أين في المحفل (مي) يا صحاب?

 أين في المحفل (مي) يا صحاب?

بعد وفاة الأديبة مي زيادة تأثر الأديب الكبير عباس محمود العقاد بشدة لموت تلك الصديقة العزيزة التي كانت أوساط القاهرة الأدبية في زمنها تعرف بأن هناك (مودة خاصة) ربطت بين قلبيهما في يوم من الأيام.

روى عباس محمود العقاد بنفسه في قصته (سارة) جوانب من هذه العلاقة عندما ميّز بين امرأتين لبنانيتين عرفهما في شبابه, الأولى هي أليس ابنة الصحافي اللبناني أسعد مفلح داغر التي ربطته بها علاقة عاطفية حارة, والثانية هي الآنسة مي التي كانت فتاة رقيقة مهذبة ذات نزوع روحي وسليقة تبتل.

في هذه المرحلة الأولى عرف العقاد الحزن الشديد لوفاة مي. وقد بدا هذا الحزن واضحًا في وقفته في أحد محافل القاهرة يرثيها بعد رحيلها, وكذلك في قصيدته في رثائها. كانت الدموع تنهمر من عيني العقاد, المعروف بصلابة الشخصية, وهو يقرأ قصيدته في رثاء مي, ومنها هذه الأبيات:

أين في المحفل ميّ يا صحابْ عوّدتنا هاهنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب مستجيب حين يُدعى مستجاب
أين في المحفل مي يا صحاب شيمٌ غرٌّ رضّيات عذاب
وحجى ينفذ بالرأي الصواب وذكاء ألمعي كالشهاب
وجمال قدسي لا يُعاب كل هذا في التراب? آه من هذا التراب


وهذا طبيعي فيما أتصور, ففقدان الابن, أو الصديق الحميم, يمسّ قلب إلفه أو صديقه, فيبقى لأيام, أو لأشهر وربما لسنوات, يتذكر ويشجى ويذكر محاسن من فقد, وأيامه معه. وهناك في باب الألفة والإلاّف, من يمضي بقية عمره وهو أسير حزنه هذا فلا يستطيع أن يقيم علاقة جديدة متينة صلبة لأنه استهلك نفسه في علاقته الأولى. ولكن هناك بالطبع من يحزن لأيام, أو لفترة من الفترات ثم يستيقظ نهائيا من حزنه ويتذكر علاقته السابقة, على ضوء التأمل الفعلي الصرف الخالي من أية مشاعر ذاتية يمكن أن تسطو على أحكامه العقلية أو تسيء إليها.

من الحزن للتقييم البارد

ويبدو أن عباس محمود العقاد كان من هذه الفئة الثانية. ففي المرحلة اللاحقة لمرحلة الحزن, والتأبين, والبكاء فوق أحد مقابر القاهرة يرثي تلك العصفورة اللبنانية التي أحبها ذات يوم, كتب مقالاً لافتًا في مجلة (الهلال) بعنوان (رجال حول مي), قدم فيه تقييمًا باردًا لشخصية مي واهتماماتها الأنثوية ذات الطابع الصرف, إن لم نقل إنه قدم تقييما باردا (لعقل) مي الذي وإن بدا عليه أحيانا اهتمام بمسألة أدبية أو ثقافية, إلا أنه يبقى في الأساس عقل انثى مهتمة بمن يتقدم إليها لخطبتها, وما إذا كان جديرا بأن تخطبه أو تلتفت إليه, ومهتمة أيضا بمن خطب من في مجتمع القاهرة البورجوازي أو شبه البورجوازي..

لنلاحظ أولاً عنوان العقاد: (رجال حول مي) ففيه إشارة إلى أنثى يتحلق حولها رجال, وفي المقال إشارات كثيرة إلى أن كل رجل من هؤلاء الرجال كان مهتما بمي إن لم يكن اهتماما عاطفيا بحتا, فاهتمام أبوي أو كالأبوي, ولكنه يشبع عند هؤلاء الأخيرين رغبة ما تتلخص في قربه من أنثى كانت تشيع الدفء فيمن حولها, حتى يظن كلٌّ منهم أن يستأثر وحده بها في يوم من الأيام.

ويبدو أن رواد ندوة مي كانوا كلهم, وبصورة من الصور من عشاق مي, بمن فيهم الذين انتهوا في رحلة لاحقة الى إبداء العاطفة الأبوية أو شبه الأبوية تجاهها كخليل مطران وانطون الجميل ولطفي السيد. بعض هؤلاء طلبها في مرحلة ما للزواج, فلم توافق, وبعض هؤلاء أرسل لها, ذات مرحلة أيضا, رسائل عاطفية نادرة, فأطفأتها ميّ بمواقف باردة فهم منها أصحاب هذه الرسائل أن الأمر غير وارد بالنسبة إليها.. إلى أن قنع الجميع فيما بعد بما كانت تمنحه مي لكل منهم في الرعاية البريئة الخالية من أي إثم أو وعد.

ويبدو أن علاقة العقاد بمي قد استقرت في مقام الصحو والبراءة والإخوانيات تحول من إلف للروح بعد أن شهدت في البداية رياحًا عاتية. انقلب إلى صديق عزيز, وإلى رائد من رواد ندوتها الأسبوعية مثله مثل الآخرين الذين كان منهم: أحمد شوقي ومصطفى صادق الرافعي وعبدالعزيز فهمي ومصطفى عبدالرازق ومنصور فهمي وطه حسين وفؤاد صروف ولطفي السيد وآخرون. ولأنه بات كذلك, فقد كان عينًا تسجّل بعض ما يجري من طرائف في هذه الندوة, وتتابع على الخصوص تصرفات مضيفة هذه الندوة التي يصفها في مقاله المذكور بـ (نابغة جيلها)..

يقول العقاد في هذا المقال إن الآنسة مي كانت حريصة على تقاليد العرف في الصالونات العائلية إلى حد التكلف. فهي تعقد ندوتها الأسبوعية للأدب والأدباء, ولكنها لا تنسى برنامج الصالون المصطلح عليه في البيوت, ولا تحب أن يظن الزوار العائليون أن أدبها ينسيها تقاليد (ربة الصالون) في مجتمع الأسرة, وأن مادة الثرثرة الاجتماعية (نمرة) منتظرة في كل صالون يحضره أناس من أصدقائها الأدباء الذين تعرفهم معرفة عائلية وتقابل زوجاتهم وإخوانهم في بيوتهم وفي ندوتها. (وقد كان يلوح لي غير مرة أنها كانت تنتظر من أولئك الزوار العائليين خبرا أو أخبارا عما يجري فيه الحديث بينهم في شئون الزواج والطلاق والخلاف والوفاق, وتعقب عليه بملاحظة عابرة أو نكتة فكهة, إلا أن يكون فيه شيء من المساس الصريح بالأخلاق المرعية, فهي في هذه الحالة تتابعه بالصمت أو تصرفه بكلمة عابرة).

قال أحد الحاضرين يومًا: أسمعتم أن الأستاذ حافظ رمضان قد تقدم لطلب الزواج من السيدة هدى شعراوي?

فقالت مي: إنه خطيب كفؤ للزوجة المخطوبة.. والتفتت إلي كالمتسائلة عن رأيي في رأيها هذا, لأن الخطيبين لهما شأن في الحياة العامة. فقلت بغير اكتراث كأني أساق سوقا إلى الحديث:

- إن الأمر يعنيهما, وبارك الله للعريس في العروس, وللعروس في العريس..

ويضيف العقاد: (إن ميًا كانت مولعة بالإلحاح على هذه الأحاديث خاصة وهي تنظر إلى تحرجي من الخوض فيها نظر الحضري إلى الريفي الخام القادم من القرية صباح يومه.

فقد سألتني مرة: هل صحيح أن الأستاذ عبدالقادر حمزة تزوج من السيدة منيرة ثابت صاحبة الأمل?

قلت: لا أعلم... ولم ينشر الخبر في (البلاغ) على الأقل!

قالت متهافتة: أولا تعلم من أخبار زملائك في (البلاغ) إلا ما ينشر في الصحيفة?

قلت: أو ما يعنيني أن يُنشر!

فعادت تقول في شيء من التخابث المصطنع: لا لا يا أستاذ. لعل الخبر لا يرضيك لأمر يعنيك..

وعاد العقاد ليروي أن الآنسة مي كانت تتحدث قليلا جدا عمن يخطبونها وكأنها تعتذر لرفض الخطبة بعد الخطبة لغير سبب وجيه في رأي الأصدقاء الذين قد يلومونها على إعراضها الدائم عن الزواج.

قالت مرة لمن سألها عن خطبة شاب من أسرة غنية ذات لقب غير مقبول:

- أتريد أن تناديني غدا باسم (مدام بعجور)? ونحن نذكر اسم بعجور هنا (والكلام للعقاد) بدلا من اسم الأسرة الصحيح رعاية لشعور أبنائها الأحياء.

ويقول العقاد في هذا المقال إن طبيبا لبنانيا خطبها فعاتبها صديق له لأنها ردته بشيء من الجفاء. فقالت: إنه لطيف, ولكن اللطف الذي قد يسميه من شاء تأنثًا لا يعجبني..

وخطبها صحفي ثرثار كانت تصفه بيبوسة المخ, فلم تزد في جواب السائلين على السماح للخطيب المرفوض يوما من أيام الندوة بالانطلاق في الحديث على عادته من اللجاجة والعنت, فكاد الحاضرون أن ينصرفوا جميعا. وكان هذا هو جوابها الغني عن البيان.

وتحدث بعضهم (والكلام لا يزال للعقاد) عن فتيات لاهيات متطرفات في الحرية الاجتماعية, وأبدى إشفاقه عليهن من فوات حظهن في الزواج بمن يناسبهن, فقالت ساخرة:

- ولكن هؤلاء وأمثالهن, يا أستاذ, هن اللواتي يسرع إليهن الأزواج من الأكفاء, وفوق الأكفاء..

هذا بعض مما كتبه العقاد في مقاله (رجال حول مي), وهذا بعض مما نقله عن لسانها من أحاديث تدور حول الزواج, وكأنه يريد أن يقول لقارئه ضمنًا إن عقل نابغة الشرق - كما يسميها - ليس بأفضل من عقل غير النوابغ.. وإذا كانت مي تعير قضايا العريس والعروس مثل هذا الاهتمام, وأثناء انعقاد ندوتها الأسبوعية التي يُفترض أن تكون ندوة فكر وأدب, فإن عقلها ينصرف أكثر ولا شك إلى مثل هذه القضايا خلال بقية أيام الأسبوع.. إن الآنسة مي تسأل العقاد والآخرين, عن أخبار زيجات القاهرة بين وقت وآخر من أوقات الندوة, فما الذي ستهتم به إذا انفضت الندوة وجلست مي مع صديقاتها? هل يمكننا أن نفترض أن لها مشاغل أخرى غير مثل هذا الحديث وما إليه?

نظرة سلبية للمرأة

ثم إن الآنسة مي تسأل العقاد وليس أي شخص آخر.. والعقاد معروف بعدم توقيره لعقل المرأة ولاهتماماتها بصورة عامة. فكل ما كتبه عن المرأة من البداية إلى النهاية واضح السلبية منها ومن عقلها, ولا شك أن العقاد كان يلمح عبر هذه الأحاديث الاجتماعية التي نقلها عن لسان مي, إلى جوهر مأساتها الشخصية كأنثى طمحت إلى الزواج, وعلى الأصح إلى زواج معقول بنظرها وبنظر المجتمع, فلم يواتها الحظ. لقد طمح أكثر هؤلاء (الرجال) الذين تحلقوا حولها إلى الظفر بقلبها, كما إلى الزواج منها ومنهم شبلي شميل أحد صاحبي (المقتطف), وانطون الجميل رئيس تحرير (الأهرام), ومصطفى صادق الرافعي, وخليل مطران أيضا.. وقد وقفت مي من طموح هؤلاء موقفا سلبيا لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن, ولكنها ظلت تنتظر عريسًا لا يأتي. ولا شك أنه شُبِّه لها في فترات حياتها أن هذا العريس يمكن أن يكون جبران خليل جبران, الأديب اللبناني الذي ظلت تراسله سنوات طويلة, ولكن جبران كان بعيدا في نيويورك, ولم يكن يبدو من خلال رسائله أنه عريس بمقدار ما هو حبيب أو صديق حميم. ولكنها كانت تلوذ به كحلم في دياجير صحرائها القاهرية, دون أن تعير هذا الحلم اهتماما زائدًا عن الحدّ. ولكن عندما توفي جبران في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي, قالت لأصدقائها الأدباء إنه كانت بينهما مراسلات قديمة, كما كان هناك (مشروع) لم يبصر النور.. ومنذ وفاة جبران, ومن قبله وفاة والدها ووالدتها, بدأت محنتها التي انتهت بجنونها وبموتها فيما بعد.

على أن علينا ألا نُهمل أن من أسباب محنة مي, كما يتبدّى من أخبار وروايات عباس العقاد في مقاله المذكور, هو شروطها (اللبنانية) الضمنية للزواج, فمي تريد أن تتزوج, ولكنها تريد أن يحقق زواجها شروطا (لبنانية) منها مكانة الزوج, ووضعه الاقتصادي, والاجتماعي, ومنها كما تبين لنا أن يكون اسمه في جواز السفر اسمًا معقولا وإلا رفضته.. ولا شك أن الآنسة مي كان باستطاعتها أن تفرض مثل هذه الشروط وهي في العشرينيات أو في بداية الثلاثينيات من عمرها... ولكن المرأة عندما تتعدى هذا العمر, تفقد المركز الممتاز للتفاوض وفرض الشروط.. وكانت مي, في المرحلة التي كانت تدلي للعقاد ولبقية زوار ندوتها بهذا النوع من الأحاديث, قد فقدت ألقها وربما الأنوثة التي يفترض بالعريس الناجح أن يبحث عنها..

عندما يحل الخريف

ولكن لا شك أن العقاد الذي يسخر ضمنًا من عقلها وهو يتابع آراءها فيما يتعلق بـ (صفحة المجتمع), كان يأسى ضمنًا أيضا لمصير هذه الكاتبة التي أشعلت النار ذات يوم, أو ذات مرحلة, في قلوب نخبة أدباء مصر والشام الذين تحلقوا حولها معجبين ومسحورين بجمالها وفطنتها وثقافتها ومجلسها. لقد كان كل هؤلاء الذين ذكرهم العقاد في مقاله, وأسماؤهم معروفة للجميع, ممن ألهمتهم مي أو أوهمتهم, على حد تعبير محمد عوض محمد, أحد أدباء تلك المرحلة. ولكن كان من المتوقع أن يعقب الصبا ذبول, وأن يأخذ الخريف في طريقه كل أوراق الربيع والصيف.

على أن أقسى ما يستنتجه المرء وهو يقرأ مقال العقاد هو أن بعض رواد صالون مي, ممن كانوا يتضورون شوقا - إن جاز التعبير - إلى قبولها الزواج منهم في مرحلة سابقة عندما كانت في أوج نضارتها الأنثوية, يتحولون إلى تلك العاطفة الأبوية تجاهها, فينصحونها برعاية صحتها وراحتها, والالتفات إلى مصلحتها, وإلا كانت وحدها الباكية لما يمكن أن يصيبها من هذا الإهمال وهذا العناء. وفي ذلك عبرة للمرأة التي تتصور أن سحرها أو تأثيرها في الرجال سيظل هو هو إلى آخر الدهر, في حين أن هذا السحر لا يختلف عن سحر الوردة وهي في تمام تفتحها وتألقها. فإذا انقضى ذلك مر الناس بشجرة الورد دون أن يعيروها أدنى التفاتة وكأن موسمها الحقيقي, أو الوحيد, هو موسم التفتح والتألق. وهذا ما فات مي إدراكه واستخلاص عبره.

 

جهاد فاضل