جمال العربية

جمال العربية

هل صحيح ما قاله حسين عفيف?

ما هو بشعر ولا هو بنثر..
لا يصارح, بل يوحي لتفهم وحدك
وفي إيجازه يكاد يطوي العالم طيا
فكم ضاق بالشرح صدر,
وضاع في التيه هدف!

هكذا يقدم الشاعر الراحل حسين عفيف ديوانه (الغسق) إلى القارئ, ليحسم بنفسه ما ستثيره كتاباته من جدل حول طبيعتها: شعر هي أم نثر? مفضلاً أن يسبق بهذا التعريف الذي يترك قارئه في (المابيْن): ما هو بشعر ولا هو بنثر.. كأنه يريد أن يقول بهذا النفي المزدوج إن فيه من روح الشعر ومن توهج النثر, الشعر بالمعنى الذي يتجاوز منطق التفاعيل والأوزان والموسيقى المتعارف عليها, والنثر بمعنى الصياغة الفنية القادرة على الإحكام في التعبير والإبداع في التصوير, ليصبح هذا اللون من الكتابة رسما بالكلمات, (الشاعر من خلاله يقدم لوحاته ممزوجة بعصارة تجربته, وشفافيته, بحيث نجد أنفسنا نسبح معه في عالمه المليء بالأغاني والورد والماسات المتـــألقة والياقوت المتوهج, والحلم المتكرر في عالم مليء بالحب والخير).

هكذا تقول لنا كلماته على الغلاف الأخير لديوانه (عصفورة الكناريا).

مرة ثالثة يقول حسين عفيف في وصفه لهذا اللون الذي يبدعه من الكتابة, ولتجلياته الإبداعية بأنها (مقطوعات من الشعر المنثور, تعصر لبّ الحياة في كأس, تحوي قيمتها الأصيلة مصفّاة مما يشوبها, وتغني منها القطرة عن البحر.

هدفها إيقاظ القلب باللفظ المُشع والإيحاء الهامس, ليبصر الحقائق بنفسه من خلال إشراقاته, ويكتشف طريقه الذي يضلّه مغمضاً.

فالقلب يبصر ما لا تراه العين, ويلهم كالطير اتجاه الريح, وهو أبعد إدراكاً من العقل وأصوب).

الطريف أن قارئ حسين عفيف في دواوينه الجميلة المتتابعة: (الأرغن) و(الغدير) و(الغسق) و(حديقة الورد) و(عصفورة الكناريا) التي نشر أولها عام 1961 وآخرها عام 1977, لا يشغله كثيراً جهد حسين عفيف في التعريف بكتاباته, أو التوقف عند هذه اللافتات التي وضعها الشاعر على أغلفة دواوينه, القارئ لا يعنيه إلا أنه في مواجهة كلام جميل, وصفه صاحبه بأنه شعر منثور, وأن في هذا الكلام من العذوبة والشفافية والتدفق والإيقاع الداخلي والصور الشعرية ما يفوق كثيراً من الكلام الذي يطلق عليه مصطلح الشعر وليس بشعر, لأنه يفتقد ماء الشعر وجوهره وكيمياءه.

من هنا, كان الاهتمام بكتابات حسين عفيف, والصدى العميق الذي أحدثته في وجدان الألوف من قرائه, وانشغال عدد من النقاد بالبحث في الأصول الأولى والروافد التي استلهمها الشاعر أو تأثر بها. وسرعان ما بدأ الحديث عن الجسور التي تربط عالم حسين عفيف بعالم شاعر الهند والإنسانية طاغور, في إصغائه العميق للطبيعة, وتأملاته الروحية النافذة, وحُنوّه الحميم على كل الكائنات والمخلوقات والأشياء, باعتبارها - جميعا - عالماً واحداً, وكياناً واحداً يضجّ بمعنى جمال الحياة وعظمتها, وهو ما يعني الحرص على تقديسها وإجلالها ومحبتها, في أناشيد وأنغام طليقة لا تنتهي, تتغنى بوحدة الوجود.

هذا الفيض الطاغوري وهذه اللغة الطاغورية - البسيطة في عمق, الشفيفة في امتلاء واحتشاد - هو ما نطالع بعض سماته وقسماته في كتابات حسين عفيف خاصة حين نعيد قراءة (جيتنجالي) و(البستاني) لطاغور ونقارن بين العالم الإنساني السمح والرحب فيهما, وديواني (الأرغن) و(عصفورة الكناريا) لحسين عفيف, وما يتوهجان به من انعطاف إنساني, وسموّ روحي, وإشراق يقارب إشراقات المتصوفة.

ليس معنى هذا أن حسين عفيف هو الطبعة العربية من طاغور, لكنه التقاء الروحين, والصيغتين, والاتصال العميق بما وراء المنظور, ومحاولة الكشف - الدائبة - عن بعض أسرار هذا الكون العظيم في تجليات جماله وبهائه, وامتداد آفاقه وأرجائه. هل تستطيع الذرة الصغيرة أن تجمع في قبض حجمها هذا الكون الهائل, بكل ما يموج به من مخلوقات وأسرار? هذا هو التحدي وهذا هوالسؤال!

.......................

يقول حسين عفيف في ديوانه (الأرغن):

كان الليل يعشقها وهي لم تزل في المهد
فحنا الظلام عليها وهي نائمة, وكحّل أجفانها بقبلة
وحبا القمر على سفوح الربى
ورسم على فمها ابتسامة
وفي الصباح, هرع الضوء لعينيها
فقامت للحْظها قيامة.
وعصر الورد ورقه على وجنتيْها فتضرجتا
ثم سكب الفجر نداه على جسدها فتعطّر
ولقد مال الغصن يُرضعها من لبنه,
فشبّت ممشوقة.
وهبّت عليها نسمة صبا علّمتها التثني
كما غرّد بلبل فلقّنها الكلام.
وفي ذات خريف, بزغ صدرها مع نضج الرمان,
فعشقتها.
................
انتابت فؤادي رعشة مقدسة
حين حمل إليّ الفجر باكورة مقدمك
ورأيتك تخرجين إلى الوجود من أكمامك
في زمرة العذارى اللاتي زفهن إليه هذا الصباح
ولقد راعني منك أنك زهرة موفورة الحسن.
عذراء قد حسرت أكمامها للتوّ,
فبدت مأخوذة بسحْر الضياء
وأقبَلتْ تنهل منه وهي مبهورة
فهبطتُ إليك من غصني واجفاً,
وحييتك بأنشودة عذبة من نغمي المبحوح
تقبلتها في خفر, وأومأتِ
إليّ باسمة
ورددْتها لي بكأسٍ من نداكِ,
رشفتُ فيها أنفاسك العطرة
ثم طرت أنا البلبل إلى غصْني المياد
أحمل بقلبي عبير الحب,
وأنشره في البكور أهازيج
..........
إذا ما انقشع الظلام يا زنبقتي
وتثاءب عنك الفجر بيضاء فارعة بين أترابك
فانتظري بلبلك
لقد بات ليله ساهراً يصوغ لك الأغاني
ويرقب الصبح على الضنى ليلقيها على مسمعك
وإنه لمن وحي سحْرِك ما نضّدها
ومن وجده المتبرّح ما أترعها بالشجى
لم لا يغني على هواه وقد سلبه الحبُّ وقاره?
ألم تسبه فتنة منك طاغية أردتْه سكران?
آنا آتٍ أُغرّد مع الفجر فانتظري مَقْدمي
ولسوف أرسلها أناشيد تأخذ بالألباب
من أعلى الأيْك
تُرى, أأنتِ معيرتي وقتئذٍ سمْعكِ..
ومصغية للمشبوب من نجواي?
ويقول في ديوانه (الغسق)
أيها الجمال أهواك, حيث كنتَ, ولا أملُّ البوْحَ لك
ما خُلق منك وما لم يزل في الغيب, أُكنّ الحبَّ له
وكلما حلفت على هويً شغفني غيره, فحلفْتُ به
ضاع في عشقك عمري, وما لثمت كلّ ثغرٍ بعد.
هالني ألاّ أثلمه, فكيف إن نضجت زهور الغد?
شوق يجيش بأضلعي,
ما له من حدّ
............
في نور عينيك تسبح روحي
وفي ظلّ أهدابك تُعششُ أحلامي
في بُعدك أفقد نفسي, يا سالبة فؤادي
بسهام لحظك.
جودي بالوصل لتردّيها عليّ,
وبذراعك الحنون طوّقي ألمي
واشْفي بحديث الرضا جراح القلب,
يا بلسم حبي..
............
خدّك ورديُّ وقلبي جمرة
كلاهما شبّت به النار وما أحلى حريقها
وأن نفْنى في اللهب المقدس في ساعة نشوة!
يا شمعتي إني الفراشة, برفيفي وهج,
فيها نحترق!
............
عندما احترقتُ على جمر الألم كما يحترق البخور
ألفيْتُني أتحول إلى دخان يتسامى
فطفقت أصعد في السماء وأنا أعبق بالعطر
حتى رأيت والسهد ضيفي ذات ليلة
مواكب نور لا عهد لي به
يشعّ من قبسٍ غير منظور
ويهزج بأناشيد قدسية
وكأني بهاتفٍ يقول لي مرْحى,
إنه سرُّ الخلود
تراءى لك إذ شغفْتَ
فاخترقْتَ الغيبْ!
............
إننا نسطع إثْر الموت, وإن غربت شمسنا
حين نشعل خلْفنا حرقة الفراق
تتوهج في شفق مغيبنا برهة
ثم تخبو في غسق النسيان
ما أوجع صحوتنا في لوعة الذكرى,
مُثْخنين بجراح المغيب!
..........
إلهي إن أَمتَّني فابعثني
وأوقد مرة أخرى شموعي
وردّني للربى حيث زهري, وغناء طيرها يشجيني
وحبيب باهر الحسن نجمر الهوى يسقيني
هذي الحياة لست أملُّها,
فأحْيني عقب كلَّ موت!

ونختتم هذه المختارات للشاعر حسين عفيف, بمقطوعات من ديوانه (عصفورة الكناريا) يقول فيها:

بقي على الغد انسلاخُ الليل, وقد يطول للمنتظر
أأنامُه فأنساهُ, أم يحالفني السهر?
وكيف يغفو من ارتقب الحبيبَ وودّ لو حضر?
ولم يدْر أينجزُ وعده أم يعتذر?
سأساهر النجم ليُسري عني,
وأسأل الليل متى ينقشع
وخلال ذلك أحصي الساعات لو كانت تمرْ
غدي أشرقْ فسيوافي الحبيب,
وكم بالوعد برَّ
ليته لا يخلف الميعاد, فأسهر ليالي أُخر!
...........
حدّثت راهبة أختها في الديْر قالت:
مات وانحدر إلى الفناء كما تنحدر الشمس,
وتركني أذبل في شعاع مغيبه الأصفر
ومذْ مال ميْلة الشمس, فخضّب أفق
حياتي بذكراه, ثم غاب غيْبتَها
فدثّر كوْني بالظلام, أقسمتُ لا يطلعُ
في سمائي بعده كوكب, فكل نجمٍ سواهُ
والله كابي الضياء, وكلُ قمر غيره
لا يُنوّر. فكنت إذا ضقتُ ذرْعاً
بالدجى, نَقبْتُ في ليل زماني طاقةً
وجلستُ أُشرفُ منها على نهاري الراحل,
وبين حينٍ وحينٍ أُندّي بدمعي فجره,
أو أطلقُ روحي حمامةً على أيْكه تنوح.
...........
ارتسمتْ بسمة على وجه الأفق
حين أمسكت نايي ولاعبت ثقوبه
لَكمْ ذا خلْتُه مكتئباً في أيام الأسى
التي توقفتُ فيها عن الشدْو
وخلْتُ أنّ الشفق يعاني من جراحٍ
وأنّ ندى الفجر دمع
قلوبنا تنعكس على ما حولنا
وهي القادرة على أن تحيل الجنة صحراءَ,
والصحراءَ جنة
ليتَ الذي خلق الجمال يشرح صدرنا دائما لرؤيته!
.............
كذبتُ على نفسي إذ قلت لم يبق عندي ما أقوله
ما دمت حياً فهنالك ما يقال حتى يُخرسني الموت
فإناء الشاعر مزوّد بخمرةٍ سحرية
فإن تنضب الكئوس فكأسه تبقى مترعة
ويظلّ ما عاش يسقي السُّكارى حوله
هرمتُ ولم يزل قلبي شابا يدقّ فيبعث بالنغم
يتحدى السنين وهي تَمرّ أن توهن خفْقه
سأظلّ أشدو وإن نخرت عظامي بأغانٍ صبيّة
ولا يبعد إن طال عمري أن أطالعكم بشعر جديد
فما لشاعر أن يشيخ وشبابه في قلبه!
...........

ولقد ترك الشاعر حسين عفيف في دواوينه التي قال عنها وعما فيها, ما هو بشعر ولا هو بنثر, ترك من الكلام المتوهج بروح الشعر وكيميائه ما لا يشيخ, لأنه تجليات قلبٍ شاب, يزداد - بالقراءة - شباباً ونضارة!

 

فاروق شوشة