العرب والثقافة العلمية.. ترف فكري أم ضرورة عصر?

العرب والثقافة العلمية.. ترف فكري أم ضرورة عصر?

في هذا الشهر الذي يختتم العام, تفتتح مجلة (العربي) مشروعها التأسيسي للمناداة بإيلاء الثقافة العلمية مزيدًا من المطالبة بالاهتمام والرعاية, وهي مطالبة بدأناها في (العربي) منذ ستة شهور مضت بإصدار (ملحق العربي العلمي) ليكون إحدى الأدوات التي نؤكد بها ضرورة أن نلتفت لعصر العلم والتكنولوجيا. وتأتي ندوة (العربي) السنوية, هذا الشهر, أيضًا تحت عنوان (الثقافة العلمية واستشراف المستقبل), أداة أخرى لتوكيد النداء/المطالبة, فهذا الرافد من روافد الثقافة الإنسانية يستحق الكثير من العناية, والجاد من الأسئلة.

  • إن ثروة الأ مم الحقيقية في هذا العصر هي تقدمها العلمي
  • في عالمنا العربي لا نعاني من طغيان الآلة على الإنسان ولكن من غياب الآلة
  • الثقافة العلمية منظومة صغرى داخل المنظومة الثقافية العامة للمجتمع

يتكرر دائمًا عند الحديث عن عصر النهضة العربية الحديثة - هكذا سمي - الاستشهاد بالشيخ المصري رفاعة الطهطاوي, كأحد أشهر رموز دعاة النهضة العربية. وكان الطهطاوي يطلق على ما هو معروف اليوم بالعلم والتكنولوجيا تسمية (العلوم البرانية), وهذه التسمية تعكس ما كان يعانيه الرعيل النهضوي العربي الأول من شعور بالفارق الشاسع بين ما حققه الغرب الأوربي في مضمار العلوم والتكنولوجيا, وما لم نحققه نحن العرب والمسلمين في هذا المضمار, وهو أمر سبب صدمة للعقل العربي, بل صدمات قد تكون أولها صدمة هذه الحضارة (البرانية), التي بدأت مع غزو فرنسا بقيادة نابليون بونابرت لمصر عام 1798, والتي يعبر عنها مؤرخ مصر الشهير في تلك الفترة عبدالرحمن الجبرتي, واصفًا ما رآه من علوم الفرنسيين ومبتكراتهم التقنية - آنذاك - بقوله: (ولهم فيه أمور وأحوال وتراتيب غريبة ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا...).

والآن, وبعد مضي قرنين من هذه (الصدمة), فإننا لانزال (متفرجين) ولسنا (مشاركين), وفي كل الأحوال نكتفي بملء هذه الفجوة بأننا (مستهلكون), بامتياز لكل ما ينتجه الغرب والشرق أيضًا, من مفرزات هذه الأشياء (البرانية) دون أن نعرف, أو نحاول أن نعرف, كيف أنجز الآخرون (هذه الأشياء), ناهيك عن الطموح إلى إنجاز ما يماثلها أو يقاربها.

بالطبع ليست الصورة العربية الآن كاملة الإظلام في مضمار هذه العلوم, فهناك شذرات مضيئة في هذا الركن من عالمنا العربي أو ذاك, لعلماء يعملون بموازاة ما ينجزه الغرب, والشرق المتقدم, من علوم, لكنها تظل شذرات مغتربة - مع الأسف - في واقع عام يستورد فيه العرب سجادة صلاتهم وكثيرًا من ثيابهم كالدشداشة والغترة (الكوفية) والطاقية, إلى لعب أطفالهم, فضلاً عن الطائرة والسيارة والراديو والتلفزيون والكمبيوتر, وحتى الأسلحة الثقيلة والخفيفة, التي يتقاتلون بها في كثير من الأحيان.

أما الصواريخ العابرة للقارات, وتلك المتجهة لاكتشاف الفضاء الواسع والأقمار الصناعية وما شابهها, فهي لاتزال صناعة (برانية) نكاد نكرر في أمرها ما قال به الجبرتي قبل مائتي عام وأكثر.

فلماذا هذه الحال? ومن أين نبدأ لو أردنا أن نغير من أمرنا حتى لا نظل - بمعايير العصر الذي نعيشه - في هذه الدائرة المظلمة?

الإجابة المقترحة لهذه البداية هي (الثقافة) وهي هنا (الثقافة العلمية) تحديدًا, وهو لون من ألوان الثقافة خافت وباهت لدينا, ويثير العديد من الأسئلة الحائرة.

في الإطار التاريخي

إن الأسئلة التي تراودنا اليوم حول الثقافة العلمية, سبق أن أرّقت مجتمعات الدول التي صارت في طليعة التقدم العلمي والتقني الآن. وثمة مَن يرجع هذا الأرق إلى أوائل القرن السابع عشر في أوربا, ارتباطًا مع عصر النهضة وتكوّن جنين (الثورة العلمية), والذي أدى إلى نشوء صراع وصداع - على حد تعبير سمير حنا صادق في مقدمة عرضه لكتاب ستيفن جاي جولد, عن التقاء الإنسانيات والعلوم الطبيعية - لكن هذا الصراع والصداع تبلور كاشفًا عن نفسه بوضوح أكثر بعد ذلك بقرن تقريبًا, فمع بزوغ الحركة العلمية في أوربا في أوائل القرن الثامن عشر, احتدم الصراع الفكري بين النخب المثقفة, والتي كانت الآداب والفنون والعلوم الإنسانية هي كل السهام التي في جعبتها, وبين نوع من الفكر الجديد يتفق مع موجة من الإبداعات العلمية والتقنية تجسّدت في الواقع أمام الناس, وراحت تغير من مواصفات الحياة اليومية والاجتماعية والاقتصادية لهذه البلدان. ونشأت معضلة ذات شقين, أحدهما مع النخب المثقفة ثقافة إنسانية, والآخر مع مجموع الناس أو الجمهور. فالنخب أنكرت هذا الوافد الجديد, وثمة من اعتبره شرًا يهدد الرومانسية الغالبة في الأدب والفن والرؤى الجمالية في الحياة والثقافة السائدة. أما الجمهور, فقد شعر باغتراب جارف في مواجهة هذه المعارف الجديدة المستعصية على إدراكه, برموزها الرياضية ونظرياتها ومصطلحاتها الغامضة. وأمام هذه المعضلة المتشعبة, واستشعارًا لخطورة عدم التواصل بين رواد الحركة العلمية وعنصري المجتمع-النخبة والجمهور-بادر بعض رواد هذه الحركة بفتح قنوات التواصل مع الناس عبر الندوات والعروض والمحاضرات وجلسات النقاش, يعرض ما لديهم من جديد العلم, وما يتعلق به من معارف جديدة, مجتهدين في إيضاح ما لديهم, فكانت هذه باكورة ما يمكن أن نسميه اليوم بالثقافة العلمية. وعن هذه البدايات, يحدثنا الدكتور خضر محمد الشيباني في بحثه (الثقافة العلمية مفتاح التقنية): (ولقد استشعر روّاد الحركة العلمية الأوائل في أوربا خطر هذه المشكلة, فاهتم عدد كبير منهم بالتفاعل مع القيادات الفكرية والسياسية, ومع الناس بشكل عام في محاولات مستمرة لتبسيط المفاهيم والأفكار, وتوضيح المعطيات التقنية, وإبراز المعاني والدلالات المرتبطة بالجهود والنتائج العلمية, وكان من أبرز هؤلاء في بداية القرن التاسع عشر الميلادي الفيزيائي البريطاني مايكل فاراداي, الذي أدى اكتشافه لظاهرة الحث الكهرومغناطيسي إلى اختراع المولد الكهربائي, ففتح بذلك باب استخدامات وتحويلات الطاقة على مصراعيه. لقد كان فاراداي حريصًا على إلقاء المحاضرات العامة, وتبسيط أعماله العلمية, واشتهر بمهارته في الحوار والتشويق والإيضاح, وكان مدركًا منذ ذلك الوقت المبكر في تطور الحركة العلمية لأهمية تعليم العلوم للجميع على أوسع نطاق ممكن, لقد أصبح فاراداي المتحدث باسم الحركة العلمية في عصره, والمروّج لها, إذ كانت محاضراته العامة ملتقى شرائح متنوعة من المجتمع البريطاني, ولذا فقد عمدت الجمعية الملكية البريطانية أخيرًا إلى تأسيس جائزة فاراداي لتمنح للأوائل الذين يقدمون إسهامات بارزة في مجال التوعية العلمية للجمهور. ومن أطرف ما يحكى عن فاراداي قصتان شهيرتان: ففي نهاية إحدى محاضراته العامة عن ظاهرة الحث الكهرومغناطيسي, اقتربت منه سيدة عجوز وسألته باستفزاز, (وما فائدة الحث الكهرومغناطيسي?) فأجابها بسؤال آخر: (ولكن - يا سيدتي - ما فائدة طفل حديث الولادة?). أما القصة الأخرى, فقد كانت في محاضرة أخرى حضرها رئيس وزراء بريطانيا آنذاك, الذي سأل فاراداي: (ولكن ما الفائدة من الكهرباء?), فأجابه فاراداي في لفتة ذكية: (إنك يا سيدي سوف تجمع الضرائب من وراء الكهرباء يومًا ما...).

لم يكن هذا العالم وحده الذي اضطلع بهذه المهمة, فالمناظرات بين أصحاب المكتشفات الجديدة في العلوم, وبين مفكري هذه المكتشفات, سواء من بين العلماء أو من النخبة المثقفة - ثقافة العلوم الإنسانية - كانت تقوم بدور التثقيف العلمي, دون أن تتعمد ذلك. فالمكتشفون والمفكرون عبر تجادلهم, كانوا يوفرون قصصًا للكافة, شائقة وطريفة في كثير من الأحيان, تحمل في طياتها نوعًا من التبشير أو الإيحاء إلى منطق العلم ومناهجه في البحث والتجريب وإقامة الحجة والبرهان. ومن أشهر هذه المناظرات, ما قام به أحد أشهر صائدي الميكروبات (روبرت كوخ) الذي فتح بابًا جديدًا في الطب باكتشافه الرائد عن الميكروبات الدقيقة كمسبب للأمراض المعدية كالكوليرا والجمرة الخبيثة, فبالرغم من أنه لم يكن مجادلاً فذًا, فإن وسائله في الدفاع عن صواب اكتشافه بعرض تجاربه في إحداث العدوى واستزراع الميكروبات وإظهارها تحت المجهر, كانت بمنزلة نوع من التثقيف العلمي عبر العروض العلمية يضطلع بتسجيل وقائعها آخرون من غير العلماء, أي الصحفيون والكتّاب والمراسلون. ولعل هذه تكون أولى المحاولات التي بلورت نوعًا من المحررين, ليسوا علماء, لكنهم يتعقبون تطورات العلم ويحاولون نقل وقائعها واضحة للجمهور, وهو ما يمكن أن نسميه اليوم (المحررين العلميين) الذين يحملون قسطًا كبيرًا من مهمة الثقافة العلمية, لكنهم لا يحملون كامل عبء هذه الثقافة كما سنعرف. فمع تطور حركة العلم وازدياد تعقيد مكتشفات العلوم, صار لزامًا أن يقوم العلماء أنفسهم بتقديم ما يجيدون معرفته للجمهور مباشرة, ودون وسيط, فكتب أينشتاين عن نظرية النسبية التي اكتشفها, ومن بعده طور هذا التقليد آخرون, لعل أشهرهم العالم البريطاني المقعد ذائع الصيت ستيفن هوكنجز, وكتابه الأشهر (تاريخ موجز للزمن), الذي احتل لفترة طويلة رأس قائمة أكثر الكتب مبيعًا في العالم, كما كان هناك العالم الفرنسي كارل ساجان وكتبه الشهيرة المقدمة بلغة مفهومة وشائقة للجمهور في الفيزياء الفلكية والكونيات.

دلالات واستنتاجات

من العرض السابق الموجز, يتضح أن أولى إرهاصات (الثقافة العلمية) جاءت تلبية لمتطلبات شرح المعطيات العلمية الجديدة, وما تقوم عليه من مناهج, للجمهور والنخبة.

لكن ما الدافع إلى ذلك? هل هو مجرد إثبات للذات الجديدة المتمثلة في الحركة العلمية بعلمائها ومعارفهم العلمية والمبتكرات التقنية المؤسسة على هذه المعارف?

إن الأمم أبعد وأعمق من ذلك, وهو ما حدا المفكر البريطاني سي.بي.سنو على طرح الموضوع كإشكالية في الفكر الغربي المعاصر, تمثل شرخًا بين ثقافة العلوم الإنسانية, وضمنها الآداب من ناحية, وثقافة العلوم الطبيعية وفي ثناياها التقنيات الحديثة من الناحية الأخرى, حيث رأى أن هذا الشرخ يمثل خطرًا يهدد رفاهية المجتمع الغربي الحديث, وكان يرى الخطر متمثلاً في تلك القطيعة بين النخبة المثقفة والعلم والعلماء, وهو ما عبر عنه بالرأي القائل: (إن بين المفكرين في مجالات العلوم الإنسانية وبين علماء الطبيعة شكوكًا عميقة متبادلة وسوء فهم, مما يؤدي إلى نتائج وخيمة على مستقبل تطبيق التكنولوجيا), ولم يتوقف سنو عند خطورة هذه القطيعة بين أصحاب ثقافتي العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية, بل مدّ البصر والبصيرة إلى ما هو أخطر, أي القطيعة بين الجمهور, أو المجموع العام للناس في المجتمع, وبين حركة العلم, وكان تعبيره عن ذلك واضحًا: (إن من الخطر أن يكون لدينا ثقافتان لا يمكنهما التواصل فيما بينهما, في الوقت الذي تقرر فيه العلوم الجزء الأكبر من مصيرنا).

ولو أردنا مد خيط هذه الرؤية إلى عالمنا العربي كجزء من العالم المسمى (النامي) أو (ما قبل النامي) فإن الخطورة لا تتوقف عند حدود الازدواجية والشرخ بين المكونات الثقافية في مجتمع واحد مما يضعف كليهما, بل تمتد الخطورة لتهدد وجود مجتمعاتنا العربية ذاته, وبالتحديد وجودها في عالم اليوم الذي تتحدد فيه موازين القوة والمنعة والتأثير لدى المجتمعات, بحجم ما تملكه من ثروة وقوة مصدرهما الرئيس هو التقدم العلمي, وكل ما يلحق به. ودون مشاركة فعّالة في عالم اليوم, عالم العلم والتكنولوجيا, يكون الاعتماد على الثروات الطبيعية الناضبة, والإنتاج التقليدي لزراعة متخلفة وصناعة مستهلكة مضى زمانها, يجعلنا عرضة للجمود التنموي والتهديد المستقبلي بالإفلاس. وأنا هنا أحيل قارئي العزيز للمقارنة بيننا وبين الدولة العبرية (إسرائيل), فهي بمقاييس العلم والإنتاج العلمي تعتبر في مصاف الدول الصناعية الكبرى, وسوف نعتمد نحن على الغير للوفاء بمتطلباتنا العادية في عالم اليوم, وليس مثال استيراد العرب لسجادة الصلاة والدشداشة (الجلباب) ولعب الأطفال مفارقة تحتمل المزاح, بل هي مأساة تستحق كل الجدية في الوقوف أمامها وإعمال النظر فيها, لتدبر حاضرنا وتلمس مستقبلنا.

تأثيرات معنوية

يرى د.حسن حنفي أستاذ الفلسفة الإسلامية في دراسة نشرها عام 1970 (أننا لا نعاني من طغيان الآلة على الإنسان, بل من غياب الآلة, ومن استمرار العقلية اليدوية, ومن تأخر عقلية التصنيع في الظهور, فالهجوم على الآلة الآن ليس له أي مبرر...), ولم يكن هذا مجرد قول لأستاذ الفلسفة المتخصص, بل كان صرخة عمرها الآن أكثر من ثلاثة عقود, وهي لاتزال صالحة للانطلاق, بل مطلوبة. لقد عبر (سنو) عن خوفه من قطيعة الجمهور والنخبة مع حركة العلم, واعتبر هذه القطيعة خطرًا يهدد رفاهية المجتمع الغربي الحديث, لأن استمرار هذه القطيعة يحرم العلم من مناخ الرعاية الذي تكفله حلقات متداخلة من الجمهور والنخبة المتفهمين لأهمية العلم ومخرجاته, ومن ثم تشكيل رأي عام يتقبل أوضاعًا خاصة لرعاية العلم ويشكل ضغوطًا على متخذ القرار لتأكيد وتفعيل هذه الرعاية.

هذا الجانب من لفت الانتباه إلى أهمية فهم العلم, وتفهم حركته وقوانينه, أي الثقافة العلمية في إطار تأثيرها العام, إنما ينصب على العائد المادي من هذه الثقافة, ونحن أحوج ما نكون إلى هذا الجانب. لكن ثمة جانبًا معنويًا قد تكون صرخة د.حنفي منذ خمسة وثلاثين عامًا قد أشارت إليه, وهو الجانب المتعلق بتغيير أنماط التفكير بما يتلاءم مع العصر. فكثير من مآسينا العربية الذاتية المنتجة للتخلف والناتجة عنه, إنما مرجعها إلى الركون إلى أنماط من التفكير تجاوزها الزمن. ومن المؤكد أن منهج التفكير العلمي إذا تجذر في وجدان وعقول الجمهور, أو مجمل الناس, سيجعل النظر إلى مجريات الأمور أكثر اتساقًا مع متطلبات اللحظة, وسوية المنطق. فالثقافة العلمية هي أقرب ما تكون إلى فلسفة العلم منها إلى المعلومات العلمية, والمقصود بالفلسفة هنا - على حد تعبير د.أسامة الخولي - (فعل التفكير الناقد والتساؤل الواعي اليقظ على كل المستويات).وهكذا فإن الثقافة العلمية تؤكد المنهج العلمي بالمعنى الرحب والواسع لتعبير المنهج, وليس مجرد التجريب والإحصاء, وهي مرتبطة أشد الارتباط بكل من التفكير النقدي والوعي الموضوعي.

وتحقيق هذا الوعي يحتاج إلى أبجدية علمية, أي معلومات, وطريقة تفكير, أي التفكير النقدي, وموقف الحياة, أي فلسفة وجود. ولست أعني فلسفة وجود كونية لدى الكائن البشري, فهذه مناطها الروح ومحددها هو الدين والأديان السماوية كافة, بل المقصود فلسفة وجود في إطار حدود العيش في العصر, زمانًا ومكانًا, أي في الإطار المعيش الاجتماعي والتعايش مع المحيط البيئي على ظهر الأرض.

لقد سردنا جدل الثقافة العلمية في العرض السابق لمحاولات حركة العلم تقديم تجلياتها للنخبة, وللجمهور في الغرب, مما يمكن تسميته دون تردد كثير بـ(الثقافة العلمية), لكن الأمر لدينا لايزال موضع جدل ومناط حيرة, وهو أمر طبيعي مادمنا غير منتجين لجديد في العلم والتقنية - في المحصلة العامة - ومن ثم ليس لدينا حركة علم تقدم نفسها لمحيطها من النخبة والجمهور, بل شذرات علمية وجزر معزولة - مهاجرة - تحاول تجسير الهوة بين ما نحن فيه وما وصل إليه غيرنا. وثمة حوارات ومجادلات عديدة في عالمنا العربي دارت, وتدور, حول مفهوم الثقافة العلمية, كان أطولها وأكثرها تواصلاً ذلك الحوار الذي دار على صفحات الأهرام المصرية في الشهور الأربعة الأخيرة من عام 1996م وشارك فيه مجموعة من علماء وأطباء وجامعيين ومهتمين بفلسفة العلم من كليات الآداب, وكان أبرز ثمار ذلك الحوار:

  • أن نشر الحقائق العلمية المبسطة ليس هو الهدف النهائي للثقافة العلمية, فالثقافة بمعناها الواسع هي محصلة العلوم والمعارف والفنون التي يسترشد بها الإنسان لاتخاذ مواقفه وطريقة حياته, ومن أهم أهداف الثقافة العلمية أن يتخذ الإنسان لنفسه الطريق أو المنهج العلمي لحل مشاكله في حياته اليومية. ويعني هذا أن يواكب تبسيط العلوم تفسير المنهج الذي يتناول العلماء من خلاله مشاكلهم العلمية, وكيف يصلون إلى حلها. والثقافة العلمية تتيح لغير المتخصص فرصة الإلمام بالمنهج العلمي الذي لا غنى عنه لتقدم أي مجتمع, لا في حل المشاكل العلمية وإنما لحل مشاكل الحياة العملية اليومية.
  • الثقافة العلمية تخصص إعلامي يقتضي إذا أريد له أن يتحقق بكفاءة تناسب احتياجات المجتمع أن تهتم به كليات ومعاهد الإعلام في البلاد العربية حتي تصنع لنا أجيالاً من المحررين العلميين القادرين على نقل الرسالة وشرح المضمون بدقة, بعيدًا عن التهويل أو التهوين لخديعة القارئ.
  • ربما يتولى نشر الثقافة العلمية العالم المتخصص - الذي لديه ملكة الكتابة والقدرة على الإيضاح - وهو الأكثر دراية من غيره بدقائق العلم والقادر على تبسيطه دون تحريف أو قصور. وثمة كتب معروفة وواسعة الانتشار على مر عدة عقود بل وقرون, لعلماء قاموا بمهمة التثقيف العلمي للجمهور, من أمثال بويل وباسكال, وحتى أينشتاين وكريك وهوكنجز.
  • الدعوة إلى (الاستيعاب الفلسفي) لمنجزات الحضارة الغربية - والدول الآخذة بأدوات التقدم العلمي في الشرق - لا لاستهلاك منتجاتها, بل فض أسرارها مما يتيح لنا إنتاج معرفة تتلاءم مع العصر ولا تتنافر مع خصوصيتنا الثقافية.

ولن يكون لنا منهج في التفكير حتى تكون لنا الرغبة الصادقة في أن نخوض ونفتش في العقلية التي تنتج المعرفة العلمية.

  • الثقافة العلمية منظومة صغرى داخل المنظومة الثقافية العامة, التي هي جزء من حياة المجتمع ككل. وهذه المنظومة الصغرى تتضمن تبسيط العلوم والإعلام العلمي والنشر العلمي والرحلات العلمية والقيم العلمية وأدب الخيال العلمي أيضًا.
  • اقتراب الإنسان العادي من الاعتبارات والمفاهيم التي تتضمنها الثقافة العلمية كالمنهج والتساؤل والموضوعية والنزاهة والملاحظة العلمية والفروض النظرية, يتأثر إلى حد كبير بمسار المجتمع من حوله. ووجود ثقافة الانضباط وانتشارها ينمي إدراك الحاجة للثقافة العلمية, وفي ازدهار الثقافة العلمية تنشط توجهات وآليات ثقافة التقدم.

ولعل كل ما سبق يكون مجرد إشارة سريعة تؤكد على أن الثقافة العلمية ليست مجرد ترف فكري لنخبة, بل هي ضرورة عصر وأداة تغيير حتمية للأفضل, دون تنازل عن خصوصية وهوية عربيتين نعتز بهما جذورًا, ونمدهما فروعًا تثري تنوع الثقافات في العالم. وليس في الأمر أي تناقض, وليس ببعيد عنا, في الشرق, نماذج اليابان والصين وكوريا, وماليزيا مهاتير محمد المسلمة, والتي تعرضت للحديث عنها في مقالات سابقة في (العربي).

 

سليمان إبراهيم العسكري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات