الهنود ونزعة الجدال

الهنود ونزعة الجدال

من الشيء المألوف, في أيامنا هذه, أن الغرب هو ملاذ الحرية الدينية ومرفأ الديمقراطية, أعاد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى الأذهان هذه الأفكار إلى العالم الإسلامي, حينما همّ بتصدير شيء معين من أفكاره, إلى الشرق, هذا الشرق المنغمس في حمأة التعصب على حد زعمه, ونرى من جملة بعض المقالات, التي تضمتها كتاب آمارتيا سن, وهو مجموعة من المقالات البليغة والمؤثرة: (إن الشرق له تقاليده الخليقة بالاحترام في المشاركة العامة لاتخاذ القرار عن طريق الجدال بالتي هي أحسن, وبسعة الصدر والتسامح), حقا, كما يشير, وفي القرن السادس عشر الميلادي ساق الأوربيون الكاثوليك في عصر محاكم التفتيش, جيوردانو بورونو (1548 - 1600) إلى الأوتاد, وأعدم حرقا لتجاسره على الكنيسة في مسألة علمية بحتة, في القرن نفسه أعلن الإمبراطور المغولي أكبار - الذي حكم الهند تسعة وأربعين عامًا من 1556 حتى 1605 واسمه الحقيقي جلال الدين محمد - أعلن أنه لا يتدخل إنسان في شئون الآخرين بسبب العقيدة, ويسمح لأي شخص بأن يعتنق ما يروق له من دين.

يُعد A.S من العقول الهندية المتميزة في عصرنا, وقد حاز جائزة نوبل في الاقتصاد, وكان استاذا جامعيا في كلية ترينتي بجامعة كمبريدج, وحاليا يعمل أستاذا بكلية لامونت بجامعة هارفارد, وكتابه هذا عبارة عن سلسلة مقالات مدبجة بدقة علمية متماسكة, تتميز بتنوع الآراء والمعتقدات, والأفكار المتنافسة, والمتصادمة أحيانا والتي تتعايش رغم ما بها من تباين.

حتى أنه كتب عن البدع الدينية في الهند, ونعتها بقوله: (إنها حالة طبيعية من طبائع الأشياء), ويحدثنا عن أن الهنود كثيرا ما يحثونه على الكلام, وبإسهاب, حول الأساطير الهندية القديمة, وأطول الأشعار التي نظمت, في ذات الوقت الذي سجل فيه كريشنامينون رقما قياسيا في الحديث أمام الأمم المتحدة (وكان يشغل مندوب الهند لدى الأمم المتحدة) لمدة ثماني ساعات?!

وتحدث A.S عن التربة الهندية التي تأصلت جذورها عبر الاتفاق, الحوار, الحجة, البرهان والحلول الوسطى, وأردف قائلاـ: (الديمقراطية والجدال وجهان لعملة واحدة), وتشكل التقاليد الجدلية حجر الزاوية لرفع المظالم الاجتماعية, على الرغم من أن التصويت والاقتراع هما اختراع أثيني, والغرب القديم, هو جزء صغير من قصة أكبر. يعتقد A.S أن خطأ الغرب الأساسي أنه يرى الهند محاطة بغلالة ضبابية أسطورية, عوضًا عن اقتفائه عقلانية وتحليلية ونزعة إلى الشك, بل وحتى التقاليد الإلحادية التي ترجع إلى إمعانها في القدم, تعتبر رج فيدا Rig Veda أقدم النصوص المقدسة على الاطلاق, حيث كتبت بينما كانت الأهرام ما زالت في طور البناء, مُقدسة الفكرة المجهولة حول (الربوبية) وتساءل: (من يعلم الحقيقة? من الذي يُبشر? من أي مصدر ينشأ? من أي مصدر يكون العالم? ربما تكوّن من تلقاء ذاته وربما لا? ربما شخص ما - أنزل من عليائه - فحسب هو وحده يعلم أو ربما هو يعلم?), وبالمثل, الكتب المقدسة الهندية تكون جديرة بالملاحظة ويلفها الغموض, وفي (الراماياتا), (المهابهارتا), حتى الأبطال العظام لديهم مواطن ضعف, واستحوذ المناوئون لهم على عناصر القوة: لا يوجد أبيض أو أسود, حتى ان الجيتا GITA, تمتاز بسمة بارزة, مبهمة لأكثر الكتب المقدسة الهندية, وثار الجدل حول الاحتفاظ بها.

أرجين Arjun والكريشنا Krishna, كلاهما تمسك وعلى قدم المساواة بمواقف أخلاقية يمكن الدفاع عنها وبالفهم المختلف لمبدأ الشريعة المقدسة من تعاليم بوذا.

وقد تعاظمت هذه التقاليد من قبل الإمبراطور البوذي اشوكا Ashoka في القرن الثالث قبل الميلاد, وهو الذي ربما وضع المهاد للمجادلات مع خصومه ونتيجة لهذا حظي بالتكريم من كل صوب وحدب, ليس هذا فحسب بل إن هذا الإمبراطور رسّخ أسس الحرية لكل المواطنين ولم يستبعد النساء أو العبيد كما فعل - من قبل - أرسطو.

حسم A.S القضية بأن قال إن الإسلام كان ثرًا للحضارة الهندية حيث تعهد بغرس العقلانية والتسامح مع البدع الدينية في العالم الإسلامي, وعلى وجه الأخص مع الصوفيين, وكتب بإسهاب حول الإمبراطور المغولي اكبار, ومدى تسامحه مع الثقافات المتعددة, وحفظه لحقوق الأقليات, ومجابهته لما يعتور المجتمع من عدم التآلف الاجتماعي, فلا مناص من إعمال العقل بدلا من التعويل على التقاليد, ووضع لبنات العلمانية ونبذ الطائفية الدينية وأسس حوارا لمتعددي الأديان من المسلمين, المسيحيين, اليهود, الزرادشتيين واليائيين لمناقشة نقاط الاتفاق والاختلاف حتى يتمكنوا من العيش معا.

وعلى النقيض, وقف فيديا نابول Vidia Naipaul الحائز على جائزة نوبل ليجابه A.S ورأى أن الغزو الإسلامي (وسماه غزوًا incursion) كانت له آثار سلبية للغاية على الحضارة الهندية القديمة, ودافع عن الحركة الهندية وتيارها الهندي القومي, وانبرى A.S لينتقد بعنف التفكير الضيق للحركة الهندستانية, وقال إنه نتاج الجهل بالتباينات السياسية والاقتصادية للتقاليد الراسخة الهندية, وأشاد بالتقاليد الهندوكية العظيمة, وإسهاماتها العميقة, وصهرها لأديان متباينة في بوتقة واحدة, وشعر بالخجل من القتل الجماعي Genocide المنظم للمسلمين من قبل جبهة BJP في ولاية جوجيرات.

هذا كتاب غير تقليدي, ومثير, وسوف يباغت ويتحدى الكثير من الطبقة الوسطى الهندية, في معسكر نابول, ففيه مجموعة من المقالات تشحذ الذهن, وتثير القريحة, من كاتب مثقف وحاذق, وهو نتاج لعقلية خلاّقة, أبدعت هذا الكتاب حتى أضحى من أكثر الكتب مبيعا, ومن أفضل الكتب عن الهند منذ سنوات عديدة, ويستحق التكريم بقراءته أكثر من مرة بإمعان وتمحيص.

 

آرماتيا سن A.S

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات