دأبت الأوساط الثقافية المصرية والعربية في السنوات الأخيرة ومع بداية
القرن الجديد على الاحتفال بمرور قرن على مولد كبار الكتاب والمفكرين وقادة النهضة
في القرن العشرين, الذين ولدوا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين, وصنعوا
ازدهار المرحلة الليبرالية في أول القرن في مصر على نحو خاص مثل, طه حسين وهيكل
والحكيم والعقاد وغيرهم.
ولكن جهة ما لم تتذكر (مي زيادة) معاصرة هؤلاء, والتي كانت ـ
باعترافهم ـ من أكثرهم موهبة وثقافة وتأثيرا عليهم جميعا بحكم معرفتها للغات عدة ـ
قيل ست لغات ـ وقراءاتها الغزيرة ورؤيتها الديمقراطية العقلانية التي تأسست على هذه
الثقافة أولا, وعلى أزمتها الخاصة لكونها امرأة خرجت على المألوف في بيئة شرقية
محافظة ثانيا.
كان صالون (مي) الثقافي قبلة عشرات المثقفين من كتاب ومفكري عصرها,
وفي هذا الصالون دارت مناقشات غنية حول أهم القضايا السياسية والفكرية والأدبية
,وكتب لها الشعراء قصائد الغزل ,وتعلم الكتاب عن طريق مكتبتها وثقافتها الرفيعة,
فقال توفيق الحكيم إنها هي التي نبهته لوجود كاتب مسرحي مجدد في إيطاليا هو (لويجي
بيرانديللو) وترجمت له ـ شفاهة ـ مقاطع من مسرحياته لأنها كانت تجيد الإيطالية,
وكان إسهامها هي نفسها في الحياة الثقافية متعدد الجوانب, فكانت تكتب في الصحف
والمجلات وتحاضر في الجامعة والمنتديات العامة, وتترجم وتنشر الكتب وتكتب الرسائل
لجبران خليل جبران في مهجره في أمريكا بعد أن دخلت معه في قصة حب رومانسية على
البعد, بينما وقع في حبها عدد من رواد صالونها وكانت هي البطلة الثانية في رواية
العقاد الوحيدة (سارة) وقد أطلق عليها اسم (هند) وجعل منها نقيضا لكل صفات (سارة)
المحبة للحياة والتي تطلق العنان لأشواق جسدها بينما كانت هند بتولا أقرب للرهبنة
والحب الرومانسي من دون أمل, كانت ملهمة يتعبد في محرابها الشعراء ويكتب عنها
الروائيون وكانت فرادتها هي محنتها وهي (دراما) حياتها الغنية.
قبض الريح
يقول الناقد وكاتب السيناريو الراحل سيد خميس أثناء إعداده مسلسلا
تليفزيونيا عن حياة (مي) التي لم تحظ, ـ كما سبق القول ـ بأي احتفال من أي نوع ولا
حتى من قبل الحركة النسائية المصرية أو العربيةـ يقول في معرض رثائه لكاتبة ومناضلة
تقدمية مصرية هي (أروى صالح) عانت مثل (مي) في آخر حياتها الاكتئاب العميق وانتحرت
في منتصف شهر يونيه 1997:
(أحاط المثقفون المصريون والعرب بعد ثورة 1919 بمي زيادة ذات الجمال
الخاص والموهبة المتفجرة التي تتفوق على مواهب الكثيرين ممن أحاطوا بها وأثقلوا
حياتها عشقاً وشعراً, وحكايات, ولم يكن نصيبها منهم ومن زمانهم وعواطفهم وأشعارهم
الغزلية إلا قبض الريح ومستشفى العصفورية (مستشفى المجانين) بلبنان مهملة ومنسية من
العاشقين الزائفين الذين لم يروا فيها إلا امرأة مثقفة وجميلة تصلح للغزل لا
للارتباط المعلن والرفقة الدائمة, تصلح للصحبة دون ندية ومساواة, وعندما رفضت (مي)
شروط لعبتهم المريضة تركوها لأهلها الذين لم يكونوا أقل قسوة من أصدقائها المثقفين
الكبار, وواجهت وحدها الاكتئاب والمهانة والنذالة والمستشفي المجاني.
انفض المعجبون, وشُغِل كل واحد منهم بطريقه إلى الحياة والشهرة
والنفوذ, وقاومت (مي) وحدها كل هذا القبح, وانتصرت عليه وعادت إلى الحياة لكن جروح
الروح لم تندمل فآثرت العزلة حتى الموت, ماتت بكرا وهي التي تحدثت عن عشاقها
ومريديها الكتب المصقولة..).
كانت (مي) إذن ضحية غير مباشرة للتمييز إن في حياتها أو بعد موتها,
ففي حياتها بقيت مثل الأيقونة التي يتبرك بها الناس, وظلت المرأة الواقعية المفعمة
بالحياة حبيسة صورة المرأة الملهمة المستعصية, تلك الصورة التي بالرغم من بهائها
الخارجي فإنها تنطوي على نظرة دينية وأسطورية لجسد المرأة تقرنه بالخطيئة والدنس,
فحاصرت هي بنفسها أشواق جسدها مستجيبة بقسوة صارمة على النفس لسجن الصورة, لم تتزوج
ولم تدخل في علاقة حب حقيقية وماتت وحيدة متهمة بالجنون, وكتبت لأستاذها وصديقها
أمين الريحاني صرخات استغاثة.. لأن أقرباءها الذين أودعوها مستشفى العصفورية في
لبنان كانوا طامعين في ثروتها الصغيرة.
كتبت (مي) لأمين الريحاني تقول كالغريق يلوذ بقشة: (يتهمونني بالجنون
يا أستاذ, يتهمونني بالجنون..)
وكان الجميع كما قال سيد خميس قد تخلوا عنها.. وكانت هي نفسها قد أخذت
تتساءل: (لماذا لا نفتأ نؤلم بعضنا...)
وتعرضت للتمييز بعد موتها لا فحسب حين أهملتها المؤسسات الرسمية
والشعبية بالرغم من أن كتبها الجميلة ما زالت تطبع وتباع, وإنما أيضا حين لم يعن
الباحثون بدراسة أدبها وفكرها إلا فيما ندر ,وأصبح كل ما يعرفه الجمهور العام عنها
أنها كانت جميلة وألهمت الشعراء والكتاب في جيلها وأنها ماتت مجنونة, وكان آخر كتاب
صدر عنها يحمل عنوان (جنون امرأة).
وكتب الشاعر والناقد اليمني د. عبد العزيز المقالح عنها في كتابه
(عمالقة عند مطلع القرن) أنها (امرأة عربية الجأتها ظروف المجتمع وملابساته
المختلفة أن تستحم بكراهية الواقع والحذر من أهله..) مع ملاحظة أنه لم يدرس أعمالها
في كتابه هذا كما فعل مع رواد صالونها, بل تعرض لها في معرض كتابته عن مصطفى صادق
الرافعي.
أما (مي) الفيلسوفة والأديبة كما وصفها الرافعي أحد المفكرين والشعراء
الذين وقعوا في حبها وكانت بينهما مساجلات ورسائل وحوارات, فهي كما يقول في (رسائل
الأحزان):
(شاعرة تغمر أفقاً واسعًا بأشعة خيالها, ولو أن نجمة سألت الله أن
يخلقها امرأة فتنزل على الشعراء بوحي السماء وخيال السماء وأسرار السماء لكانتها,
قلت لك إنها شاعرة تملأ سماء من السماوات فتكاد لا ترى فيها من جهات الأرض
شيئاً).
مي الفيلسوفة
ونادراً ما جرى وصف مفكرة أو كاتبة أو أديبة عربية بأنها فيلسوفة, ومع
ذلك قال الرافعي عن (مي) إنها (فيلسوفة), وهو يكتب تحت عنوان (الفتاة الفيلسوفة)
مقارنا (مي) بأرسطو:
(وما عسى أن أقول في فلسفتها واهتدائها إلى موطن السر من الأشياء
ونزولها وراء الحجة إلى الأعماق البعيدة التي تغوص الحجة فيها, واستبانة المشكل
باللمح, وتقليب المعاني في أصابعها كأنها ملقنة ما تحاوله ,وأخذها في سبيل البرهان
حين تجادل مأخذا لا يقام له, وإظهار خيالها البديع في معان لا معة كأنما تتدلى
عليها الشمس. فلو كنا نقول بالرجعة لقلنا إن أرسطو قد رجع بفكره الجبار إلى هذه
الدنيا ليمارس حياة الأنوثة ويتم امرأة كما أتم من قبل رجلا فينتظم كمال الجنسين في
نفسه).
وبالرغم من أن مي زيادة كتبت كثيرا عن تحرير المرأة الشرقية وساندت
دعوة (قاسم أمين) ودافعت عمّا كتبه, وألفت كتبا ثلاثة عن نساء أديبات هن (عائشة
التيمورية) و(وردة اليازجي) و(باحثة البادية), وهي الكتب التي يعتبرها الباحثون حتى
الآن, مراجع أساسية عن هاته الأديبات, وبالرغم من ذلك فإن (مي) حين عالجت قضية
المساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان بلغة عصرنا لم تنطلق من موقع المرأة التي
تعرضت للتمييز والحرمان, بل اتسعت نظرتها لتشمل الإنسانية كلها لا بنسائها ورجالها
فحسب, وإنما بشعوبها وأجناسها وحضاراتها.
وجاء كتابها (المساواة) واحدا من الكتب النادرة والجديدة في عصرها
والتي طرحت القضية من كل جوانبها وسألت كل الأسئلة التي لا تزال حتى في عصرنا هذا
تبحث عن إجابات شافية, ومافتئ المفكرون والفلاسفة والأدباء والساسة يقدحون أذهانهم
ويستلهمون ما تراكم من خبرة البشرية وتجاربها وإخفاقها ونجاحها تطلعا لمثل هذه
الإجابة.
بل إن نظرة (مي) الثاقبة وروحها المتوثبة وثقافتها الواسعة وإخلاصها
الشديد في استكمال مادة كتابها من كل جوانبها جعلتها جميعاً قادرة على استشراف بعض
ما حدث بعد ذلك في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم ,حتى أننا لا
نخطئ إذا قلنا إن (مي) قد تسلحت بما يؤهلها للتنبؤ العلمي.
ويلفت النظر في منهج الكتاب هذا التشبع التاريخي الواضح للعيان بالروح
الديمقراطية العقلانية, والحس التاريخي الذكي الذي يتتبع الوشائج بين الوقائع
والظواهر والأحداث الكبيرة والصغيرة ويردها جميعاً بعد سياحة شاقة إلى الواقع
ومستوى تطوره والقوى المتحكمة فيه والصراع الدائم بينها على مر العصور منذ صارع
العبيد من أجل حريتهم وقاتلوا ظالميهم.
ولأن (مي) في هذا الكتاب هي باحثة من طراز رفيع فإنها تخلع جزئيا ثوب
الشاعرة الأديبة لتبرز لنا الصرامة العلمية التي تجعل الكاتبة تختار شكل المناظرة
بين الأفكار والنظريات المتباينة وتمنح صوتها, بل أكاد أقول حتى عواطفها لفكرتين
متناقضتين حتى تعطي للقارئ حقه هو نفسه في الاختيار والقراءة الحرة, وفي الفصل قبل
الأخير من الكتاب تقدم (مي) هذا الشكل للكتابة في صورة مباشرة وهي حوارية بين
الأطراف المختلفة يدافع فيها كل طرف عن وجهة نظره بحماس وحرية كاملة, حتى أنها تعطي
لنفسها ككاتبة الحق في أن يكون لها ضمن هذا التعدد في الأصوات صوتها الخاص, وتصبح
طرفاً في الحوار, بل وتبرز لديها قدرة لم تستخدمها هي بعد ذلك ـ في كتابة
المسرح.
ولم يكن أسلوب المناظرة غريبا على المرحلة الليبرالية الأولى في مصر
في الثلث الأول من القرن, فهي نفسها المرحلة التي شهدت مناظرة ـ تكاد تكون مستحيلة
الآن ـ بين إسماعيل أدهم وفريدة وجدي حين كتب الأول كتابه الصغير: (لماذا أنا ملحد)
ورد عليه الثاني بكتاب آخر بعنوان (لماذا أنا مؤمن) دون أن تسيل دماء أو تحكم محكمة
بتطليق باحثة من زوجها لانه مرتد ولابد من فرض وصاية المجتمع الأبوي عليها كامرأة
بدعوى حمايتها.
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
وما إن نقرأ تمهيد (مي) لكتابها إلا ونجد أنفسنا أمام قضية الحقوق
الاقتصادية والاجتماعية وهي أكثر قضايا عصرنا إلحاحا وإثارة للجدل عبر القرن الذي
مضى وفي القرن الجديد, حيث نشطت الدعوة العالمية لحقوق الإنسان, وصدرت تباعاً
مجموعة مواثيق واتفاقات عن الأمم المتحدة صادقت عليها حكومات بلدان العالم بصرف
النظر عن نظمها السياسية, وأصبح انتهاك الحكومات للحريات والحقوق المنصوص عليها
موضوعا للإدانة المتواصلة من قبل المنظمات المحلية والإقليمية والدولية المدافعة
عن حقوق الإنسان.
وكان التركيز ولايزال منصبا على الحقوق السياسية والمدنية التي توصلت
الأمم المتحدة لآليات لمراقبة تنفيذها, وبقيت الحريات الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية موضوعا إشكاليا دون آلية مراقبة أو تنفيذ بالرغم من أن المنظمات العاملة
في حقوق الإنسان في العالم الثالث أخذت تضع هذه الحقوق في أول قائمة أولوياتها
وتحاسب حكوماتها لا على أساس مدى التزامها بالحقوق السياسية ,والمدنية فقط وإنما
أيضا بمدى قدرتها على تأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للملايين التي تعجز عن
ممارسة الحقوق السياسية والمدنية في حالة انتهاك الحقوق الأولية في المأكل والمسكن
والصحة والتعليم.
أما مي زيادة, فقد بدأت طرحها لموضوع المساواة من حيث انتهت حركة حقوق
الإنسان بعد ثلاثة أرباع القرن من صدور الكتاب.
تقول في تمهيد هذا الكتاب:
(أما رأيت الثري تنهب الأرض سيارته كأن السعد أقام من الأبهة والرواء
هالة بينه وبين سواه, وهناك في الزاوية يدب المعدم ويختفي متأوها كأنه في تمرغه
حشرة خبيثة تأنف الأرض حسها وتمقت انعكاس ظلها?).
ثم تقول (مي) محددة الأساس الأول للمساواة في نظرها بعد عبور سريع على
محطات رئيسية في تاريخ كفاح البشرية من أجلها منذ ناضل العبيد في عصر الرومان
بزعامة (سبارتاكوس) لإزاحة نير العبودية مرورا بالثورة الفرنسية التي رفعت شعارات
الحرية والإخاء والمساواة وصولا إلى الثورة البلشفية التي طمحت لإلغاء كل أشكال
استغلال الإنسان للإنسان وهو مالا تتحقق الحرية والمساواة دونه, لم تنس (مي) بطبيعة
الحال أن تسجل أن باسمها (المساواة) اعتصمت المرأة فنهضت من تحت قدم السيد الساحقة
ووقفت عالية الجبين إزاء مسالك الحياة وأعمالها وكانت هي التي دافعت عن حق المرأة
في العمل وهي تشير هنا إلى الأعمال ـ أي الاستقلال الاقتصادي باعتباره أيضا أحد أسس
المساواة بين المرأة والرجل.
تقول: (تكاد تكون المشاكل الدولية ألاعيب إذا ما قوبلت بالمشاكل
الاقتصادية التي يسمونها اجتماعية ومشكلة المساواة هي الآن أم المشاكل, واسمها يطن
من كل صوب..).
تطلعت (مي) إذن مبكرا جدا إلى المساواة الحقة التي تصان فيها كرامة
البشر وحريتهم رجالا ونساء وسودا وبيضا وصفرا فلا يستغل أحد أحدا. لذا, يبقى
كتابها هذا راهنا وطازجا.