شيخ الشعراء الذي تيّمتْه ميّ زيادة

شيخ الشعراء الذي تيّمتْه ميّ زيادة

في عالم الطرب والغناء يمكننا أن نلتمس شعر شيخ الشعراء إسماعيل صبري الذي أبدعه بالفصحى وبالعامية, وتغنى به عظماء الطرب في زمانه, لا في ديوانه الصغير المتواضع. هذا الدوران وذيوع الصيت في عالم الطرب والغناء يفسّر الكثير من رقة هذا الشعر, وصفاء لغته, وسلاسة تركيبه, وجيشان إيقاعه. فوجد فيه الملحنون والمؤدون ما يبحثون عنه, في وقت غلبت فيه الصنعة على الموهبة, والتكلّف على الطبع والتلقائية.

أما إسماعيل صبري نفسه, الذي عاش بين عامي 1855 و1923, ووصل به العمل الوظيفي إلى مرتبة وكيل نظارة الحقانية (العدل) ومحافظ الإسكندرية قبل أن يعتزل وهو في الثالثة والخمسين - فلم يكن مشغولاً بشعره, نشرًا أو جمعًا وتصنيفًا, وكان كما يصفه جامع ديوانه, صهره حسن رفعت بك (أشبه بالبلبل, يرسل أغاريده الساحرة إذا ما جاشت في صدره عاطفة, أو تأثرت نفسه بحادثة, أو خطرت له ذكرى, ثم يتركها تمضي مع الأيام غير مبالٍ بمصيرها).

ومن هنا, أيضًا, كان قول د.طه حسين عنه في تقديمه لديوانه - الذي نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1357هـ - 1938م (ولم يطبع ثانية منذ ذلك الحين): (لم يكن صبري شاعرًا مكثرًا, وإنما كان مُقلاً شديد الإقلال, ولم يكن صبري يتخذ الشعر صناعة, وإنما كان يتخذه لونًا من ألوان الترف, وفنًا من فنون الامتياز الأدبي والعقلي الرفيع. فكان ديوانه من أجل ذلك صغيرًا ضئيل الحجم, وكان درسه مُيسّرًا سهلاً لا يحتاج إلى كثير من جهد, ولا يضيع فيه كثير من وقت. على حين أَكْثَرَ أصحابه (يقصد البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم الذين عاصرهم وصادقهم) وخاضوا في فنون مختلفة من الشعر, وامتدت بهم الحياة, وكثرت عليهم الدواعي التي بعثتهم إلى نظم القريض, فضخمت دواوينهم وتنوع شعرهم, واحتاج درسهم ونقدهم إلى الجهد الثقيل والوقت الطويل).

ثم يقول طه حسين: (وهناك شيء يميز الشاعر من معاصريه جميعًا, وهذا الشيء هو خفة الروح, ورقة الحسّ, ودقة الخيال, وامتياز الطبع, وحدّة المزاج, وارتفاع الذوق).

الشاعر الرقيق الأنيق

ويحاول طه حسين أن يفسّر عزوف إسماعيل صبري عن الشهرة والأضواء, ودوران الذكر في حياة المجتمع ووقائعه, والتزامه العزلة والانطواء - إلا فيما ندر من مجالس ومنتديات, خاصة صالون الأديبة ميّ زيادة (1886 - 1941) - فيقول: (أكبر الظن أن حياة هذا الشاعر الرقيق الأنيق المترف, لم تخْل من صراع صامت, فيه شيء من العنف الأليم بين نفسٍ قوية ذكية وثابة, وأسباب للرقيّ والسؤدد لا تكتفي بالقوة والذكاء والتوثب, وإنما تريد إليها خصالاً أخرى, لم يتح للشاعر أن يتصف بها, وأكبر الظن أنه نظر إلى الحياة في شيء من هذه اللذة الأليمة التي يجدها أذكياء القلوب وأباة النفوس حين يأخذون أنفسهم بما لا يحبون, ويكفونها عما هي خليقة أن تبلغ من التفوق والامتياز, لم يرسل نفسه على سجيتها حقًا إلا حين تغنى بعواطفه وميوله وأهوائه, حزينًا مرة ومسرورًا مرة أخرى. وكان الحزن أشيع في نفسه من السرور. وكانت الكآبة أظهر في شعره من الابتهاج, وكان شعره المُصوِّر لنفسه حقًا, من أجل هذا, غناء خالصًا بأدق معاني هذه الكلمة وأرقاها, لا يصور نفسه وحدها, ولكنه يصوّر معها نفوس الناس جميعًا حين يمرون بمثل الأطوار التي يصفها في شعره).

ولا يصعب على طه حسين, أن يكشف عن الروح المصري الشعبي في قول إسماعيل صبري - يترقرق فيه كما يترقرق الماء في الغضّ النّضر, لولا أنه يصف النار التي يثيرها الهجر فيحرق بها القلوب.

أقصرْ فؤادي, فما الذكرى بنافعةٍ ولا بشافعةٍ في ردّ ما كانا
سلا الفؤاد الذي شاطرْته زمنًا حمْلَ الصبابة فاخفقْ وحدك الآنا
ما كان ضرّك إذ عُلّقت شمس ضُحى لو ادّكرت ضحايا العشق أحيانا
هلاّ أخذْتَ لهذا اليوم أُهْبَتهُ من قبل أن تصبح الأشواق أشجانا
لهْفي عليك قضيْتَ العمر مقتحمًا في الوصل نارًا وفي الهجران نيرانا


فقد استوقفته الموسيقى التي يلائم بها الشاعر بين نافعة وشافعة في البيت الأول, يأخذ هاتين الكلمتين من حديث الشعب في حياته اليومية العادية, فيرتفع بهما إلى أشدّ الشعر روعة, وأعظمه حظًا من سذاجة: وهل تجد شيئًا من الغرابة في أن يُغني في هذا الشعر بعض المغنين?

زلزال من الجمال!

نحن إذن مع شاعر عمل بالقضاء جلّ حياته, فكان طبيعيًا أن يحبسه التوقّر في دائرة من الجديّة والبعد عن كل ما يقلل من وقاره ومكانته, ونحن مع شاعر رأى وعايش فساد الأوضاع واختلال الأمور في زمانه - ويبدو أن هذا الخلل ليس مقصورًا على زمنه وحده, بل هو في كلّ الأزمنة - فآثر العزلة وعدم الخوض فيما يدور ويجري, - ما دامت أسباب الترقي والسؤدد لا تكتفي بالقوة والذكاء والتوثب كما قال طه حسين - بل لا بد من خصال أخرى لا يجيدها الشاعر, وهو ليس شاعرًا (محترفًا) بالمعنى الذي نطلقه اليوم على من يطالبون أنفسهم في كل آن بأن يكون لهم موقف وقول في هذا الموقف, وإنما هو يستجيب لدواعي نفسه وليس لدواعٍ من خارجه, مثل هذا الشاعر: المتوقر, المستوحد, المعتزل, كيف تكون حاله حين يقتحمها زلزال من الجمال البديع الرفيع, متمثلا في زهرة ناضرة متوهجة بسحْر العقل والطلعة معًا, هي مي زيادة التي جعلت من بيتها صالونًا أدبيًا يسعى إليه كل ثلاثاء أشهر الأدباء والشعراء المصريين والعرب جيلاً بعد جيل. وكان إسماعيل صبري نجم الجيل الذي يضم شوقي وحافظ ولطفي السيد وغيرهم, ثم كان الجيل التالي محتشدًا بنجومه: طه حسين والعقاد والرافعي والمازني وغيرهم. أما (ميّ) التي عشقت ذاتها وأخلصت لهذا العشق, فقد نجحت في إقناعهم جميعًا بأن لكل منهم مكانًا دافئًا في قلبها, ومنزلة أثيرة لديها, فاكتسبت حبّ الجميع, وكانت مناط إلهام لإبداعات شعرية وغير شعرية.

في ديوان إسماعيل صبري, تطالعنا صورة (ميّ) واضحة مجلوّة حينًا, وخافية مستترة أحيانًا. يريد - مثلاً - أن يعتذر لها - بسببب اضطراره للسفر - عن عدم تمكنه من المشاركة في صالون الثلاثاء, فيرسل إليها يوم الاثنين بهذين البيتين:

روحي على دور بعض (الحيّ) حائمة كظامئ الطير توّاقا إلى الماء
إن لم أُمتّع بميِّ ناظريّ غدًا أَنكرْتُ صُبْحك يا يوم الثلاثاءِ


ويروي ديوانه أنه كتب تحت بيتين قالتهما أديبة معروفة:

فديْتُك يا هاجري فهل ترتضي بالفدا?
سهرتُ عليك الدجى ونُحْتُ ولكن سدى
أهاجرتي أطفئي لواعج لا تنتهي
مضت في هواكِ السّنون وما نلت ما أشتهي
إذا قيل مات الأدَيبْ بفاتنةٍ, أنتِ هي


فلما قرأت أبياته كتبت تحتها:

زمانُك قبلي انتهى ولا يرجعُ المُنتهي
فحسبيَ أن أزدهي وحسْبُكَ أن تشتهي


وفي تعليقها عليه, تستحق ميّ أن توصف بقول ناجي (ظالم الحسن شهيّ الكبرياء) فحسبها هي أن تزداد ازدهاء وفُتونًا وكِبْرا, وحسب العاشق المتيم أن يشتهي ويتطلع دون أن يتاح له الاقتراب!

نجد ضعف إسماعيل صبري وقلة حيلته, شأن كل العشاق المتوقّرين الذين لم يُدرّبوا على التعامل مع دلال الغواني (أي المستغنيات عن التجمل لأنهن فاتنات بالطبيعة) واضحًا في أبياته التي يقول فيها عن موعدِ لقاءٍ ضُرِبَ له في الغد, فكانت ليلته كما نرى:

خبّروني اليوم أني في غدِ مالئٌ عينيَ منها ويدي
كيف يبقى من قضى الليل على جُرفٍ هارٍ إلى ذا الموعدِ
ربِّ كنْ عوْني وأَخّرْني إلى أن أرى شمس الضحى من عُوّدي
يا أساة الحيّ لو أجّلتمو رأيكم فيَّ إلى يوم غدِ!
رُبَّ داء لا يُرجّى بُرؤه قد شفتْهُ زورة من مُسعدِ


أما قصيدة القصائد في شعر إسماعيل صبري الوجداني كله, فهي المسماة (لواء الحسن) وفيها يرسم الشاعر العاشق المستهام, لوحة شعرية بديعة تكاد تماثل قصيدة اليتيمة للشاعر القديم دوقلة المنبجيّ (نسبة إلى منْبج بلدة أبي تمام والبحتري), وهي القصيدة التي حار القدماء في نسبتها إلى صاحبها, حتى عثر عليها كاملة منسوبة إلى دوقلة في نسخة قديمة من المقامات موجودة في الهند. وتزيد يتيمة إسماعيل صبري عن يتيمة دوقلة, ذوبان الشعر وجدانًا وعاطفة وشرح حال وشَكوى في كيان القصيدة وثناياها, فهي مختلطة بشجونه ودمه والحديث بصيغة الجمع لأنه حديث واحد في كوكبة من العشاق الملتفين حول صورة الحسن وكوكبه المتفرد, فهو ينطق باسمه وباسمهم في الوقت نفسه, حين يقول:

يا لواء الحسن أحزابُ الهوى أيقظوا الفتْنة في ظلّ اللواء
فرقتهم في الهوى ثاراتهم فاجمعي الأمر وصُوني الأبرياء
إنّ هذا الحسن كالماء الذي فيه للأنفس ريّ وشفاء
لا تذودي بعضنا عن وِرده دون بعضٍ واعدلي بين الظّماء
أنت يمُّ الحسن فيه ازدحمت سفنُ الآمال يُزْجيها الرجاءْ
يقذفُ الشوق بها في مائجٍ بين لُجّيْنِ: عناءٍ وشقاءْ
شدة تمضي وتأتي شدة تقتفيها شدة, هل من رجاء
سأعفي آمال أنْضاءِ الهوى بقبولٍ من سجاياكِ رُخاء
وتجلَّي, واجعلي قوم الهوى تحت عرش الشمس في الحكم سواء
أقبلي نستقبل الدنيا وما ضمنته من مُعدَّات الهناء(1)
واسْفِري, تلك حُلًى ما خُلقتْ لتُوارى بلثامٍ أو خباءْ
واخْطِري بين الندامى, يحلفوا أنْ روْضًا راح في النادي وجاء
وانطقي, ينثُرْ إذا حدّثْتِنا ناثرُ الدرِّ علينا ما نشاء
وابسمي من كان هذا ثغرهُ يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء
لا تخافي شططا من أنفسٍ تعثرُ الصبوةُ فيها بالحياء
راضت النخوةُ من أخلاقنا وارتضى آدابَنا صدْقُ الولاء
فلو امتدت أمانينا إلى مَلَكٍ, ما كدَّرت ذاك الصفاء
أنتِ روحانية, لا تدْعي أن هذا الحسن من طينٍ وماءْ
وانْزِعي عن جسْمكِ الثوب, يبن للملا, تكوين سُكّان السماء
وأرِي الدنيا جناحيْ مَلَك خلف تمثال مصوغٍ من ضياء


التوقر الشديد في شخصية الشاعر العاشق المتيم إسماعيل صبري وحرصه على نفيْ القال والقيل, وإبعاد الشبهة هو الذي أهدانا هذا المعجم الشعري اللافت للانتباه, حين تتردد كلمة (مَلَك) أكثر من مرة, والملائكية من شأنها أن تطرد من نفس المتلقي - قارئًا كان أو سامعًا - فكرة الاقتراب من حِسيّة البشر ونوازعهم وشهواتهم, وكلمة (روحانية) وتعبير (سكان السماء) في إطار هذا المعجم المُنْتقى بعناية, لنفيْ كل شبهة, واستبعاد أي هاجس, ثم هناك هذه الطمأنة الجميلة التي يعرضها المحبّ على المحبوب, ليس في الأمر ما يدعو إلى الخوف, أو خروج المحب على دواعي التصوّن والتوقر أو محاولته خلع العذارة (لا تخافي شططا), الشطط غير وارد, والتصرف الجامح الأهوج محكوم ومنضبط, فلا مجال لحدوثه, والنفوس العاشقة - وشاعرنا واحد من أصحابها - حياؤها يغلب صبوتها وتطلعها أو اشتهاءها. ولنتأمل جمال هذا التعبير الشعري الفاتن: تعثُر الصبوة - في هذه النفوس - بالحياء, وكأنما الحياء صخرة مانعة, أو عقبة كأداء تسدّ على الصبوة - والميل الشديد - الطريق!

ثم هناك النخوة, التي روضت الأخلاق الكريمة لدى العشاق المعاميد - كما وصفهم شوقي في مسرحيته الشعرية: مجنون ليلى - وهناك صدق الولاء الباعث على الإجلال والاحترام والهيبة من المحبوب, والذي يمكن أن يمتد إلى هذا المحبوب - لملامسته - هو الأماني, مجرد الأماني وخيالات الخاطر, لا الأيدي, حتى يظل صفاء الصورة ونقاؤها, على حاله, لم يُكدَره مكدر, ولم يعبث به مُتجرئ. كأننا نطالع صفحة من صفحات المحب العذري قيس بن الملوح مجنون ليلى وهو يكشف عن سبب عدم تجرؤه عليها وتوقيره لها:

أهابك إجلالاً, وما بك قدرة عليّ, ولكن ملء عين حبيبها


هذه الهيبة المصاحبة لشخص المحبوبة, لا تقع إلا في نفس سامية العشق, عذرية الهوى, متطهرة من كل شوائب البشر.لهذا, ظلت صورة لواء الحسن, وتمثال الجمال الآسر, وفاتنة النديّ أو المنتدى, التي يهرع إلى الالتفاف من حولها كل ثلاثاء نخبة النخبة من أدباء مصر وشعرائها ومفكريها, ظلّت صورتها زينة لهذا الصالون الأدبي, ولطفا يملؤه, وريّا تعطره, مُنبثة في شعر إسماعيل صبري, وفي ترانيمه الفياضة بالشجن:

يا راحة القلب, يا شغل الفؤاد, صِلِي مُتيّما, أنتِ في الحاليْن دنياهُ
زيني (النديّ), وسيلي في جوانبه لطْفًا يعمّ رعايا اللطفِ ريّاهُ
ريحانة أنتِ في صحراء مجدبةً من الرياحين حيّانا بها اللهُ
إن غاب ساقي الطلا أو صدّ, لا حرجٌ هذا جمالُكِ يُغنينا مُحيّاهُ


في كلمته التي ألقاها في تأبينه في الرابع من مايو عام 1923, يقول أنطون الجميّل بك - الكاتب الكبير ورئيس تحرير الأهرام في زمانه عن إسماعيل صبري: (الحبّ والموت والوطن, هذه هي العوالم الثلاثة التي كانت تحرُك فيه الشعور الفياض, وتنطقه بالحكمة الرائعة, وتثير في صدره الحماسة الشريفة. الماسة الصافية الماء, الطاهرة اللألاء, السليمة من كلّ كدرٍ وعيب, يُنسينا جمالها عناء من قطعها وصقلها, وكذلك شعر صبري: نقف عند جماله ناسين الشاعر, وما لقي من عناء في تصفية شعره وتخليص نظمه من كل شائبة).

***

لقد ظلمته كثيرًا تسميته بـ (شيخ الشعراء), وهي تسمية لا تشي بجماليات تسمية (أمير الشعراء) شوقي, ولا بجلال تسمية (شاعر النيل) حافظ إبراهيم, فحاول بالتصوّن والتعفف والتوقّر أن يعيش في جلبابها, فكان له ما أراد.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات