شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الـفـلاحـون الـحـفـاة... يـنـتـصـرون!

الذين يزورون فيتنام ـ بلاد الصبر والنصر ـ سيدركون أن (هوشي منه) وفيتنام وجهان لعملة واحدة. ففيتنام هي بلاد هوشي منه, وهوشي منه هو رمز فيتنام. واسمه يعني كل شيء طيب في المجتمع الفيتنامي. التواضع دون إحناء الرأس, القناعة مع البطولة الخارقة, الثقافة التقليدية مع مظاهر النهضة الحديثة.. تتلخص كلها في عبارة واحدة قالها بطل التحرير:

(لا يوجد شيء في الوجود أعز من الحرية والاستقلال).

ومن يقلب صفحات التاريخ الحديث يعرف جيدا أن من أشهر ملاحم الحرية والاستقلال معركة (ديان بيان فو) التي قادها البطل الأسطوري هوشي منه وخطط لها قائد قواته الجنرال (فون جياب). ففي هذه الملحمة هُزمت جحافل الفرنسيين أمام جيش من الفلاحين الحفاة الذين يحاربون بمذراة حصاد الأرز التي غرسوا في طرفها الآخر سكاكين تشبه السونكي يقتلون بها عدوهم. وبواسطتها استطاعوا الاستيلاء على أسلحة الفرنسيين وبنادقهم ومدافعهم ليردوها إلى نحور أعدائهم حتى صنعوا قصة النهاية للاستعمار الفرنسي في فيتنام. وكان الميدان هو أرض المعركة الأسطورية التي دارت على مسافة ستمائة كيلومتر من هانوي بين شتاء 1953 وربيع 1954. ذلك الانتصار أسهم إسـهاما حاسما في نجاح مؤتمر جنيف الذي أعاد السلام إلى شبه جزيرة الهند الصينية. واستخلص العالم منه درسا لخصه الزعيم هوشي منه في كلمات قليلة تقول:

(إن الأمة الضعيفة الصغيرة تستطيع من خلال تضامن الشعب والجيش بالنضال والقتال في سبيل الحرية والاستقلال, أن تدحر أي قوة معتدية مهما تعاظمت.. ما دامت تملك الإيمان والإصرار على القتال حتى النصر).

الفلاحون يقاتلون

ساحة المعركة دارت في واد متسع بطول ثمانية كيلومترات وعرض ثلاثة كيلومترات, تحيط به التلال المرتفعة من كل جانب. وفي وسط الوادي اتخذت القيادة الفرنسية مركزها الذي ظنت أنه سيخفيها عن أنظار المناضلين. كان المعسكر محصنا أشد التحصين تحيط به الخنادق بأبرع أشكال الدفاع في قلب المنطقة الجبلية المعزولة وبين حناياها سبع عشرة كتيبة مشاة وثلاث كتائب مدفعية ووحدات الهندسة والمدرعات والنقل والطيران. ورجالها جميعاً من أبرع رجال القوات الفرنسية. الجيش الفرنسي يطبق خطة (نافار) التي وضعت بعناية في باريس وواشنطن لضرب القسم الأعظم من قوات الثوار, تمهيدا لاحتلال كل فيتنام وتحويلها إلى مستعمرة وقاعدة عسكرية. وفي الجانب المقابل وراء الجبال والمرتفعات وقف الفيتناميون يواجهون الموقف باستراتيجية جديدة هدفها القضاء على مركز القيادة الفرنسي. ومن خلف هؤلاء وعلى السفوح كان المقاتلون والفلاحون يزحفون تحت وابل قنابل الطائرات ونيران المدفعية ويحفرون عبر الجبال والغابات خنادق طولية لسير المشاة وطرقا تصلح لسير الشاحنات.

إن الصورة تبدو رائعة لآلاف الحمالين من العمال والفلاحين الحفاة وهم يكدحون ويسحبون بأذرعهم وعضلاتهم وفوق ظهورهم الأسلحة والإمدادات التي استولوا عليها في معاركهم السابقة مع الأعداء وينقلون عشرات الكيلومترات من موقع إلى موقع للصعود إلى القمم عبر السفوح. فلاحون يحفرون الخنادق الطولية وهم منبطحون على الأرض ليتحاشوا النابالم وقذائف المدفعية.

مناضلون يفاجئون في الظلام وفي وضح النهار قوات العدو ويردون الهجمات المضادة ويحكمون الطوق على القوات المحصنة.

سفوح التلال تتحول إلى كتل من النيران والنابالم تحرق المحاصيل والمزروعات. القذائف تحرث الأرض فيستغلها الثوار كخنادق.. المحاربون يواصلون التقدم ويزحفون خطوة خطوة ليتقدموا أكثر في المواقع الفرنسية.. بطولات جــماعية تتجلى بأروع مظاهرها. وحــدات الإمدادات تزحــف أكثر من مائتي كيلومــــتر بين سلاســـل الجـــبال لتشـارك في القتال, طوابير متراصة من الفلاحين والفـــلاحات تعـــمل على بعد مــــئات الكـــيلومتـــرات لتـــأمين الأطـــعمة والذخائر على الرغم من قذائف المدفعية والطائرات.

سائقـــو الشاحنـــات وراكبو الدراجات يقضون عشرات الليـــالي بلا نوم متــحدين الصعوبات لتوصيل المؤن, حتى الطـــهي والـــنقل والتطبيب تشارك فيها النســـاء والرجال وحتى الأطفال في قلب الخــــنادق وتحت قـــصف المدافع ولهيـــــب النيران.

تكتيك جديد يقوم به المقاتلون للسيطرة على أرض المعركة, شبكة كاملة من الحفر وخنادق الأفراد تغرس السفوح لمئات الكيلومترات. الحفر الفردية العجيبة تمكن رجال المـــــقاومة من الانتشــــار والحـركة والتقدم إلى الأمـــام. يتوالى الهجوم بالاكتساح السريع لمجموعات من مراكز العدو المتـــقدمة في وقت واحد.. المقـــاتلون يشقون طريقــــهم في الجبال وبين الأشـــجار.. قطع المدفعــــية الخفــيفة تطل بكـــثافة على معسكر العدو من مواقع إطلاق بالغة التحصين.

الاكتساح الرهيب حتى النصر

نقطة الضعف الكبرى لدى العدو تكمن في إمداداته بالطيران. تكتيك الثوار يستغل نقطة الضعف فيوجه مدفعيته المضادة ضد نشاط الطائرات.. مع تطور موجات الهجوم وإسقاط الطائرات تتم عرقلة إمدادات العدو وتقطعها نهائيا بالتدريج.

وفي ظل هذا التكتيك المتكامل لا بد من النصر.
خطة العمليات التي وضعها فون جياب تنصب على أن كل موقع للعدو يتم اكتساحه يتحول إلى موقع للثوار بكل ما فيه من ذخائر وأسلحة. المواقع كلها تشكل معسكرا حقيقيا متحركا يطبق في حصار معسكر العدو الذي يضيق عليه باستمرار.

في المرحلة الأولى تم اكتساح مواقع الهجوم. بعدها قام العدو بجهود يائسة لتدمير مواقع نيران المقاتلين وركزت مدفعيته نيرانها القوية على مواقعهم ولكن المقاتلين صمدوا.. وفي المرحلة الثانية امتدت شبكة خنادق الثوار بتشعباتها التي لا تحصى إلى الوادي وعزلت القطاع المركزي عن القطاع الجنوبي.

وأصبح بإمكان الثوار إطلاق مدافعهم من كل المواقع في رءوس الجبال وأن تمارس ضغطاً كاملا على العدو الذي حصر محشوراً في مسافة لا تزيد على كيلو مترين مربعين في منتصف الوادي. ثم بدأ الهجوم العام وانهالت عليه قوات المقاتلين لتكبده خسائر فادحة. وتلاشى كل أمل للعدو في استمرار القتال. وفي السابع من مارس شنّت قوات المقاتلين هجوماً شاملاً من فوق التلال على كل الجبهات فاحتلت مركز القيادة وأسرت كل هيئة أركان العدو وقضت على ستة عشر ألف جندي فرنسي.

وتمزقت خطة نافار نهائياً.. وقدرت الهزيمة المذلة على الفرنسيين.

وهو ما تحقق بعد ذلك مع الأمريكيين في معركة التحرير بين عامي 1968 و1975 والتي انتهت بسقوط سايجون وانسحاب القوات الأمريكية بعد الفرنسية من فيتنام كلها.

 

سليمان مظهر