منحوتات عارف الريّس متحف في الهواء

منحوتات عارف الريّس متحف في الهواء

تنتصب منحوتات عارف الريّس في ساحات وشوارع مدن المملكة العربية السعودية (حوالي أربعين منحوتة), وكذلك في متحف الهواء الطلق بالقرب من منحوتات هنري مور, خوان ميرو, آراب, سيزار, فارزيلي, والإخوة بومودور وليتبسش. وقد وجدت هذه المنحوتات مناخًا فنيًا ساهم بإدخال السعودية في حركة الحداثة دفعة واحدة.

مع ظهور الحداثة في القرن العشرين, ونتيجة للاحتكاك والتبادل الثقافي بين الشرق الإسلامي والغرب, بدأت عملية إعادة الاعتبار لفنّ النّحت على أيدي عدد من الفنانين المبدعين الذين استطاعوا التوليف بين التراث والحداثة أمثال محمود مختار في مصر وجواد سليم في العراق ويوسف الحويك والإخوة بصبوص في لبنان. ونستطيع اليوم أن نضيف إلى هذا الرعيل من الرياديين في فنّ النّحت العربي المعاصر أعمال الفنان عارف الريّس التي أنجزها في المملكة العربية السعودية, نظرًا لأهميتها على صعيد الإنجاز الإبداعي المتمثّل في تطويع فنّ النحت لشروط الدور الشعائري أو الطقوسي لكلام القرآن الكريم والحروفية العربية.

إن ظاهرة انتقال الإشعاع الحضاري في الزمان والمكان ترتبط أولاً وأخيرًا بطبيعة تمركز السلطة الاقتصادية والسياسية القوية. ففي حال توافر شروط الثراء أو بلغة علمية أدق تمركز رءوس الأموال, فإن الفنون تنمو وتزدهر لأنها المرادف والمعبر والمرآة التي تعكس طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي. فحين ينتعش ويتمركز عالم المال يحلّق علم الجمال, لكونه حاجة كمالية متمّمة للترف والسلطة عبر العصور وفي كلّ الحضارات دون استثناء. لذلك, استطاعت دول النفط والسعودية بشكل خاص اجتذاب العقول والطاقات العربية التي أسهمت بعملية الانبعاث الفني الحضاري. فتلمس في قراءة أولية لهذه الظاهرة مسألة (التثاقف) في الفنون بين بلدان الخليج والفنانين العرب الذين هاجروا إليها بقصد العمل واستثمار الجهد المعرفي في نهضتها وبناء أسس الحداثة فيها على خلفية أعمال الفنان عارف الريس النحتية التي أنجزها في السعودية إبان فترة الحرب الأهلية في لبنان.

وحيث إن هناك عاملاً آخر أدى إلى هجرة العديد من الفنانين والمؤسسات الثقافية إلى الخليج هو عامل اللااستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في بعض بلدان الهلال الخصيب, والذي دفع باتجاه المبدعين نحو هجرة أوطانهم على سبيل المثال: الحرب الأهلية في لبنان, الشتات الفلسطيني وأزمات مصر بعد حروبها مع إسرائيل.

ولعلّ ظاهرة الاغتراب أو الانتقال الإبداعي بين بلد عربي وآخر, هي ظاهرة تاريخية في الأدب والفنون العربية والإسلامية حيث كان الشعراء والفنانون والمعماريون ينتقلون بين بلاطات الملوك والأمراء بقصد الإبداع والعيش وخاصة في العصور الماضية. حيث إن الفن لا ينمو إلاّ في الحاضرات ومناطق السلطة والنفوذ والرخاء الاقتصادي. لذلك, نلاحظ في تنقل الفنانين الدائم خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين ظاهرتي العصر والتاريخ معًا. لقد غادر لبنان عدد كبير من الفنانين باتجاه الشرق والغرب إثر نشوب الحرب الأهلية خوفًا من عشوائية تلك الحرب التي طالت كلّ المناطق والفئات والطبقات والطوائف. ومن الفنانين اللبنانيين الذين تنطبق على نتاجهم الفنّي سمات ظاهرة التثاقف العربي: الفنان عارف الريّس والفنان وجيه نحلة - كلاهما عاش فترة في السعودية وأنجز على مراحل أعمالاً فنية ذات نكهة مميزة هي مزيج من روح التراث والحداثة في التصوير والنّحت.

شمولية الإبداع

عارف الريّس شخصية فنّية متنوعة المراحل والنزعات, شمولية الإبداع تمتدّ حياته الفنية على مساحة النصف الثاني من القرن الماضي. متمردّ بطبعه على السائد, وقادر دائمًا على كسر المألوف, والشطح نحو الرحابة واللانهائي. ولد عام 1928, معايشًا إرهاصات الجيل الأول من اللبنانيين, متوغلاً في خضم تجارب ومعاناة الجيل الثاني في الطوق نحو الجمع ما بين الحداثة والتراث, أي التجاذب بين ما هو مشرقي وغربي. درس الرّسم والرقص والفلسفة في باريس وروما وأمريكا, مساهمًا في تأسيس نواة أكاديمية في الفن التشكيلي اللبناني. كان ملتصقًا دائمًا بهموم وهواجس عصره الفلسفية والسياسية والفنية.

يرى الفنّ فلسفة حياة وتعبير. باكرًا ولج عالم الأسئلة الكبرى في كراسه الذي قدّمه عام 1946 لميخائيل نعيمة عن (النسب الروحية والمادية بين الشرق والغرب). وذهب بعيدًا في ترحاله للبحث عن الحقيقة والجمال من عالية إلى فلسطين إلى إفريقيا ففرنسا وروما وأمريكا وبريطانيا والسعودية فلبنان. هاجسه الفلسفي حول التجريد والصوفية بدأ مبكرًا ونضج في مجموعة من منحوتات هي عبارة عن نصب تفخيمية Monumental احتفالية, تزين ساحات السعودية اليوم. إن عارف الريّس فنان مدرك في اللاوعي لانتمائه للشرق وللعالم الثالث لذلك, خاض مجمل تجارب عصره في اللوحة من الوحوشية والتكعيبية والسوريالية والتجريدية فالواقعية الجديدة البنائية والكولاج. كان دائم البحث في المكان الذي يحط فيه عن الخاصيّة والتميّز وعن الإنساني العام والشمولي. نادرًا ما ركز على التفاصيل بل اهتم بالظواهر الأعمق والأشمل. بدءًا بالمرحلة الإفريقية حيث اندغام الطبيعة والإنسان, الحركة والجسد, الضوء واللون. رأى في كل الثورات المعاصرة له كالثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية ثورته الشخصية, حقل تمرّده وفسحة أحلامه بالعدالة والحق أو الحريّة. فصور هموم ابن العالم الثالث الممزّق بين التبعية والتحرّر (مجموعة رءوس وأقدام, جدارية الثورة الجزائرية, ناس من الجزائر, الشهود, من رؤى العالم الثالث, الحب والثورة, الحب والموت والثورة, المايسترو كابوس السلم, الكرنتينا, الملاك القاتل, النبعة وغيرها). اهتمّ بالتأليف والبناء العضوي العام للوحة وامتلك مرونة الخط وقدرة الاختزال والترميز في هندسة سطح اللوحة وتطويع اللون وفق جوهر اللاشيء والمادة. لم يفصل بين الحياتي المعيش والاحتمالي, بين الجمالي والأخلاقي, الغريزة والحواس خاصة في مجموعته الجريئة من حيث الشكل والمضمون(مجموعة زهرات شارع المتنبي أوائل السبعينيات) التي اقتحم بها ذلك العالم الازدواجي النبرة في مفاهيمنا وسلوكنا, مقحمًا الفن التشكيلي اللبناني حيزًا مكتومًا, مسلّطًا الضوء على الظل الآخر من الشخصية الشرقية السريّة والباطنية القابعة في الظلّ لكنّها عاجزة عن مواجهة نفسها والحياة. كان لعرضه هذه المجموعة أن فكّ طلسم الوقار المضروب على هالة السلطة, وفجر مفاهيم حياة العلن وحياة السرّ عند الرجل (السلطة) والمرأة (المتعة) في مجتمع يسير بقدميه نحو الحرب الأهلية المدمّرة منتصف السبعينيات. عمل في النّحت مبكرًا أي في الفترة الواقعة ما بين 1960 - 1964 وقد حصد الجائزتين الأولى والثانية من منحوتاته التي قدّمها لمعرض الخريف للنحت والرسم في عام 1965. فقد درس النّحت في محترف (زادكين) في باريس, ودرس مع (Berti) في فلورنسا, وتعرف على النحت في بريطانيا عام (1966 - 1970) وما يُميّز شخصية عارف الريّس الفنان هو البحث الدائم في النظرية (الفلسفية) والتطبيق (المادة, الحجر, الرخام, البرونز, النحاس وغيرها) وفي الشرق والغرب على حدّ سواء. إذ يعيش في الشرق يرتاد فلسفته الروحية والتجريدية وحضاراته القديمة وينتقل إلى الغرب فيلتمس آخر معالم الحداثة ليطوعها على نكهة محلية وفلسفة شرقية.

مكامن الإبداع

من خلال التعرّف على سياق تطوّر المهارة النحتية لدى عارف الريّس, نَجد اجتهاده الشخصيّ في البحث عن مكامن الإبداع والتجديد والتأسيس لفن نَحتيّ محلّي, هو محاولة بحث عن صيغة معاصرة للحضارة الحديثة القائمة على تزاوج روح الشرق وتقنية وقوانين الغرب في الفنّ والنّحت بالتحديد. إن مجموعة من منحوتاته التي تعود للستينيات والسبعينيات حملت مجمل هواجس التجريد والتسطيح والذهنية الهندسية في التأليف كما انبثقت عن معالم التوليف ما بين التراث والمعاصرة ويستوقفنا في هذه المرحلة عمله الضخم الذي مثّل فيه لبنان بالمعرض الدوليّ بنيويورك عام 1964 (الجندي الفينيقي, حديد ونحاس, 3 أمتار) حيث شهد المحاولة الجديّة لاستلهام التراث المحلي الفينيقي والارتقاء بالفنّ اللبناني نحو العالمية عن طريق مزج التراث بالحداثة. ولكن فقدان المقاييس الجمالية لفنّ فينيقي صافٍ ومميز, باعتقادنا دفع عارف الريّس نَحو التجريد والحروفية في النّحت. بل حاول في هذه المرحلة تطويع مقاييس هنري مور وزادكين (اللذين استلهما إلى حدّ كبير الفنّ البدائي والأقيانوسي والفرعوني القديم) في منحوتات تعود للستينيات وأوائل السبعينيات (تأليف نحتي, صخر لبناني, عالية أوائل السبعينيات) وأخرى تعود للعام 1965. هذه المحاولات في النحت كانت بمنزلة المرحلة التجريدية والتمهيدية لِما نضج عنده واختمر في روحه وفي ذاكرته لاحقًا في المرحلة المتأخّرة في السعودية حيث تعدد تجاربه واختباراته في شتّى الأشكال والأحجام والمواد, وغالبًا ما كانت السطوح والخطوط متجاورة متجانسة متناغمة لكنها تفتقر إلى موسيقية التناغم في الحركة والإيحاء والرمز والتعبير.

المكان البكر

مهّدت المرحلة الأولى من التثاقف (المحلّي والعالمي) (الشرقي والغربي) (التراثي والحداثي) لمرحلة (التثاقف) العربي - الشرقي. وفي هذه المرحلة من إنتاج عارف الريّس في فنّ النّحت, تبلورت معالم تميّزه وبرزت خصوصية رؤيته في فنّ النّحت العربي المعاصر. ولعلّ البحث الدءوب من جهة, وحياة الفنان الشخصية من جهة ثانية رسمت معالم دوره الفنّي وأوغلت به في فضاءات الصحراء ومهوى النور والشمس. إن بذرة أحلامه بالتجريد والتوحيد والصوفية بالمعنى الإبداعي الشمولي في لبنان والغرب, أينعت وحان قطافها في ذلك المدى الأفقي اللامتناهي في السعودية. فمن ناحية ضاقت به الدنيا عشية الحرب اللبنانية واغتيال الأحلام بالثورات والشعارات, وعشوائية القصف الذي طال محترفه وأعماله أكثر من مرّة, فهاجر نَحو ذاته وأعماق تجربته في البحث عن المطلق والشمولي. وكانت السعودية مكانًا بكرًا لتفجير فلسفته وطاقاته المتعددة والموقوتة, فانطلق باتجاه ريادي من حيث الذهنية التأليفية ومن حيث التوليف بين فنون شرقية إسلامية بحتة هي فن العمارة والنّحت والحروفية. فجاءت منحوتاته الضخمة وهي عبارة عن نصب تفخيمية احتفالية Sculpture Manumental تذكّرنا بالنصب التذكارية الرومانية. وأهم ما يُميّز حالة التثاقف في النصب النحتية لعارف الريّس في السعودية هو وحدة الروح الفنّية الإسلامية المتمثّلة في التجريد والذهنية الهندسية في السطوح والتجانس في الحركة والخطوط الأفقية والعمودية مع غلبة الأفقي خاصة في منحوتة (الله نور السموات والأرض, حجر بارتفاع 14 مترًا, تبوك المملكة العربية السعودية) وأخرى مثلها منجزة من الرخام الأبيض, وحتّى من الإنجازات الإبداعية في حقل التوليف بين الكلام المقدّس في الإسلام وبين مفهوم النّحت المعاصر القائم على التجريد والترميز والتسطيح في التأليف. إن تاريخ الفنّ الإسلامي لم يسجّل ظواهر نحتية تفخيمية لاسم الجلالة (الله) ولم يتعامل مع النحت كنصب بل كعملية تزيينية للجدران أو السقوف والنوافذ والأبواب من رقش وتوريق وتعشيق وتحوير للأشكال النباتية والحيوانية في نظام هندسي تكراري لا متناهٍ. الظواهر الأولى في فن النّحت المعاصر أن يخضع فنّ النّحت للفلسفة الجمالية والشعائرية الإسلامية في القرن العشرين, وفي هذه الظاهرة إبداع وتجديد وتطويع للحداثة وانبعاث لفنّ النّحت الذي تراجع دوره الشعائري والطقوسي والجمالي مع ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية وهذا يتمثّل في ما حققه عارف الريّس في نصب (اسم الجلالة - جدّة المملكة السعودية 23 مترًا ارتفاع) هي عبارة عن مجموعة خطوط متوازية في ارتقائها نَحو الحركة الأفقية الضاربة في الأفق (تتألّف من كتل هندسية السطوح ترتفع فوق بعضها بتآلف مرئي يوحي بالتوحد) وهناك نصب (يا ربّ, منحوتة من رخام أبيض 14 مترًا ارتفاع, مدينة تبوك في السعودية) يمتاز بناؤها العضوي العام بتعقيد الحركة بين الخطوط القائمة الزوايا والخطوط نصف الدائرية بحيث تشتبك في حركة متداخلة تشبه إلى حدّ كبير تشابك مختلف الأشكال الهندسية في سطوح الأرابيسك. أما المنحوتة الأقرب إلى المزج ما بين الشكل الحروفي والمضمون فهي منحوتة (يخرج الحي من الميت, رخام أبيض, المملكة العربية السعودية), حيث يرتفع شكل بيضاوي من على قاعدة مؤلفة من طبقتين. تزين عبارة يخرج (الحي من الميت), القاعدة السفلى, والشكل البيضاوي, وهي تُمثّل نوعًا من المقاربة بين التجسيد والتجريد لشكل البيضة التي تَخرج منها الحياة. إضافة إلى منحوتة اسم الجلالة في مدخل مدينة جدة 23 مترًا ارتفاع ومنحوتة (نهضة وعمران) وغيرها. حيث تزين متحف الهواء الطلق في مدينة جدة سبع منحوتات ومتحف الهواء الطلق في تبوك, خمس منحوتات. وبهذه الإنجازات الريادية في فن النّحت الإسلامي الشعائري, الذي يجمع بين النّحت والحروفية استطاع عارف الريّس إعادة فنّ النّحت إلى وظيفته الدينية المقدّسة لأول مرّة في تاريخ النّحت المعاصر مطوعًا الحجر لروحانية الكلام المقدّس مانحًا إياه شكلاً معاصرًا, وبذلك قد أدخل إلى السعودية معالم التوليف ما بين التراث الإسلامي الحروفي والحداثة وإذا كان أعلام الحداثة في التصوير والنّحت الغربي قد استلهموا في أوائل القرن العشرين معالم التجريد من الحضارات الشرقية والإسلامية, فإنّ أعلام الحداثة الشرقيين قد أعادوا التجريد إلى عقر داره وأدخلوا النكهة المعاصرة إليه وفي هذه الظاهرة تتمثّل حالة (التثاقف) الإبداعي, العربي - العربي من جهة لبنان والسعودية و(الشرقي - الغربي) من جهة ثانية النّحت الحديث والتراث الحروفي الإسلامي بوصفه فنًا شعائريًا لقداسته ووظيفته الجمالية والأخلاقية والدينية.

 

زينات بيطار

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




منحوتة اسم الجلالة, 23 متراً, جدة... السعودية





إحدى منحوتات الفنان عارف الريس في السعودية





في متحف الهواء الطلق بجدة. نفذت عام 1966, صخر لبناني





استلهام التراث الاسلامي واضح في أعمال الريس





نور السموات والأرض, رخام أبيض, الارتفاع 14 مترًا, المملكة العربية السعودية