
ثابتا. وعلى امتداد عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين جرى اختبار عدد
كبير جدا من المواد لبحث ما إذا كان أي منها قادرا على امتزاز كميات كبيرة من
الهيدروجين, غير أنه تبين مع الأسف أن جميع المواد التي تم اختبارها لا يمكنها
الاحتفاظ بكميات معتبرة من الهيدروجين إلا في درجات حرارة منخفضة قد تصل إلى عشرين
درجة تحت الصفر, وبديهي أن أحدًا لن يرغب في الجلوس في سيارة باردة إلى هذا الحد.
هكذا بدا الطريق مسدودا حتى بداية التسعينيات, والتي أتت بمفاجأة كبيرة عندما وجد
العلماء بين أيديهم مادة غريبة بدت للوهلة الأولى أبعد ما تكون عن دنيا الهيدروجين
وطاقته, ثم لم يلبث أن تبين أن هذه المادة يمكن أن تحل معضلة تخزين الهيدروجين حلا
نهائيا.
لعلك تذكر من سنوات دراستك المبكرة أن الألماس - ذلك العنصر الثمين
يشرف بالانتماء إلى الجرافيت, ذلك الكربون الرخيص الذي يُصنع منه قلب القلم الرصاص,
فالشقيقان - الألماس والجرافيت - ما هما إلا صورتان لمادة واحدة هي الكربون. كانت
تلك هي المعرفة السائدة حتى عام 1985 عندما شهد العالم ولادة صورة ثالثة من صور
الكربون على يد علماء ثلاثة فازوا لاحقا بجائزة نوبل تكريما لهذا الكشف. هذه الصورة
الجديدة عبارة عن جزيئات فريدة من الكربون يتكون كل منها من ستين ذرة تنتظم على
هيئة كرة مجوفة جدارها ليست سوى ذرات الكربون الستين, والروابط الكيميائية التي
تحفظ هذه الذرات في مواضعها وتؤلف معا شبكة هندسية بديعة من الأشكال السداسية
والخماسية المنتظمة. أطلق العلماء الثلاثة اسم (ك60) C60 أو (فولرين) Fullerene على
هذا النوع الجديد من الكربون, وسرعان ما انهمك عدد من العلماء في دراسة ذلك
الفولرين.
أنابيب أرق من طبقة الحبر
كان من بين العلماء الذين انجذبوا إلى سحر التركيب الهندسي للفولرين
العالم الياباني سوميو إيجيما S. lijima الذي أراد الحصول على الفولرين عن طريق
توصيل قطبين من الجرافيت بمصدر للكهرباء. ورغبة منه في تحسين النتائج, أخذ إيجيما
يعدل من أساليبه حتى عام 1991 عندما لاحظ اختلاف إحدى تجاربه عن كل ما سبقها, فبفحص
نتائج تلك التجربة تحت الميكرسكوب الإلكتروني فوجئ إيجيما بوجود أشياء أخرى, ليست
هي كريات الفولرين المعهودة, بل أنابيب مجوفة طويلة ورفيعة جدرانها هي نفس جدران (ك
60), أي طبقة واحدة من ذرات الكربون وشبكة الروابط التي تشدها إلى بعضها البعض.
تجدر الإشارة هنا إلى أننا عندما نقول طبقة واحدة من الذرات فإننا نعني شيئا في
غاية الرقة, ليس فقط أرق كثيرا من ورق مجلة العربي التي بين يديك, بل أرق بمئات
المرات من سمك طبقة الحبر التي طبعت بها الكلمات التي تطالعها الآن. ولم تكن جدران
تلك الأنابيب هي فقط الرقيقة بل إن سمك الأنبوبة أيضا لم يتجاوز بضعة نانومترات, أي
أن الأنبوبة - بجدرانها وتجويفها - أرفع من شعرة الإنسان بنحو عشرين ألف مرة! كان
بديهيا أن يطلق إيجيما على هذه الشعرات النحيلةالمجوفة اسم (الأنابيب الدقيقة)
nanotubes, وما إن أعلن إيجيما عن اكتشاف هذه الأنابيب حتى كثرت اقتراحات الاستفادة
منها. فالبعض مثلا أراد استخدامها كقوالب تصب فيها المعادن المصهورة للحصول على
أسلاك أدق من شعر الإنسان لاستخدامها في صناعة دوائر كهربية دقيقة للحاسبات أو
أجهزة الاتصال الصغيرة. كذلك فكر بعض العلماء في استخدام هذه الأنابيب الدقيقة
كأنابيب اختبار لإجراء تفاعلات بعينها, ظنا بأن قوانين الكيمياء ربما تتغير إذا ما
جرى التفاعل في مثل هذا الحيز الضيق. وحلم بعض الأطباء بدورهم باستخدام هذه
الأنابيب كزجاجات صغيرة تحمل دواء ثمينا إلى عضو مريض بالجسم. أما استخدام الأنابيب
الدقيقة لتخزين الهيدروجين فلم يدر بخلد أحد إلا بعد أن بينت الصدفة وحدها أن
الأنابيب الدقيقة تستطيع امتزاز الهيدروجين بكميات كبيرة, ليس فقط على سطحها
الخارجي بل في داخل تجويفها أيضا, حيث إن قطر الأنبوبة الضيقة يتسع لثلاث ذرات
متجاورة من غاز الهيدروجين. وما إن طرحت فكرة استخدام هذه الأنابيب لامتزاز
الهيدروجين حتى سارع الكثيرون لبحث الأمر, ولم يمض وقت طويل حتى تبين العلماء أن
الأنابيب الدقيقة تتمتع بعدد من المزايا الأخرى التي تؤهلها لتخزين الهيدروجين على
نحو نموذجي. فمن ناحية وجد أن هذه الأنابيب, على دقتها الفائقة, تتمتع بصلابة غير
عادية تفوق صلابة الفولاذ بأكثر من عشرة أضعاف. ومن ناحية ثانية تبين أنه يمكن
ترتيب هذه الأنابيب في حزم تشبه الحبال, الأمر الذي ييسر شدها وتثبيتها في خزان
الوقود المرتقب. ومن ناحية ثالثة ثبت أن امتزاز الهيدروجين على جدران تلك الأنابيب,
وكذلك تخليها عن الهيدروجين, إنما يتوقف على عوامل تجعل من السهل تصميم نظام فعال
للتحكم في ضخ الهيدروجين إلى الخزان وسحبه منه عند التشغيل بطريقة أوتوماتيكية.
كان طبيعيا أن تلفت هذه المزايا أنظار العديد من الجامعات ومراكز
البحث العلمي وشركات الوقود على السواء. ونظرا لأن السبق في هذه المسألة كان يعني
أرباحا مادية خيالية من وراء احتكار طريقة تخزين الهيدروجين, فقد قررت جهات عديدة
في مختلف أنحاء العالم الإنفاق بسخاء شديد في هذا المضمار, وتسابق كثير من العلماء
والباحثين إلى محاولات ترويض الهيدروجين وتخزينه, وتركز هدف الباحثين في ابتكار
أنسب الطرق لامتزاز أكبر كمية من الهيدروجين على جدران أقل كمية من الأنابيب
الدقيقة. وما هي إلا فترة وجيزة حتى تحققت نتائج مذهلة, وبدأت الأرقام القياسية في
تخزين الهيدروجين تتوالى شهرا إثر شهر بعد أن ظل اقتناص الهيدروجين وحبسه بأمان في
خزانات صغيرة أمرا مستعصيا لأكثر من أربعين سنة. وبسبب تسارع البحوث وتدفق
الإنجازات تدخلت وزارة الطاقة الأمريكية لوضع المعايير القياسية لتخزين الهيدروجين
بقصد الاستخدام كوقود للسيارات. نصت هذه المعايير على أن أي خزان وقود هيدروجيني
يجب أن يستوعب على الأقل 62 كيلوجراما من الهيدروجين لكل متر مكعب من حجمه, أو يحمل
قدرا من الهيدروجين يعادل 6.5 في المائة من وزنه, وأن يكون ملء الخزان
بالهيدروجين, وكذلك تحرير الهيدروجين منه عند التشغيل متاحين في درجات حرارة لا تقل
عن 25 ولا تزيد على 100 درجة مئوية, وألا يزيد الضغط داخل الخزان على مائتي مرة قدر
الضغط الجوي المعتاد.
في ضباب التكتم
أول من حطم هذه الأرقام القياسية كان العالم الأمريكي مايكل هيبين M.
Heben الذي طور منذ عام تقريبا طريقة تحقق أفضل مما قررته وزارة الطاقة بنصف في
المائة, إذ نجح في تخزين الهيدروجين في أسطح وتجاويف الأنابيب الدقيقة بنسبة 7 في
المائة, وذلك في درجة حرارة الغرفة وتحت الضغط العادي, الأمر الذي أشعل همم العلماء
الاخرين, غير أن احتدام المنافسة بين مراكز البحوث أدى إلى تبادل الانتقادات
والتخلي أحيانا عن آداب التعامل العلمي, مما تسبب في إحجام كثير من الباحثين عن
الإفصاح عن إنجازاتهم في هذا الصدد, وبدأ ضباب التكتم يخيم على هذا الحقل العلمي,
لدرجة أن بعض العلماء استقالوا من مواقعهم في الجامعات ليلتحقوا بالعمل في مختبرات
خاصة بشركات الوقود, لا لشيء إلا ليهربوا من القيود الأكاديمية الصارمة المتعارف
عليها والتي تفرض على الباحث الإعلان عن نتائج تجاربه ونشرها في الأوساط العلمية
لكي يتسنى للآخرين تمحيصها والتأكد من دقتها. وبالرغم من نطاق السرية المضروب حاليا
فقد أعلن عدد من العلماء أنهم قد توصلوا إلى تحقيق المستويات التي حددتها وزارة
الطاقة, وأنهم فقط بصدد إجراء الاختبارات النهائية فيما يتعلق بتخزين الهيدروجين,
بل أعلن بعضهم أنهم شرعوا بالفعل في إعداد نماذج أولية لمستودعات مشحونة
بالهيدروجين يتم تركيبها في السيارة في زمن لا يزيد على الزمن الذي ينفق في ملء
خزان البنزين حاليا. ويتفق عدد من العلماء أن السيارات التي تسير بالبنزين قد تصبح
في المستقبل القريب جدا استثناء وسط الكثرة من السيارات الهيدروجينية, بل يذهب
بعضهم إلى القول إن الوقود النفطي ربما ينسحب تماما من الشوارع إلى حيث تشتد الحاجة
إليه في مواقع أخرى, تاركا الساحة للسيارات التي تسير بالهيدروجين, وذلك لأن هذه
السيارات لن تتميز فقط برخص وقودها, بل ستنفرد أيضا بأنها لن تنتج الدخان ولا
الغازات العادمة ولا أبخرة الرصاص ولا ملوثات من أي نوع.. لا شيء على الإطلاق أكثر
من الماء الساخن.