مساحة ود

مساحة ود

لم أعد أذكر شيئا...

كانت لحظات عسيرة و أنا أنتظر خروجه من بيته الذي لازمه طويلا.. مرت ستون ثانية كنت خلالها أحاول رسم ملامحه الجديدة التي لا شك أن الأيام قد أدخلت عليها تعديلات لم تكن موجودة من قبل.

وفجأة يخرج من باب بيته, أنظر فيه باندهاش, تصافحنا, ثم كان العناق الذي حبس دموعي على ضفاف مقلتي..لم أكد أصدق أنني أضم بين ذراعي ذلك الصديق الذي كثيرا ما كان يسألني سؤالين لا أكثر ولكن سؤالين حميمين جدا: هل تحبني? و ماذا ستفعل إذا علمت بموتي?

كنت أجيبه مداعبًا, سأزور قبرك وأكتب عليه بيت أبي العلاء:

هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد


فيغضبه الرد لأنه كان يحيله إلى تعاسة لم أكن أعرفها إلا بعد هذا اللقاء المشحون بالحب والأسى.

مرت تلك الدقائق لنجد أنفسنا ندلف نحو مقهى معزول يكاد يخلو من الناس, كانت تلك رغبته, فهو لم يعد يحب مجالسة الناس ... وها نحن نجلس وجها لوجه, أنظر فيه, أتأمله وهو مطأطأ الرأس, ألملم شتات ذاكرتي الموزعة بين صورته أيام الجامعة وصورة هذه الكتلة البشرية الشاردة أمامي دون أن يبادلني أية مشاعر...

يا للهول, لقد قال لي بكل وضوح: مع الأسف يا صديقي, فأنا لم أعد أذكر شيئًا, لا زملاء ولا حتى تلك الكتب التي أحببت وعشقت... لم أكن قادرًا على تصديق ما أرى وأسمع, حاولت جهدي فهم ما يحدث أمامي, حاولت فهم هذه المسرحية العابثة, لكن دون جدوى, فصديقي مازال مصرًا على إنكار معرفته, لكل من ذكرت له من الأسماء التي لاشك عرفها ذات يوم.

كان لا يتكلم إلا إذا سألته وكان يجيب ـ لحسن الحظ والمرارة تعتصر قلبه ثم كانت المفاجأة .. لقد كنت أقرأ مقالاتك في (الأيام) الجزائرية. بهذا فاجأني..لقد وجدتها صدفة فواظبت على قراءتها, ثم مناقشتك بصوت مرتفع.. كان هذا الوقت هو الوحيد الذي أتكلم فيه.

ثم سألته وأنا كلي فرح: وهل أعجبتك? فلم يكن جوابه إلا: لا أذكر شيئًا, فأنا لا أستطيع التذكر... ثم أحسست بحسرة تمزق قلبه, ورغبة في مغادرة المكان حيث عزلته, فودعته على أمل اللقاء به العام المقبل, وكم كان فرحا وهو يتلقى مني هدية رفض فتحها أمامي, أتمنى ألا يكون قد نسي فتحها.

 

نور الدين بودقم