أرقام

حين يختفى البحر

البيئة والتنمية معضلة أثارت انتباه الإنسان في الآونة الأخيرة، فقد لاحظ العلماء والباحثون أن الحاجة المتزايدة للتنمية والتقدم قد صاحبها- في الوقت نفسه- اعتداء مستمر على البيئة.

وسواء كان النشاط صناعيا أو زراعيا، متعلقا بالطاقة أو استخراج المعادن المختلفة في البر أو في البحر أو في الجو أيا كان نوع النشاط فإنه- بدرجة أو بأخرى- يزك أثرا في البيئة المحيطة به.

في التقرير الأخير عن (التنمية في العالم) والذي أصدره البنك الدولي إشارة لسبعة أنواع من المشاكل البيئية تتعلق بالماء والهواء والمناخ والتربة والنفايات وإزالة الغابات والتنوع الحيوي في العالم. وفي التفاصيل يتضح أن الغازات المنبعثة من الأرض والتي تؤثر على طبقة الأوزون تصل في النهاية إلى إصابة 300 ألف حالة سرطان في الجلد كل عام، كما تصل إلى إصابة 1,7 مليون نسمة سنويا بإعتام في عدسة العين، وذلك غير ما يسببه تلوث الهواء بسبب المواد التي تعلق به وتتسبب في الوفاة المبكرة لأعداد تتراوح بين 300- 700 ألف نسمة كل عام، كما أنها تقف وراء إصابة نصف الأطفال الذين يموتون بالسعال المزمن. وتتفاوت درجة التأثير لتصل في دائرتها الواسعة- وبسبب تلوث الهواء فقط - إلى أعداد تراوح بين 400 - 700 مليون شخص معظمهم ممن يعيشون في الريف. والأمثلة بعد ذلك كثيرة وإن ابتعد البعض منها عن الأضواء، مثلما يحدث في عالم البحار.

البحر يختفي

هل يمكن أن يختفي البحر؟

ذلك ما يشير إليه التقرير نفسه وهو يجيب: "نعم.. وبسبب تغيرات خطيرة في البيئة" ثم يضرب مثلا محددا.

يقول البنك الدولي "إن بحر آرال يحتضر"، ويضيف إن ذلك قد حدث خلال ثلاثين عامًا فقط، والنتيجة بالأرقام، وإذا استمرت الاتجاهات الحالية دون كبح جماحها، فإن البحر سوف ينكمش ويصبح بحيرة مالحة حجمها سدس حجم البحر في عام 1960.

إنه بحر مغلق في آسيا الوسطى، لذا وبينما يصفه تقرير البنك الدولي بأنه يتحول إلى بحيرة، فإن الموسوعة التطبيقية (سويسرا) تصفه بأنه بحيرة شاسعة الأطراف تبلغ مساحتها 67 ألف كيلو متر مربع وبما يجعلها أكبر بحيرات آسيا.

وبصرف النظر عن الوصفين: بحر وبحيرة، فإننا أمام ظاهرة انكماش سريع حدث خلال أعوام قليلة ، ولأسباب بيئية هي تقدم الزراعة والحياة الإنسانية بما جعلها تستنفد معظم مياه النهرين اللذين يصبان في آرال.

في هذا المجال نلاحظ أننا أمام نهرين كبيرين: "سيرداريا " ويبلغ طوله 2450 كيلو مترا و "أموداريا" وطوله 2394 كيلو مترا. ويمر النهران بجمهوريات آسيا الوسطى: أوزبكستان وطاجيكستان وتركمنستان وكازاخستان وقرغيزستان. وقد شهدت هذه الجمهوريات- والتي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي - مشروعات ري ضخمة، وعرفت هذه البلدان محاصيل القطن والعنب والفاكهة والخضر التي تكفي سكان حوض آرال البالغ عددهم خمسين مليونا، ثم تفيض كميات للتصدير.

وبسبب الثروة الزراعية التي شهدتها هذه المنطقة ارتفع الناتج القومي، وتحسن مستوى المعيشة، ولكن وفي الوقت نفسه قد حدثت تحولات بيئية ضخمة.

لقد انخفض حجم البحر بمقدار الثلثين، وأصبحت المياه القليلة في البحر وفي خزانات المياه الجوفية المحيطة به متزايدة الملوحة، كما أصبحت هناك مساحات شاسعة من المسطحات التي كانت مائية فأصبحت أرضا ملحية مكشوفة، وامتد ذلك للتربة المجاورة فأكلها الملح، في الوقت الذي تحولت فيه المراعي- وبسبب الإفراط في الري- إلى مستنقعات تجلب الأمراض.

الآن تواجه جمهوريات آسيا الوسطى تغيرين في وقت واحد، تغيرًا، سياسيًا واقتصاديا ناتجا عن تفكك الاتحاد السوفييتي، وتغيرًا، بيئيا ناتجا عن انحسار البحر وامتداد الملوحة وزيادة تلوث المياه. والتغييران يعكسان نفسيهما على الحالة الاقتصادية، وبينما يأتي تأثير التغير البيئي تدريجيا، فإن تأثير التغير السياسي سوف يظهر فورًا حيث توقفت التحويلات الواردة من الحكومة المركزية في موسكو، والتي كانت تمثل 20% من الدخل القومي في طاجيكستان وقرغيزستان و 12 % من الدخل في أوزبكستان. إنه تحد مزدوج، ومفتاحه حل تلك المعضلة التي جعلت التنمية الاقتصادية معادية للبيئة وجعلت البيئة المتدهورة قيدًا على التنمية وصحة الاقتصاد وصحة البشر.

حلول تكنولوجية

والتوفيق بين قضيتي التنمية والبيئة، أو حياة الإنسان الآن وفي المستقبل، أمر مطروح في مختلف البلدان ، وقد تنبهت الدول الأكثر تقدما لهذا الخطر في وقت مبكر، فأنفقت المؤسسات الكبرى في اليابان 900 مليارين سنويا، في السبعينيات، ثم انخفضت إلى 400 مليارين عام 1980، وذلك لمحاربة التلوث. وبالفعل قل تولد الكبريت في الجو بنسبة 83% وأول أكسيد الكربون بنسبة 60%، وساند ذلك التحسن وجود قوانين ومؤسسات للحد من تلوث الماء والهواء.

هنا ندرك أن المشكلة تبدأ بالتكنولوجيا التي زادت من استخدام الإنسان لمواد تضر بالبيئة، لكنها- وفي الوقت نفسه- تنتهي بحلول تكنولوجية أخرى تقدم أساليب إنتاج أو أنواع مواد ووقود تقلل الضرر وتعيد كل شيء إلى مجراه الطبيعي.

في حالة حوض بحر آرال ينطبق الشيء نفسه، وإن كان في مجال محدد هو الزراعة. وأحد الحلول تطوير وسائل الري تكنولوجيا لتستخدم ماء أقل، وتسمح بمرور مياه أكثر من الأنهار إلى البحر، فتغسل الملح وتملأ الوعاء الذي كاد ينضب.

حل آخر يطرحه الخبراء وهو: تطوير الاقتصاديات بعيدًا عن الزراعة المروية، وهو حل صعب لمناطق عاشت طويلا معتمدة على الزراعة وعلى الري.

في كل الأحوال فإنه لا مفر من إحداث ذلك التزاوج الضروري بين التنمية المطردة والبيئة الحسنة. إنها المعادلة الصعبة، لكنها المعادلة الضرورية، فبديلها: بحار تختفي، وبحيرات تنحسر وأنهار تجف، وأجواء تنفث السموم وتنشر الأمراض. إنه البديل الذي يضر بالتنمية، وكأننا لم نفعل شيئا.