رفيق المعلوف والمستشرق (بلاشير) في حديث لم ينشر عائد إلى سنة 1955

رفيق المعلوف والمستشرق (بلاشير) في حديث لم ينشر عائد إلى سنة 1955

المستشرق الفرنسي العلاّمة (بلاشير):
خليفة كولومبوس أطلق اسمه العربي على أمريكا!

يستعد الكاتب الشاعر والصحفي اللبناني رفيق المعلوف لإصدار ثلاثة أجزاء جديدة من مجموعة أبحاثه ومقالاته (مفكرة الأيام - خمسون سنة في الصحافة) المؤلفة من تسعة أجزاء صدرت ثلاثة منها سنة 2003. وقد خصّ (العربي) بهذا الفصل الممتع من فصولها الذي ينشر للمرة الأولى.

  • نهلت من بلدان المغرب العربي كل معارفي المبكرة لعقد من الزمان.
  • ترجمة القرآن إلى لغة أخرى صعبة لأنه مكتوب بلغة عبقرية.
  • لم تكن اللغة العربية لغة طبقية في أي وقت, لقدجعلها القرآن ملكا للجميع.
  • لم أحص من الخطوط العربية إلا 13 خطاً وأعتقد أنها أكثر بكثير.

مثلما يطوي الزمان آثار المدنيات الغابرة حتى يبتعثها العلماء الناقبون من رميم الحواضر الخربة, كذلك تنام التجليات الفكرية والثقافية ردحًا في الدروج المنسية وخزائن المكتبات الدهرية يفضّ كنوزها الباحثون وينفضون عنها غبار الأزمنة.

فقد عثرت منذ أيام بين أوراقي الصفراء التي يعود بعضها إلى أكثر من نصف قرن, على حديث رائع خصّني به في 16 ديسمبر 1955 نابغة الاستشراق الأوربي في القرن العشرين العلاّمة الفرنسي ريجيس بلاشير, وكنت يومها محرّرًا للشئون الثقافية في جريدة (الجريدة) اللبنانية, فبادرت إلى نشر فقرات مجتزأة منه تتعلق بالجانب الثقافي, في عدد (الجريدة) الصادر بتاريخ 18 ديسمبر, دون سائر الأمور المتعلقة بالتراث العربي, وخصوصًا الشق التاريخي الكبير الأهمية والفائدة, من الحديث الذي عزمت على إثباته بنصه الكامل في الصفحة الأدبية لاحقًا. ولكن وعكة صحية خطيرة ألمت بي في اليوم التالي وألزمتني الفراش مدّة شهرين تراكمت عليّ بعدها شواغل طارئة وملحّة, فنسيت الموضوع كلّيًا. وأنا فيما أقدّم هذا الحديث المبتكر إلى القراء بعد خمسة وخمسين عامًا توالت عليه في مخدع الإهمال, آمل أن يأخذوا العبرة وهم عاكفون على مطالعته من قوله تعالى: فأمّا الزبدُ فيَذهبُ جُفاءً وأمّا ما ينفعُ الناس فيمكثُ في الأرض .

بلاشير والتراث العربي

  • هل من أسباب خاصة دفعتك إلى الاهتمام بالتراث العربي, خلال نشأتك? وما سرّ إعجابك به واختيارك طريق الاستشراق?

- ولدت في باريس عام 1900 مطلع هذا القرن, ونشأت فيها نشأة فرنسية عادية, تعرفت خلالها إلى بعض الطلبة المصريين والمغاربة ممن كانوا يباهون بتراثهم وحضارتهم العريقة, فتأثرت بالكثير ممّا سمعت. وحصلّت القراءة والكتابة بالعربية على أحد أصدقائي العرب المقيمين في فرنسا, ثمّ قرّرت بروح المغامرة التي تحكم طموح الشباب, أن أفيد من الوجود الفرنسي في بلدان المغرب العربي, فرحلت إلى الديار المراكشية في سنّ الفتوة المتحمّسة, ونهلت فيها خلال أكثر من عشرة أعوام معارف ثابتة ومتقدّمة في الصرف والنحو والبيان, وفقه اللغة, وعلوم الدين والسيرة النبوية وأخبار السلف, وتفسير القرآن. وكنت كلّما أوغلت في تلك الواحات الزاهية التي يعتبرها المثقفون الأوربيون مجاهل يومذاك, أكتشف روعتها ورواءها, وآنس بما اختزنت من آلاء الفكر والروح, فدخلت عالم الاستشراق بالعدّة المثالية المطلوبة.

وفي العام 1935 عدت إلى باريس, فتلقفتني إدارة التعليم العالي باهتمام, وخصص لي منبر في معهد العلوم الشرقية احتفظت به حتى 1950, حيث عيّنت مفتّشًا عامًا للمدارس التي تعنى باللغة العربية في فرنسا, ثمّ أستاذًا للغة العربية في السوربون, وهو مركز لا أزال أشغله إلى اليوم.

عبقرية المتنبّي وعظمة القرآن

  • لقد ذاعت شهرتك في الشرق والغرب من خلال أطروحتك الأكاديمية الرائدة حول شعر المتنبي وأفكاره وسيرته, كما نقلت القرآن إلى اللغة الفرنسية. فماذا يمكن أن تزوّدوا به قراءنا من معلومات حول هذين الأثرين, ممّا لا يعرفه النقّاد ولم يتطرق إليه الباحثون?

- - كنت أبحث طيلة أيام دراستي في باريس وفي المغرب عن حقيقة (النفس العربية), فأراها متشعّبة الظواهر في شتات المؤثرات الغريبة... حتى اهتديت إلى ديوان أبي الطيب المتنبّي, وتعقّبت آثار هذا العبقري ومحطات سيرته في كتب المؤرخين القدامى, فتبيّن لي أنه يعبّر أعمق تعبير عن شخصية الإنسان العربي الذي تعيّن عليه خلال تاريخه المضطرب, منذ الجاهلية الأولى إلى اليوم, أن يغالب القوى, التي يتصوّر مخطئًا أو مصيبًا, أنها تسعى إلى تحطيمه أو تحجيمه, لا بسبب مصالحها فقط, بل بسبب استعلائه على الآخرين, حتى لكأن هنالك (جرثومة سامية) إن جاز التعبير منتشرة بين العرب, أشار إليها القرآن في قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس وبين اليهود الذين يؤمنون من خلال التوراة أنهم (شعب الله المختار)!!

واكتشفت كذلك في شعر أبي الطيّب - فضلاً عن شخصية الإنسان العربي - العناصر الأساسية التي تكّون شخصية (الإنسان المثالي) بوجه عام, كمفاهيم الشرف والبطولة والتضحية والغوث والقوة والتحدي, واسترخاص الحياة, واستهجان المادة, والتمسك بالعفة, واحتقار اللّذة, إلى آخر القيم التي يعتزّ بها المتفوقّون في كلّ زمان ومكان, فخصصت ذلك البطل التاريخي بأطروحتي.

أمّا فيما يتعلّق بالقرآن الكريم, فأرى بالتجربة الشخصية أن ترجمته, مستصعبة إلى أبعد مدى, إن لم تكن مستحيلة. ذلك أنه مسجع مقفّى يتعذّر كليًا وضعه في لغة أخرى بأسلوب يضاهي أسلوبه العربي. أقول هذا معترفًا بالتأكيد أن عبقرية اللغة العربية القرآنية تفوق أي عبقرية لغوية عربية نرصدها في الشعر أو في النصوص النثرية المسجّعة الأخرى. وانطلاقًا من هذه الحقيقة سرعان ما يتّضح للباحث المجتهد أن ترجمة الشعر أيضًا تفقده في نقله من أي لغة, وخصوصًا من العربية, إلى لغة أخرى, ثمانين في المائة من طابعه المميّز في لغته الأصلية, فكيف بكتاب لم تعرف اللغة العربية صنوًا له أو ضريبًا ما في تاريخها?!

ثم إن للقرآن سبع قراءات لا يتصل كلّ منها فقط بنغمة الإلقاء والتلاوة, بل تركّز كل قراءة على معنى خاص لهذه الكلمة أو تلك في سياق الآية الواحدة, بحيث لا يلفت قارئ القرآن انتباه المستمع إلى الآيات فقط, بل إلى مساقط الكلمات في نصّ كلّ آية بحيث تزدحم في بعضها المعاني تقاربًا أو تباعدًا في الأفهام الواعية, فيكون تأثير القراءة في نفس المتلّقي ملائمًا للقصد المطلوب والتوجيه الفوقي المتوخّى.

لذلك أوجز بالقول إنّ ترجمتي للقرآن, التي شهد العالم الإسلامي بأسره وجمهرة المستشرقين عمومًا, بأنها كانت الأكثر دقّة وأمانة... ليست ترجمة بالمفهوم المتعارف عليه لكلمة (ترجمة) بل هي نقل أمين صارم (لمعاني الآيات البيّنات) إلى اللغة الفرنسية. وهذا النقل لم يأتِ بقرآن فرنسي اللغة, بل بقرآن عربي معبّر عنه قدر المستطاع باللغة الفرنسية. وكان لهذا العمل بالتأكيد فعله الكبير في تعريف الناطقين باللّغات اللاتينية جمعاء وحتى باللغات الجرمانية والساكسونية بجوهر الإسلام.

الحاجة إلى دستور للثقافة

  • ما موقفك من تعدّد اللغات وتعدّد الثقافات? لقد قيل دائمًا إن الشرق شرق والغرب غرب, ولن يلتقيا!.. فهل تؤيد هذه النظرة إلى الوجود الإنساني? وكيف يمكن تحويل الاختلاف التعدّدي إلى عنصر إيجابي في خدمة الإنسان?!

- في القديم الأقدم من الأزمنة لم تكن هنالك لغات, بل (مجرّد أصوات وحركات وتعبيرات شفوية عن رغبات وإرادات فردية أو جماعية) في مجتمع البداءة. وقد تجمعت تلك الأصوات والتعبيرات البدائية بصيغة أو بأخرى لتأمين المصالح والشئون الحياتية المتبادلة, عند هذه المجموعة البشرية أو تلك, في هذه البيئة الطبيعية أو تلك, وفي هذا المنقلب من الأرض أو ذاك, فشكّلت أدوات بل رموزًا متعارفًا عليها بين عناصر المجموعة. لذلك أقول إن اللّغات البدائية لم تكن يومًا سببًا رئيسيًا في التنافر!

ولكن عند انتقال المجتمعات البشرية الأولى من زمن الوجود الفيزيولوجي الصرف إلى زمن الوجود العقلاني, المتسائل عن أسرار الطبيعة والحياة, ظهرت (المعتقدات الغيبية), وتكوّنت فكرة الدين, فكان لا بدّ للمجتمعات الإنسانية من إيجاد صيغ أكثر تطورًا للحوار والتعبير والإقناع, فبدأ في تلك المرحلة المتقدمة عصر اللغات وبدأ معه تنوع الثقافات.

لذلك أرى أن الحاجة الماسة في عصرنا ليست لتوحيد الثقافات, لأنه محال بسبب الفوارق الأساسية بين المعتقدات الغيبية, وهي فوارق لا يكفي لاستئصالها مجرد قولنا, ولو بالتسليم العميم, أن (جوهر الأديان واحد), بل إن حاجة الإنسانية اليوم, بعد كلّ ما تسبّبت به الثقافات المنبثقة عن المعتقد الديني من حروب ونكبات وأهوال, هي بالدرجة الأولى حاجة إلى بناء (مرجعية أخلاقية وجودية) تتجسّد في (شرعة كونية) تحرّر الإنسان من راديكالية الغيبيات الدينية بعد انتقاء الصالح والمفيد من أخلاقياتها, وصهر تلك الأخلاقيات المميزة فيما أسميه (دستور الثقافة الإنسانية الواحدة لمستقبل الحضارة والحياة).

تسألني, كيف يكون ذلك? وما الآلية الممكنة لإحداث هذه الثورة المعتقدية? فأجيب بما يلي:

لقد كان إنشاء منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بادرة جيّدة وخطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح. ولكن صلابة الشرعة التي وضعت للمنظمة, وما أعقبها من إعلان عالمي لحقوق الإنسان, وغيره من النصوص والضوابط الكابحة لمطامع الافتراس والطغيان, سوف تتراخى بمرور الزمن, وتتداخل في إرهاقها عناصر التهوين والتخوين والطمع والأحقاد المحجوبة والعواطف المكبوتة والطوارئ والفجاءات غير المحتسبة, فتفضي خلال أقل من خمسين عامًا إلى حالة الهرم, وتموت بتلاشي حيويات شبابها المتقادم سنًا, أو بفعل المعصية الفوقية للجبابرة المستكبرين.

ومهما يكن من أمر, فإنني لم أفقد الأمل بعد في أن تتمكن الأمم المتحدة, وهي لا تزال اليوم في ريعان شبابها, من تحقيق (الثورة المعتقدية) التي ننشد جميعًا, بالدعوة إلى (مجمع مسكوني) تشارك فيه العناصر المختارة المخلصة من رجال الأديان, وأهل الفكر والفلسفة والقانون, والنخبة من المتميّزين بتعدّد المناهل الثقافية (Humanistes), وأصحاب النظريات والإنجازات الكبرى في العلوم والأبحاث والكشوف الحضارية كافة, فيكون لهؤلاء مجتمعين ومرتّبين في لجان متخصصّة, عمل دائب مدّة عامين كاملين لوضع (دستور الثقافة الإنسانية الواحدة) الذي أقترح, ويتعيّن أن تلتزم بهذا الدستور الثقافي جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتجعله مقدّمة عقائدية غير قابلة للعزل والتبديل في دساتيرها الوطنية والقومية الخاصة.

في تطوير اللغة العربية

  • تعرفون, وأنتم في طليعة المستشرقين المتضلعين من اللغة العربية, أنها صعبة المنال لم تتبدل قواعدها منذ بضعة عشر قرنًا, وهنالك اقتراحات عدّة يتبارى في عرضها الراغبون في تطويرها بتبسيط الصرف والنحو عبر تدابير جراحية كإلغاء التثنية وجمع المؤنث السالم ونون الإناث, أو الممنوعات من الصرف, وغيرها ممّا لا مجال إلى تعداده في هذا المجال, ويدعو بعضهم إلى كتابة العربية بالحرف اللاّتيني, أو زيادة أحرف العلّة على الأبجدية, وغير ذلك من تبديلات. فما رأيكم في تطوير اللغة العربية? وما أفضل السبل لإدخالها نادي اللغات الحيّة? وهل ترون في استنباط اللغات العامية المحكيّة منجاةً للعربية الفصحى من القبوع القهري في متحف التاريخ?!

- عليّ بالتأكيد أن أجزئ الأجوبة على هذا السؤال الجامع, فأقول:

أولا: إنّ من نعم الله على اللغة العربية وجود القرآن الكريم بنصّه العربي الخارق الذي حماها من (المالطية) وأعني بذلك الذوبان في لهجات عامية لا قوام لها ولا عبقرية ولا شخصية. ولو أخذنا اللغات الأصيلة التي تحوّلت بفعل الحاجة الاستعمالية إلى عاميات, كاللاّتينية أو الجرمانية أو غيرها من اللّغات الأصلية والأصيلة في الشرق والغرب, لتبيّن لنا أن ذلك التحوّل قد نجم عن تطوّر أسباب الحياة وأدوات العيش وأغراض الوجود فضلاً عن نموّ التفاعل الإنساني, الأمر الذي جعل اللغات الأساسية التي لم تتطور على الإطلاق بمنزلة (أدوات طبقية محنّطة) ينفرد باستعمالها المقيمون في الأبراج العاجية من الأرستقراطية العليا والبورجوازية المتمولة, وينفر منها سائر الناس, باحثين عن أدوات أكثر طواعية في تلبية أغراضهم.

ولكن العربية لم تكن في أي عصر لغة طبقية. وقد ظلت بالرغم من دقائقها المستصعبة قادرة على توفير إلمام العامة بفهمها, بسبب عوامل أساسية منها قراءة القرآن, وحفظ الشعر والتداول به, وعوامل أخرى نجمت عن تعميم أسلوب الصحافة, وغيره, حتى ليمكن القول إن الأزجال الإقليمية في الشام ومصر والعراق والمغرب والجزيرة, هي تعبيرات شعبية فصحى تفتقر فقط إلى مقوّمات الإعراب. ولو كان لدي متسع من الوقت لقدمت لك الأدلة الوافرة على ذلك.

ثانيا: إن تفرّد العربية دون معظم اللغات الأخرى بالتثنية وصيغ التأنيث المختلفة ممّا يعتبره بعض أصحاب العلم الناقص بفقه اللّغة (La Sہmantique) بدائية وتخلّفًا, هو دليل رقي عظيم يتوخّى الدقة في تحديد المعاني والتعريف بالموصوف, ولا يجوز إلغاؤها, لأن ذلك ينتقص من البلاغة. فلو قلت (المؤمنون) فقط, لأوجزت إيجازًا عاديًا لا بأس به, لكنك لو قلت (المؤمنون والمؤمنات) لاكتمل إيجازك (بالتعميم) الأبلغ والأشمل. ذلك فضلاً عن أن قولك (المهندسين) وأنت تقصد اثنين فقط تمييزًا عن جميع المهندسين, لاكتمل إيجازك (بالتخصيص) الأبلغ والتحديد الأدق.

ولا مجال هنا لتعداد فضائل هذه القواعد التي يعتبرها السطحيون من ضروب الشذوذ وهي في الحقيقة ظواهر تفوّق واحتساب. أمّا التعبير عن أحرف العلّة (الألف, والواو, والياء) بالضوابط التشكيلية فتحًا وضمًا وجرًا, أو تنوينًا, بحسب مواقع هذه الأحرف في سياق الكلام اختزالاً أو مدّاً, فقد فرضته قراءة النص بأساليب شتى للتمييز الهادف بين المعاني, وتتويج البلاغة بمهارة الإيجاز.

كلّ هذا, يحتاج إلى محاضرات طويلة ومصنّفات مستفيضة واسعة, وهو يقودنا إلى استحالة كتابة العربية بالحرف اللاّتيني. وأول ما يبطل هذا التصور الخاطئ قراءات القرآن المتعدّدة الموصوفة التي يستحيل أداؤها عندئذ على قارئي القرآن, وقراءة الشعر البليغ والنثر الأنيق الفصيح.

ثمّ إن العربية ليست لغة الطورانيين من التتر والمغول وغيرهم من الشعوب التي لا أثر يذكر لتراثها الكتبي في تاريخ الحضارة. وسيكون من الغباء بل من الإجرام أن نهمل ملايين المؤلفات الخالدة التي كتبت بالحرف العربي وهي لاتزال في المكتبات العالمية بحاجة إلى إحصاء وتحقيق ونشر, فنتركها لعبث القوارض قابعة في الأقبية العفنة منذ قرون, لنعتمد حرفًا هجينًا غريبًا, تفهمه العامة السادرة الساذجة, ويدخل العرب المعاصرون معه باب الحضارة الجديدة من موقع في الدرجة الثانية أو الثالثة تحت الصفر.

وأستطيع القول - في أي حال - إن بعض التبديل أو التطوير للّغة العربية يمكن أن يتمّ, ولكن بحذر شديد واهتمام فائق, مع العلم أن هنالك نوافل يتعين الاستغناء عنها, وقواعد لا ينقص تبديلها من عبقرية اللغة شيئًا. إلاّ أن اللغة ليست هواية تسلية يجوز أن يتبارى في تحديثها أناس يؤدي عبثهم, بقصد أو دونما قصد, إلى التشويه.

الخطّ العربي آية فنية نادرة

  • علمت أنك أمضيت ثلاثة أيام في دمشق قبل مجيئك إلى بيروت, وأن الحكومة السورية منحتك وسام الاستحقاق, وكنت قد ألقيت بعض الدروس خلال السنة الماضية في الجامعة السورية, وتحدّثت من على منبرها خلال زيارتك هذه, حديثًا مطولاً في مسألة الخطّ العربي التراثي كانت موضع التقدير والإعجاب في المجتمع الثقافي الدمشقي, فهل لك أن تفيدنا بخلاصة محاضرتك المتعلقة بهذا الموضوع?

- لقد أعربت أولاً عن تقديري لاجتهاد الخطّاطين السوريين البارعين الذين حافظوا على قواعد الخطّ الأصيل, ولم يجنحوا إلى اختزالها أو تبديلها بما يشوّه صورتها الفنية الرائعة, كما أبديت تحذيري لهم من اتباع أساليب الخطوط التكعيبية والتربيعية الحديثة, التي ابتدعها أناس أخشى أن يكونوا مكلّفين من جهات غامضة بتشويه جمال الخط العربي, الذي كان ولا يزال, أروع تعبير عن روح الحضارة العربية الإسلامية التي حرّمت عليها التقاليد تصوير الكائنات الحيّة, فحرّمت هكذا التصوير بوجه عام.

وبيّنت في تلك المحاضرة أنني أحصيت بالاستدلال العلمي الهادف, الخطوط العربية التراثية, وحدّدتها بثلاثة عشر خطًا هي: الثلث, والنسخي الفنّي, والنسخي الدفتري, والرقعي, والفارسي, والديواني الجلي, والديواني الشاهاني, والريحاني, والكوفي المشرقي, والكوفي الأندلسي, والقيرواني, والمغربي الكتبي, والمغربي المسماري. وقد تصرّف الخطاطون بهذه الخطوط الأساسية زيادة واختزالاً, كما تصرّف الشعراء بالأوزان الخليلية واستحدثوا المجزوءات.

ومهما يكن من أمر, فقد عجزت في الواقع عن إحصاء الخطوط العربية كلّها, ممّا عاينته في مكتبة الأسكوريال, والمكتبة الوطنية في باريس, ومكتبات استنبول ولندن وإسلام آباد, وحيدر آباد, والقاهرة, وبغداد, ودمشق, وباليرمو... وغيرها, عجزت عن إحصائها بدقة, وخلصت إلى القول اليقين إنها روافد تصب جميعًا في سبع قواعد أساسية للخط هي: الثلث (أعظمها), والنسخي (أقومها), والرقعي (أسهلها), والفارسي (أجملها), والديواني (أفخمها), والقيرواني (أثبتها), والكوفي (أقدمها).

ووصيتي الأساسية لمن حملوا الريشة ومشقوا الحروف العربية, أن يحاذروا التغيير والتبديل العفوي دائمًا, لأن ما يحصل منه بالإهمال والإرهاق ربما كان جنحة, ولكن ما يحصل منه بالتعمّد هو في الحقيقة جريمة!

العرب والعلوم وتسمية أمريكا

  • إن العالم العربي مدين لكم باحترام, سوف يتواصل مع الأيام, فيما قدّمتموه للغة العربية من خدمات جلّى ولعلمائها من نصائح مفيدة. فدعونا نسأل عمّا تعتبرونه إنجازات أساسية خالدة حققها العرب والمسلمون في القرون الوسطى, وما تلاها على صعيد العلوم, بحيث يستحقون الجلوس في مقعد له بعض الاحترام على منصة المساهمة الحقيقية في الحضارة?

- لن أستطيع تعداد إنجازات العرب الخارقة, التي دوّنتها وحققتها باهتمام كبير خلال عملي الطويل, وأكتفي بذكر ما اختزنته الحافظة منها, وهو القليل الحاضر في ذهني الآن من الكثير الكثير.

فقد تعرف المسلمون إلى كروية الأرض قبل جاليليو وكوبرنيك بمئات السنين, وأفتى علماؤهم بأنها هي التي تدور حول الشمس وليس العكس, وأن القمر هو الذي يدور حولها. فقد قال ابن خرداذبه (إنّ الأرض كرة بيضاوية مستديرة, أشبه بمحّ البيضة (أي أصفرها) وسط الزلال. ولو طلعت عليها الشمس فهي تطلع على جزء منها وتحتجب عن آخر, وهذا يدل على أن الشمس ليست هي التي تطلع وتغيب, بل إنّ الأرض البيضاوية, هي التي تتحرك وليس الشمس, لأن البيضاوي الكروي لا يستقر على ثابت, فنرى الشمس هنا والظلام هناك...).

وتصديقًا لذلك يقول المتنبّي وهو يمدح سيف الدولة بن حمدان:

تكسَّبُ النورَ منكَ الشمسُ طالعةً كما تكسَّبُ منها نورَهُ القَمَرُ...


وهذا يدله على أن المتنبّي الذي كان مطلعًا على علوم عصره, إنّما كان يعرف تمامًا أن نور القمر هو كنور الأرض منبعث من الشمس, وأن القمر بالتالي يدور حول الأرض ليكبر ويصغر طبقًا لنظم الفلك المدار.

ولم يكن اكتشاف العالم الجديد معجزة كولومبوس وحده, بل كان لعلماء العرب والمسلمين الفضل الأكبر في ذلك الاكتشاف, أولا لأنهم أول من استعمل البوصلة التي حصلوا عليها من الصين وأدخلوها على الاسطرلاب, آلة الملاحة التي لم تكن معروفة قبلهم في ذلك العصر.

ويقول المؤرخون إن معظم البحّارة الذين رافقوا كريستوفر كولومبوس في رحلته الأولى عبر الأطلسي (3 أغسطس 1492) كانوا من العرب المتنصرة, وبعضهم من أمهر الملاّحين في زمانهم, وقد سبق للملاح العربي النجدي شهاب الدين أحمد بن ماجد السعدي الذي عاصر كولومبوس وخليفته فيسبوتشي, وكان عالما بالفلك وتيارات البحار والجغرافية والرياضيات, وهو أول من قاس الحقل المغناطيسي, سبق لهذا الملاّح العربي العظيم أن قطع رأس الرجاء الصالح الذي عجز عن اجتيازه البحّار البرتغالي (Bartolomeo Dias de Novaes) وساعد الملاّح الشهير فاسكو دي جاما على الدوران حوله, ثم هداه عبر المحيط الهندي إلى الشرق الأقصى.

وكما استعان كولومبوس بخبرة الملاحين والبحّارة العرب, كذلك فعل فيسبوتشي, الذي اطلع أيضًا على مؤلفات الرحالة والعلماء المسلمين, وأهمها (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للشريف الإدريسي, الذي وضع أول خريطة للأرض, وأول مجسّم كروي لها, وكتاب (المسالك والممالك) لابن خرداذبه, وكتاب (الفوائد والقواعد) في علم البحار, لابن ماجد السعدي الذي ورد ذكره فيما سبق, وعرف بـ(أسد البحار)... وغيرها.

والواقع أنه لولا العلوم التي احتكرها العلماء والملاّحون العرب ما بين القرنين التاسع والخامس عشر لما تمكن كولومبوس ومن بعده فيسبوتشي من اكتشاف أمريكا.

وأخيرًا أميل بكثير من الثقة إلى الاعتقاد أن العرب الأندلسيين هم الذين سمّوا القارة الواقعة غرب الأطلسي (أمريكا) كما سمى العرب الفينيقيون في جاهلية الأمم القارة الواقعة شمال المتوسط (أوربا).

فقد قام الإيطالي أميركو فيسبوتشي برحلات متعدّدة إلى العالم الجديد. ويقول العلاّمة الجغرافي فالدسيمولر إن (فيسبوتشي) لم يكن يحمل في الأصل اسم (أميركو) بل كان يدعى آلبيركيو. لكنه يوم عبر الأطلسي للمرة الأولى بعد كولومبوس, وعندما استقل السفينة المخصصة لذلك, صدف أن كان معظم بحّارتها من عرب الأندلس وشمالي إفريقيا, فهتف ربّان السفينة بالبحّارة مشيرًا إلى قائد الرحلة بقوله (هذا أميركم). وسأل فيسبوتشي عن معنى هتافه, فقيل له إنّه يعني (هذا قائدكم). واستحسن (ألبيريكو) تسمية القائد هذه بالعربية, فاستبدل اسمه الأصلي باسم (أميركو) الذي حلّت في نهايته الواو محل الميم في كلمة (أميركم) لتأمين مطابقتها الأسماء الإيطالية. وأطلق ذلك الاسم على القارة الجديدة أمريكا!..

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المستشرق بلاشير ورفيق المعلوف





الأستاذ (بلاشير) يتحدث إلى مندوب (الجريدة) الأستاذ رفيق المعلوف, وقد ظهر إلى اليسار الأستاذ (فاتييز) عميد الكلية العلمانية الفرنسية, وإلى اليمين الدكتور جبور عبدالنور مدير الدروس العربية فيها