ما العمل? حديث إلى الأجيال العربية الطالعة (*)

ما العمل? حديث إلى الأجيال العربية الطالعة (*)

قضيت معظم حياتي متحدثاً إلى فئات من الشبيبة الجامعية العربية في لبنان وسورية وفي بلدان أخرى حيث لقيتهم بعد تخرجهم وانخراطهم في أعمالهم الخاصة وفي الحياة العامة. وكانت أحاديثي صادرة عن عقيدتي أن التربية الجامعية لا تقوم بتلقين المعلومات عن المادة الدراسية, بل بلقاء العقول وتفاعلها في نقاش وحوار حرّ يتعدّى موضوع الدراسة وينفتح على شئون الحياة الواسعة والاهتمامات القومية والإنسانية.

ولقد كانت هذه اللقاءات والأحاديث في الفترة الأولى من حياتي الجامعية (الثلاثينيات إلى منتصف الخمسينيات) مفعمة بالأمل والحماسة, إذ كانت الشعوب العربية مندفعة في مسالك التحرر من الحكم الأجنبي واكتساب الاستقلال والسيادة. وكانت الشبيبة الجامعية مشاركة في هذا الاندفاع ومستمدة منه الرؤية التفاؤلية لمستقبل عربي أفضل. ومع أن أخطار الصراع العربي - الصهيوني كانت جاثمة على الصدور والنفوس, فإن الأمل كان لا يزال ساطياً بأن نهاية هذا الصراع ستأتي قريبة وفي مصلحة العرب نظراً لثقلهم العددي ولأهمية مواردهم المادية ولاعتراف العالم بدولهم التي تكوّنت, وبحتمية إحراز بقية المجتمعات العربية لمثل هذا الاعتراف ولغيره من مظاهر السيادة. كما أن الروح القومية الناشطة حينذاك كانت تتجه إلى شكل من أشكال الوحدة بين الدول العربية تمثلت رسمياً بتأسيس جامعة الدول العربية عام 1945. أما الشبيبة الجامعية وقطاعات أخرى من المجتمعات العربية, فكانت طموحاتها تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك, وإلى حتمية حصول هذه الوحدة بالإضافة إلى الحتمية الأولى بالتحرر السياسي والاستقلال.

كانت الأجواء عابقة بهذه الآمال والطموحات الكبيرة. لكن, مع تقدم الزمن و(تخلف) الدول العربية في معالجة قضية فلسطين, وفي العمل نحو الوحدة بين الحكومات وبين الشعوب, وفي تنمية المجتمعات بمختلف قطاعاتها, الاقتصادية والعسكرية والثقافية وسواها, أخذت الآمال والطموحات تنخفض, تدرجاً أو تفجّراً, إلى أن بلغت الآن أدنى دركاتها, بل هي تتعرض إلى مزيد من الضعف والانحطاط.

واكتسحت النظرة التشاؤمية هذه سائر الفرقاء العرب, واشتدت خطورتها بغزوها عقول الأجيال الناشئة ونفوسهم, حتى غدا الكثيرون من هؤلاء يشكّون بالهوية العربية وبقدرة العرب على أن يحققوا آمالهم, وأن يتقدموا في طرق العزة والكرامة. واتجه الهم الأول لدى بعض فئات هذه الأجيال إلى تقصّد الأغراض المادية والشهوات الغريزية, والسعي إلى الانتقال إلى بلاد أخرى تقبلهم وتضمن لهم مطالب العيش وكرامة الاعتبار, للانغماس فيها حتى لو تطلب ذلك خسران أصلهم وهويتهم.

في هذا الجو القاتم والمفرط في التشاؤم غدا واجباً على كل مؤمن بقضيته وأصالته أن ينخرط في هذا الصراع الداخلي - بين الأمل واليأس, والإيمان والإنكار, والالتزام والارتخاء - وأن يتحرى لنفسه ولغيره إمكانات, بل قدرات, الصمود والارتقاء, في هذه المرحلة العسيرة من تاريخ الإنسانية حين لم يعد للضعيف والمتخلف أي نصيب من الاعتبار والكرامة, بل أي حظ من العيش الكفي ومن مجرد البقاء في هذا الوجود.

وكان طبيعياً أن أنشط في خندقي من هذه الحرب القومية الشاملة, لأدلو بدلوي بين المحاولين الآخرين, فعسى أن يكشف هذا الحديث الجديد إلى الشبيبة العربية فسحاً ينفذ منها الأمل إلى النفوس, والنشاط إلى الأيدي والعقول, للمشاركة في عملية الإنقاذ المضطرمة الآن في مجتمعنا من أجل البقاء والتحرر والنهوض.

ما العمل?

سؤال يتردد على شفاه الكثيرين من أبناء البلاد العربية اليوم, بل يضطرب في نفوسهم وفي ذات وجودهم, ولا ينفكون يدورون به ويدور بهم في حلقات مفرغة ومتاهات مضيّعة لا حدود لها ولا نهاية, ولا تؤدي إلى ما يقنع العقل أو يبعث على رضا النفس.

وحبذا لو كان هذا التساؤل من النوع الذي يدفع إلى تحسين الأوضاع المشكو منها وتغذية بذور النهضة والإصلاح. فمن ينظر ملياً في أحداث اليوم, أو يتابع مجرى التاريخ, يجد أن مبدأ كل تجدد حقيقي, ومبعث كل انطلاق خلاق, هو التساؤل القَلِق والمقلق الذي لا يهدأ ولا يستريح إلا عندما تلوح الغاية المنشودة وتبين الطريق الموصلة إليها. وعلى العكس, فإن التساؤل المنتشر اليوم في بلادنا وفي أوساط كثيرة من العالم هو من النوع السلبي الذي يضغط على المرء من كل ناحية, ويصده عن الرؤية الصحيحة والجهد المفيد.

هذا التساؤل السلبي الشائع اليوم, وبصورة خاصة في المجتمعات المتخلفة, يغمر النفوس ويشل قوى الإنتاج والإبداع في خلاياها, ويمتص حيوية هذه المجتمعات ويرمي بها خارج ميادين التقدم الإنساني, الذي يكوّن جوهر التاريخ.

ولعلّ هناك سؤالاً يتقدم السؤال الذي نجعله مدار هذا الحديث. فإن تساؤلنا عن (العمل) المترتب علينا يفرض أن نكون تصدّينا لسؤال مرير سابق هو: (هل ثمة أمل?), وخرجنا من هذا التصدي إلى إدراك التحديات الجسيمة التي ترتسم في الآفاق, وإلى القبول المبدئي بقدرتنا على مجابهته, أو, على الأقل, إلى اقتناع أولي بجدوى هذه المحاولة. فيصح بنا عندئذ أن نتقدم إلى السؤال الأساسي الثاني: (ما العمل?), إذ إننا إذا فقدنا الأمل, فقد فقدنا القدرة على العمل, بل الثقة بجدواه, وحتى بإمكانه.

وإذا صحّ تخوفي وقلقي, فإن الكثرة من أبناء بلادنا العربية, ومن شبيبتها خاصة, لا تزال قابعة في المرحلة الأولى متسائلة عمّا إذا بقي ثمة أمل لها ولمجتمعاتها, وخارجة من هذا التساؤل إلى الشك والارتياب بأية محاولة للكشف عن سبل العمل. ولذا, أرجو أن يؤخذ طرحي في هذا الحديث بأوسع حدوده من حيز القنوط الأوّلي الساطي والنافي لأي أمل إلى حال الشلل والضياع المنكرة لجدوى أي عمل.

(هل من أمل?) ما أكثر ما نسمع هذا السؤال من الأباعد والأقارب! وما أشد ألمنا عندما نرى الانتقادات الظاهرة, أو الاتهامات الخفية, توجه من وجوه ساخرة أو من أقلام مستريبة كلما تحدث أحدنا بلغة الأمل عن مستقبل أحد المجتمعات العربية أو المجتمع العربي العام, أو عالج الوسائل الضرورية لتكوين هذا المستقبل. إنه ليتهم بشبهات أخفها وأرحمها أنه ينطلق من مثالية خادعة لا تنطبق على وقائع الحاضر أو الماضي أو بسذاجة أكاديمية لا تفقه تعقدات الحياة الإنسانية ومخابئها.

وهنا يقتضي القول إني أتصدى لهذا التساؤل بنظرة قومية عربية شاملة, ذلك أن هذه النظرة ما فتئت ترافقني في مختلف مراحل حياتي الفكرية والعملية, ولأني أجدها تنطبق على الموضوع الذي يدور حوله هذا الحديث. فالشك والارتياب السلبيان, بدءاً من إنكار الأمل إلى اليأس من العمل, يغطيان الساحة العربية كلها, وقد يتخذان صوراً مختلفة في داخل هذه الساحة, ولكنهما, لدى النظر المتحري, يصدران عن علل أساسية متطابقة أو متقاربة جوهراً وأساساً, وإن تباينت ظواهرَ وأشكالاً تبعاً للأوضاع الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات العربية.

إنماء العقلانية - الخلقية

أولاً: ملاحظتان تمهيديتان

إذا كان للعقلانية - الخلقية هذا الدور الفريد في تكوين الشعوب وتقدمها, فما السبيل, أو السبل, لتنميتها وتهيئتها للقيام بهذا الدور على أفضل وجه? قبل الإجابة عن هذا السؤال التي سنخص بها القسم الأخير من هذا الحديث, نجد من الضروري أن نتقدم بالملاحظتين التمهيديتين التاليتين:

1 - العقلانية - الخلقية ميزة مكتسبة, ولا تأتي بالطبيعة والفطرة. صحيح أن الإنسان يختلف ويرقى عن الكائنات الحية الأخرى بأنه (حيوان ناطق), أي (عاقل), لكن هذا (النطق) أو (العقل) لا يحصل له, فطرةً وطبيعة, إلا كإمكان, أو كما تقول الفلاسفة (بالقوة) لا (بالفعل). وإنما يخرج إلى (الفعل) بالجهد الاكتسابي. إن هذه الملاحظة ضرورية لأن التاريخ عرف حركات وفلسفات عديدة ترجع تطور الإنسان إلى عناصر أخرى من كيانه أو خصائصه, كالعرق أو اللغة أو التاريخ أو طبيعة المحيط وموقعه وأمثالها. ولكن هذه جميعاً هي في رأينا (أعراض) أو أسباب ثانوية, ولا تخلو من أن يكون لها آثار في التحضر الإنساني, إيجاباً أو سلباً, أي أن تأتي ميسّرة أو معوقة للنمو العقلاني الخلقي, ولكنها ليست سببه الأصلي. هذا من جهة, ومن جهة أخرى علينا أن ندرك يقينياً أن التقدم العقلاني - الخلقي, الذي يكون لب التحضر, لا يأتي بالسحر أو بالقدَر أو عرَضاً, وإنما بالجهد والعمل, وهو يسمو ويرقى بقدر صدق الجهد المبذول في سبيله وكثافة هذا الجهد واستمراره. والتاريخ لا يتحيز إلى أي شعب أو مجتمع, وإنما يحكم له بالنسبة إلى جودة نتاجه, الناشئة عن صفاء رؤيته وتركز اهتمامه ووفرة عطائه, وغيرها من الميزات التي تكتسب اكتساباً ولا تمنح منحاً, كما يحكم عليه بأضدادها.

2- منذ بدأ المؤرخون وغيرهم من المفكرين يحللون نهضات الشعوب وتقدمها, اختلفوا في التأكيد على الإنسان ذاته, أو على محيطه. فالأنبياء ورجال الدين والمربون وفريق من الفلاسفة صوبوا أنظارهم واهتماماتهم إلى قيمة الإنسان وما اكتسب من قدرات وما يمثل من قيم, بينما انصرف آخرون إلى المحيط الطبيعي أو المجتمعي, الذي يقوم فيه الإنسان ويتأثر به. فالتقدم والرقي الإنسانيان بحسب الفريق الأول يحصلان بارتقاء الإنسان ذاتياً وبارتفاعه في سلم القيم, بينما يعتبر الثاني أن التقدم يأتي عن طريق إصلاح المحيط. ولكل من الفريقين حججه ونصيب رأيه من الصحة أو الخطأ. ونحن, مع انحيازنا إلى موقف الفريق الأول, وتأكيدنا على العنصر الإنساني, العقلاني - الخلقي, ودوره الفريد في تقدم المجتمعات أو تأخرها, نقر بأن للمجتمع حوله أثره في هذا المجال, فلا نزعم أن الإنسان الصالح ينشأ في مجتمع فاسد, أو أن إصلاح هذا الفساد من قبل الدولة أو الفئات الفاعلة ليس له دوره وأهميته في التقدم أو التحضر المنشود. وإذا لفتنا هنا النظر والانتباه إلى الإنسان ذاته, وما يتمتع به من تميز عقلاني - خلقي أو ما يشينه من قصور أو تخلف في هذا المضمار, فلسببين رئيسيين: أولهما أن روح هذا العصر وحركاته الإصلاحية تكاد تنصب على أوضاع المجتمع الذي ينتمي إليه الإنسان. فما تحتاج إليه المجتمعات المتخلفة بحسب هذه النظرة إنما ينعكس, في اهتمامات الهيئات الدولية وتصريحات الدول الكبرى, وهو (التنمية) التي كانت أصلاً تحصر في ميدان الاقتصاد والتي عقدت حولها المؤتمرات الحافلة وخصصت لها الموازنات الضخمة. ولكن بدأ ينكشف لهذه المراجع أن هذه وغيرها من الإصلاحات المجتمعية مرتبطة أشد الارتباط بـ (التنمية البشرية) المتمثلة بقدرات الإنسان وفضائله. إنما لا يزال هذا الانكشاف محدوداً, و(التنمية) المدعوة بشرية موجهة إلى التدريب المهني أكثر منها إلى التفتح العقلاني والإصلاح الخلقي.

وشبيه بهذا ما نسمعه اليوم من قادة الولايات المتحدة, أقوى الدول المعاصرة وأغناها, ومن أقرانهم عن أهمية الإصلاح عن طريق تحرير (الأسواق) من القبضات الحكومية وإطلاقها بين الدول والمناطق دون عوائق أو حدود. فلو فرضنا أن (حرية السوق) هذه وخصخصة المؤسسات الاقتصادية تؤدي إلى الازدهار الاقتصادي, فكيف نثبت أن هذا الازدهار هو الوسيلة إلى الديمقراطية? وأن الديمقراطية وما تتطلب, وما تُيسر من تقدم عقلاني - خلقي ينتج حتماً عن هذا التطور (السوقي). إني أرى في هذا التوجه تعليلاً اقتصادياً للتاريخ ولحركة المجتمعات, لا يقل تفرداً وتطرفاً عما تقول به الشيوعية, وما حرصت الدول الغربية المتقدمة على دحضه وإنكاره. ولهذا كله نحتاج إلى مقاومة هذا الاهتمام الاستئثاري بالمجتمع دون الفرد وبالتحرر الاقتصادي أو السياسي وإلى إبراز أهمية الدور الذي يؤديه الفرد, وبحظه من العقلانية الخلقية في عمليات التحرر والإصلاح.

أما السبب الثاني لتأكيدي هذه الأهمية - كما نعرضها في هذا الحديث - فهو أن الإصلاح عن هذا السبيل لا ينتظر قيام حكومات ومؤسسات صالحة, ولا يصلح عذراً لتباطؤ الأفراد المؤهلين أو الجماعات المؤهلة للقيام بمسئوليتهم فيه, فهو بذلك مفتوح لكل إنسان مؤهل, حتى لو اقتصر على إصلاح نفسه ولم يتعدَّ إلى سواه. فالتطور الذي نصفه ونعلق عليه هذه الأهمية هو في ذاته ومجرد وجوده عامل إصلاح وترقية ينساب من الفرد إلى المجتمع, فيمده بالصلابة إزاء الأخطار المهددة ويشدد عزمه وطاقته على الانطلاق في سبل التحرر والتحرير.

ثانياً: وسائل هذا الانماء: التربية

نتقدم إلى صلب موضوعنا في هذا القسم من الحديث, وهو التساؤل عن الوسائل التي يجري بها الإنماء المنشود للعقلانية - الخلقية في الفرد والمجتمع. إن هذه الوسائل تتلخص في نظرنا في عمليتين أساسيتين, بل في عملية واحدة مزدوجة, يتركز جوهرها في التربية. والمؤسسة التقليدية للتربية هي المدرسة (على اختلاف درجاتها من دار الحضانة إلى الجامعة), وهي التي اعتمدتها المجتمعات منذ بدء سلوكها طرق التحضر من أجل تهيئة الأجيال الصاعدة لحياة أفضل. وقد حققت هذه الوسيلة توسعاً وانتشاراً وتنوعاً ونمت نمواً بارزاً في الأعصر الأخيرة, وأخذت تعتبر اليوم حقاً أساسياً من حقوق كل إنسان لاكتساب المعرفة التي يتقدم بها ويرقى ويؤدي عن طريقها نصيبه في تقدم مجتمعه ورقيه. ولا ينكر أن الإنماء التربوي هذا قد كان له أثر كبير, مستمر ومتراكم, في نقل الشعوب من حالة البدائية إلى مراحل متتابعة من التقدم والتحرر. إن هذا الإنماء هو حجر الأساس والمطلوب الأول في عملية الإنهاض والإصلاح, شرط أن يستوفي الشروط التالية:

1 - أن تتعدى التربية المؤسسة التقليدية التي اعتبرت خلال الأجيال وسيلتها الرئيسية, إن لم نقل الوحيدة, وهي المدرسة. ففي زمننا هذا, وبعد انتشار وسائل الاتصال والإعلام, لم تعد التربية محصورة في مؤسسة واحدة, بل أخذت تجري في أقنية أخرى من بناء المجتمع وتؤثر فيه تأثيراً بالغاً, بل أبلغ من تأثير الوسيلة التقليدية, كما يحدث عن طريق الإذاعة والتلفزة والحاسوب وسواها من وسائل الإعلام التي تتطور وتمتد وتتنوع بشكل مذهل في هذه الأيام. فالمشرفون على هذه الوسائل والمشاركون في تنفيذها يتحملون مسئولية لعلها أعظم وأخطر من مسئولية السلطات التي ترعى التربية المدرسية والأفراد والجماعات الذين يعملون في نطاقها.

2 - وكما أنه لم يعد جائزاً أو مفيداً أن تحصر التربية في مؤسسة واحدة, كذلك لم يعد جائزاً أو مقبولاً أن تقتصر على مرحلة محدودة من مراحل الحياة. إنها عملية دائمة من المهد إلى اللحد. هكذا كانت دائماً, ولاتزال, خاصة في هذا العصر, الذي تعددت فيه وسائلها وتفرعت, كما تعددت وتفرعت الوسائل المضادة لها والعاملة على تجهيل الإنسان وتفتيته وتحقيره.

3 - أن يرقى مفهوم (التربية) على مفهوم (التعليم), أي أن يتناول شخصية التلميذ أو الطالب بكاملها ولا يقتصر على تدريبه لمهنة معينة وإمداده بالمعلومات والوسائل الضرورية لممارستها, بل إن مفهوم (التعليم) ذاته قد انحط في مواقع كثيرة إلى مستوى (التلقين), فتمثل في حشو دماغ التلميذ بمعلومات تيسّر له النجاح في الامتحانات ونيل الشهادات فحسب. وكثيراً ما يكون هذا النجاح على حساب نمو العقلانية في الإدراك والخلقية في السلوك. ومن المؤسف أن حاجات هذه الأيام المتكاثرة, وتسارع الإنماء التربوي المدرسي لتوفية هذه الحاجات, وكثرة الشبان الراغبين في التعلم, فضلاً عن عوامل أخرى في حياة هذا العصر المتحركة والمتغيرة قد قوت هذا الاتجاه نحو تلقين المعلومات واعتماد الذاكرة, فنمت العملية التربوية كمّاً (تكاثر المدارس والمعلمين والتلاميذ والمعارف الضرورية), ولكنها لم ترتقِ مرتبة ولم تصبح أكثر كفاءة أو صلاحاً لتفتيح العقل أو تنقية الخلق.

ثالثاً: وسائل هذا الإنماء: الاقتداء

وهكذا, بسبب قصور وسائل التربية التقليدية (المدرسية) عن توفية حاجات هذا الزمان المتكاثرة والمتصاعدة, وامتداد هذه الحاجات على العمر كله وعلى وجوه الحياة جميعاً, تعاظمت مسئوليات أرباب الحكم وقادة المجتمع (بالإضافة إلى توسيع مجالات التربية التقليدية ورفع مستواها وصد الأخطار الناتجة عن الوسائل الإعلامية الجديدة) إلى إيجاد (نماذج) عقلية - خلقية جديرة بأن يقلدها ويقتدي بها أفراد المجتمع وجماعاته. فعند النظر في أي مجتمع لتعيين مدى أهليته للاستقرار والتقدم, يجدر التساؤل عن النماذج البشرية التي يبنيها وينشئها وعن مدى صلاحها لأن تكون لأبناء المجتمع - ولغيرهم من الناس - مصدر إعجاب وتقدير ومبعث اتباع وتأييد. ولا نظننا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن مجتمعاتنا العربية قلما توفر مثل هذه النماذج, وأن النماذج السائدة فيها بعيدة عن تأدية وظيفة القدوة الصالحة, بل على العكس نجدها مجسدة أو مؤيدة للأسباب الداعية إلى الفساد وإلى الإمعان في التخلف, في حين أن المجتمعات المتخلفة, مثل مجتمعاتنا, هي بحاجة ملحة إلى أي إمكان يساعد على الخروج من حالة التخلف والسير في مضمار تكوين القدرات الإنسانية للاستقرار والتقدم.

من هو مَثَلي في الفكر أو العمل أو السلوك? بمن أعجب, ولماذا? وبمن أسعى لأن أقتدي وأقلد? إلى أي حد يعبر هذا المَثل عن الفضائل العقلانية - الخلقية المطلوبة?

هذا هو نوع الأسئلة - التحديات التي يترتب على كل مواطن أن يثيرها ويحسن مجابهتها, إذا أراد أن يعد نفسه ليسهم في تقدم مجتمعه, بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

رابعاً: دور المثقفين

وهنا يبرز دور خاص وفريد للمثقفين. لقد تعددت الدراسات, الصادرة حديثاً في الأدبيات العربية, للثقافة العربية الراهنة ولدورها ودور حامليها في تحرير مجتمعاتهم وإنهاضها. وأكثر هذه الدراسات نقدية الاتجاه, تُبرز نواقص الثقافة العربية والمثقفين العرب عن أداء هذا الدور. وفي ختام هذا الحديث, نلخص رأينا في هذا الموضوع الأساسي بما يلي:

إذا كان طرحنا صحيحاً بأن الحاجة الأولية للمجتمعات العربية الحاضرة هي توليد القدرات العقلانية - الخلقية الكفيلة بتحرير هذه المجتمعات وإنمائها, فإن للمثقفين العرب في هذا المضمار دوراً فريداً وواجباً لا يدانيه أي واجب آخر. قلنا الحاجة الأولية, ولم نقل الحاجة الوحيدة, لأن مطالب الحياة المعاصرة وشروط تقدمها هي كثيرة التعدد والاختلاف والتعقد. ولا نسمح لنفسنا أن نغفل عن أية وسيلة أخرى, كالثورات أو الانتفاضات الشعبية, تؤدي إلى غايات التحرر. ولكننا نعتقد اعتقاد تيقن وإيمان أن الوسيلة التي نؤكدها هي التي تضمن سداد الوسائل الأخرى وسلامتها, وهي أيضاً, بذاتها, غاية - أو يجب أن تكون كذلك - للحياة الوطنية والإنسانية الصحيحة والخليقة بشرف الإنسان ومجده.

إن مطالب هذه الثقافة يجب أن تتمثل لا بتوجهات أصحابها وسلوكياتهم فحسب, بل بمجرد وجودهم في مجتمعاتهم - أي بصيرورتهم (نموذجاً) صالحاً لأن يقتدى به عفواً وبتأثر مباشر. وكلما اشتدت قوة الفرد أو الجماعة أو علا مقامهم أو ذاع صيتهم, تفوقت نماذجهم على النماذج الأخرى فعلاً وانتشاراً, كما يحدث اليوم لنماذج الحكام ورجال السياسة والعسكر وأرباب الأعمال, بل حتى للمغنين والممثلين واللاعبين الرياضيين وغيرهم ممن تتسابق وسائل الإعلام على تقصي أخبارهم وإذاعتها تلبية لأذواق القراء والمشاهدين ومفاهيمهم (الشبّان منهم خاصة). ويصعب على المثقف الأمين لمهمته أن ينافس هؤلاء, وغيرهم من البارزين, لأنه لا يسعى أصلاً إلى سطوة أو نفوذ أو شهوة, وإنما إلى الكشف عن الحقيقة والحق الذي يجري عادة في مواقع محصورة أو منعزلة, وبالعمل الصامت لا بالضجيج الصارخ وبالصدق والالتزام لا بتصيّد الشهوة والمنفعة الخاصة.

ولكن هذا الاعتبار يجب ألا يدفع المثقف إلى اليأس أو إلى التنازل عن أصالته ووظيفته طمعاً بسلطة أو مقام. فهو في أحوالنا المتأزمة الحاضرة مدعو لفدائية لا تقل عن فدائية مقاومي الاحتلال قدراً وتضحية. فهل يطمح مثقفونا إلى هذه المنزلة?

ولد الدكتور قسطنطين زريق في دمشق, عام 1909. وتلقّى دراسته الجامعية الأولى في الجامعة الأميركية, في بيروت, متخرجاً بدرجة بكالوريوس في الآداب (بشرف), عام 1928. حصل على ماجستير في الآداب (اختصاص تاريخ) من جامعة شيكاغو, ودكتوراه في الفلسفة من جامعة برنستن 1930. عمل أستاذا مساعدا, فأستاذا مشاركا في التاريخ, الجامعة الأميركية في بيروت 1930 - 1945. شغل منصب وزير سورية المفوّض في واشنطن, وعضو وفد سورية إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة 1946 - 1947. عين رئيسا للجامعة السورية, دمشق 1949 - 1952. وفي الجامعة الأمريكية ببيروت عين نائب الرئيس, وعميد الكليات, فرئيس بالوكالة, 1952 - 1957, كما عمل كأستاذ ممتاز في التاريخ, الجامعة الأميركية في بيروت 1956 - 1977. والدكتور زريق هو رئيس جمعية أصدقاء الكتاب, لبنان 1960 - 1965. وأستاذ زائر, في جامعة كولومبيا, وجامعتي جورجتاون ويوتا 1965 - 1977. وعضو مراسل, مجمع اللغة العربية, دمشق. وعضو مؤازر, المجمع العلمي العراقي, بغداد. وعضو في مجلس اليونسكو التنفيذي 1950 - 1954. ورئيس الرابطة الدولية للجامعات, باريس, 1965 - 1970, فرئيس فخري منذ 1970 , ورئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية, بيروت, 1963 - 1984, فرئيس فخري منذ 1984 , وعضو مجلس إدارة مؤسسة عبد الحميد شومان, عَمّان منذ 1980 وله العديد من الكتب والمقالات الاختصاصية في التاريخ, والفكر بالعربية والانكليزية.
-----------------------------
* النص المنشور هو جزء من كتاب (ما العمل) الذي ينشر بالاتفاق مع مشروع كتاب في جريدة والأعمال الفنية المصاحبة للفنان مهدي الهاشمي وهو واحد من أهم النحاتين المعاصرين في العراق.

 

قسطنطين زريق

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات