قلق السفور معركة (خلية النحل) في عام 1926

قلق السفور معركة (خلية النحل) في عام 1926

منذ نحو 80 عامًا أثارت كتابات الأديبة مي زيادة بجريدة السياسة المصرية عواصف شتى, لعل إحداها عاصفة السفور, القضية التي لاتزال مطروحة حتى اليوم.

لم تتردد الأديبة اللبنانية المعروفة (مي زيادة) موافقة رئيس تحرير جريدة (السياسة) الأسبوعية المصرية محمد حسين هيكل في قبول عرضه بتحرير القسم النسائي بالجريدة.

في 6 نوفمبر 1926م صدرت (السياسة), وكانت من أشهر وأنجح الجرائد المصرية وقتها, تتوسطها أربع صفحات كاملة للقسم النسائي والاجتماعي مملوءة بالمقالات والأزياء وأخبار وشجون المرأة.

وعبرت الأديبة (مي) عن حماسها وفرحتها لتلك الصفحات في مقدمة صغيرة اعترفت فيها بقولها: (لرجال مصر خصوصا والشرق عمومًا فضل عميم على حركة المرأة في هذه الديار. لم تلق نساء أوربا في بدء نهضتهن إلا المقاومة من جانب الرجال, أما نحن فعلى نقيض ذلك, نسجل كل يوم للرجال يدًا عندنا جديدة. فهم الذين نبهونا بصيحاتهم واستحثونا بتشجيعهم, وثقفونا بملاحظاتهم واستدراكاتهم وما فتئوا يمدوننا بالمعونة في كرم وإخلاص. فجل ما أتمنى أن تبدي المرأة في أعمالها وأقوالها ما يعرب عن تقديرها لهذه المساعدة النفيسة, ويبقيها أهلاً لهذا العطف الجميل).

وتكمل: (ومن مظاهر هذا العطف إفراد (السياسة الأسبوعية) قسمًا خاصًا للمرأة بين صفحاتها الجليلة وتفضلها بدعوتي إلى تسلم هذا القسم أعالج فيه ما يدخل في بابه من الموضوعات. وإني لألبي الدعوة مغتبطة بالانضمام إلى هذه الجماعة الفتية العاملة بعلم على إنهاض الأمة, مغتبطة بالتعاون مع الناشئة المجاهدة التي مازلت أتلقى من وحيها ومثلها أنفع الدروس).

الدرس الأول

كان أول الدروس الصحافية التي تعلمتها الأديبة مي أثناء إقامتها في القاهرة هو الحماس.

وجسدت هذا الحماس في إنشاء باب جميل وشجاع أسمته (خلية النحل) يسأل القراء فيه بعض الأسئلة في جميع المجالات ويجيب قراء آخرون عنهم ولا تتدخل المحررة ولا الجريدة بما ينشر. وبعد عددين فقط من بدء نشر (خلية النحل) تقاطرت الأسئلة وانهالت الاستفسارات وبالمقابل كتب الكثيرون يجيبون وأحيانًا يفتون وينظرون على غيرهم.

وفي 20 نوفمبر من العام نفسه لم يكن في بال قارئة ذيلت اسمها بـ (سافرة) أن سؤالها الصغير الذي يقول: (ما هي أضرار السفور التي يقلقون بها قلوبنا?) سيحدث كل هذه الضجة وكل هذه الإجابات وكل هذه التنظيرات واللعنات والمديح أيضًا, فوقتها كانت قضية السفور هي أخطر قضايا التقدم الاجتماعي, وكانت من أبرز المعارك الاجتماعية المحتدمة في الكثير من البلدان العربية الحديثة.

وبدأت الحملة برجل اسمه (محمد حسن عبدالعال) حيث رد على سؤال السافرة قائلاً: (لا شيء يا سيدتي يضير السافرات سوى ما يتوهمه البعض وهو ضياع العادات القديمة. ومادمنا في عصر تطور, فكل ما تأتي به ظروفنا الاجتماعية فهو حسن).

وأبدى قارئ آخر تردده عندما أجاب: (السفور حسن وحسن جدًا لأنه من مستلزمات التطور والتقدم في بلادنا المحبوبة, فهو بذلك فضيلة. لكن ما يقلق قلوبنا أن السافرة لا تتخذه كفضيلة واجبة, لها شروط وأحكام, بل لزيادة البهرجة والزينة فينقلب السفور, بذلك إلى رذيلة نخشاها ونتجنبها, وربما نعتبر أنه لم يأت وقته. وإني من أنصار السفور ولكني متردد كثيرًآ لأن حكمي هذا على ما هو غالب لا على ما ندر).

أضرار السفور!

وفي العدد نفسه بيّن رجل آخر هو (حافظ عزت) أضرار السفور قائلاً:

(1 - قلة هيبة الجمال وكل ممنوع مراد.

2 - إذا رجعنا إلى تاريخ العائلات التي أباحت السفور لبناتهن وجدنا فضائح ومخزيات.

3 - يكون السفور مقدمة لعدة مطالب أخرى تكون نكبة على الأخلاق.

4 - خروج عن حدود الحشمة.

5 - كلما تسترت المرأة زادت في قلب الرجل محبة وإجلالاً).

أما (م. ع) فقال: (لست أرى في ذلك ضررًا ما, فالسفور خير من الحجاب, فلتدع الحجاب كل من تريد الحياة الصحيحة).

وشن (عبدالغني مدين) حملة على السافرات لكي يبين خطورة (السفور) حيث قال في إجابته: (لو تركزت الأخلاق في قلوب الشعب ما خفنا السفور ولا تخوفناه, ولكن هبوط المستوى الأخلاقي يدعونا إلى عدم الدعوة إلى السفور ألا تسمعين النكات التي تتبعك حين سيرك من المارين, ألا تنظرين نظرات الجالسين أو الواقفين نحوك كأنك مرآة ينظرون فيها لينظروا إلى صورهم, كما أني لا أكذبك القول بأن هناك كثيرات من الفتيات يطمسن وجوههن بالمساحيق بشكل يجذب لفتات الناس, فإن تأكدت من تركز الأخلاق العالية في الأفراد فأسفري, وأما إن وجدت الحالة مغايرة فاحتشمي وتوقري).

واكتشف قارئ آخر هو (محمود غيدي) أضرارًا أخرى للسفور: (من أكبر أضرار السفور التي لمسها العالم اليوم هي:

1 - كثرة العاطلين من الرجال.

2 - وترك الأبناء وديعة بين أيدي الخادمات الفاسدات.

3 - وفقد الهناء العائلي).

وتوالى الهجوم على السفور في عدد آخر من الصحيفة غير أن أطرفهم كان القارئ (مصطفى عفيفي) الذي قال: (يقول البعض إن الضرر الوحيد من السفور هو أن قبيحات الوجوه لن يجدن أزواجًا إذا كن سافرات, ومن رأي هذا البعض تأجيل السفور حتى يتحسن الجيل الجديد وتقل القبيحات إلى أدنى نسبة ممكنة, ومادمت سافرة فلا يهمك أمر المتحجبات واحتقري كل من يلومك على السفور).

أما المرأة الوحيدة التي شاركت في الحملة فهي (زينب متولي) فقد اعترفت: (ليس للسفور من ضرر سوى أن القوم لم يألفوه. فعلينا أن نستمر في طرقنا ليصبح ذلك أمرًا عاديًا مألوفًا, وعندئذ لا يستطيع أحد أن يقلق قلوبنا).

وحتى (السفور) أنواع. فهناك (سفور سيئ) و(سفور سليم) ويشرح ذلك (محب للسفور السليم) قائلا: (إن أغلب النساء في مصر والبلاد العربية سافرات قبل أن تكتب أول كلمة في السفور ولم تجر أقلام الكتاب إلى موضوعه اليوم إلى حد الفوضى ومعارضة الذوق وإخراج السفور نفسه واتخاذه كأداة للإباحة تستغلها المرأة للاستعراض والمتاع للغرور, أما إذا روعيت فيه البساطة والغرض الاجتماعي الصرف كان من دواعي الإعجاب والرضا ومبعثًا للمصلحة لا مثارًا للسخط والقلق وأصلاً للضرر). وانتهت حملة (السفور) في باب (خلية النحل) بجريدة (السياسة) الأسبوعية في نهاية عام 1926م, غير أن سؤال القارئة استمر يقلق القلب, والأهم أن (قلق السفور) نفسه بقي محتدمًا ويحدث المزيد من القلق في مصر وباقي البلدان العربية عشرات السنين بل وحتى يومنا هذا.

 

خالد البسام